الرئيسية / اكاديميا / الرواية: من مواجهة المستبد إلى إنتاج الاستبداد

الرواية: من مواجهة المستبد إلى إنتاج الاستبداد

بن علي لونيس

 

 

 

 

هل بمقدور الرواية التأثير على حياة الإنسان؟ سؤال كلاسيكي، إلاّ أنّه راهني، طالما أنّ هذا الفن مازال يقتحم التاريخ بكلّ جسارة.

الذين يطرحون هذا السؤال، يحاولون توريط الرواية في حالة من اللافعالية. أي أنّ الرواية هي مجرد فن للتسلية، وأنّ قراءة رواية قد تكون مجرد هواية يمارسها من يملكون فائضا من الوقت. لكن هل الرواية، كتابة وقراءة، هي بالفعل تسلية برجوازية؟

صحيح أنّ الرواية، كما وصّفها الناقد الهنغاري جورج لوكاتش، هي ملحمة برجوازية، إلاّ أنّ بطل هذه الملحمة هو شخصية تحمل همّ سؤال الحياة. بطل نحتته معضلات الوجود، بعد أن تمزّقت ستارة الخرافة، فأصبح العالم شفافا على غير عادته، مرئيا بشكل فاضح.

وبحكم ايغال الرواية في المعضلات، بهدف تحريك مياه الوعي في الإنسان الحديث، أصبحت الفن الخطير الذي يهدد المنظومات جميعها؛ فالرواية هي ابنة المجتمع الحر، وابنة الديموقراطية، فلا يمكن لها أن تكون إلا ضمن مناخ الحرية، أو هي على الأقل الفن الذي يطالب بالحرية. إنّ سمة هذا الفن، أنه منح الصوت للفردي، منذ أن أطلق سيرفاتيس صيحته المدوية: ” أنا خلقت الدون كيشوت، ودون كيشوت خُلق لي “. لقد محت الرواية الحدود الثابتة بين الخير والشر، بين السماوي والأرضي، بين الروحي والجسدي، بين المثالي والمبتذل.

الرواية وإعادة تأهيل الإنسان

كل هذا يجعل الرواية محط ريبة من قبل المؤسسات؛ هذا ما يجعلها تضرب حصارا شديدا عليها؛ ففي رواية [ بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة ] للروائي الصيني المعاصر داي سيجي، تبرز على نحو ذكي هذه العلاقة المريبة بين النظام الشمولي الديكتاتوري والرواية، حتّى أنّ قراءة الرواية، في ظل الديكتاتورية،هي فعل مخل بالأمن القومي، يستحق مقترفها التعرّض لأقسى العقوبات.

تدور أحداث الرواية في فترة حكم الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ، وهي الفترة التي تميزت بسياسة الانغلاق على العالم الخارجي، ومعاداة الثقافات الأجنبية، و فرض حصار شديد على النخب المثقفة، وهي الفترة التاريخية التي طبّق فيها ماو ثورته الثقافية التي قامت على ارسال النخب إلى الجبال والأرياف لأجل إعادة تأهيلها من طرف المزارعين والقرويين الأميين.

“إنّ ماو يكره المثقفين”، هذه جملة أساسية وردت على لسان السراد في الرواية، وهي أساسية لأنها فككت علاقة السلطة الشمولية بالثقافة وبالمثقفين، ورواية داي سيجي عادت إلى فترة حكم ماو تسي تونغ، لأجل فضح سياسته المعادية للنخب المثقفة، حيث عمد إلى إرسال المثقفين إلى الجبال وإلى القرى لأجل إعادة تأهيلهم، كما لو أنّ الثقافة والعلوم والآداب هي مدمرة للإنسان، وأنّ الأصل هي الأرض، والعمل اليدوي.

لقد كانت فترة حكمه أكبر فترة لمصادرة الثقافة، والآداب والفنون. لقد أصبحت الثقافة مجرد دجل، ومجرد طريق إلى تدمير الإنسان.

كان من الصعب اعتبارنا مثقفين، من دون جريرة الدجل، خصصا وأن المعارف التي حصلنا عليها في المدرسة الإعدادية ليست ذات قيمة تذكر: فبين سن الثانية عشرة والرابعة عشرة انتظرنا أن تهدأ الثرة تعود مدرستنا إلى فتح أبوابها. لكن، ما إن عدنا إليها، في خاتمة المطاف، حتى غمرتنا الخيبة والمرارة: فقد ألغيت دروس الرياضيات، وكذلك دروس الفيزياء والكيمياء، وباتت المعارف الأساسيةتقتصر على الصناعة والزراعة. وكنا نرى على أغلفة كتب التدريس، صورة عامل يعتمر قبعة، ويشهر مطرقة كبيرة، بساعدين لا يقلان ضخامة عن ساعدي الممثل ستالوني. وبجانبه تقف امرأة شيوعية متنكرة في زي فلاحة، وعلى رأسها منديل أحمر“.[1]

لقد ألغى ماو دروس الرياضيات والفيزياء والآداب الغربية التي صارت ممنوعة، بل أقام في كل مكان محارق لحرق الكتب، أما عن المقررات الدراسية فهي مقتصرة على الصناعة والزراعة، والخطابات الأيديولوجية الطويلة لماو.

نفهم بأنّ الكتب، والمعرفة، والآداب، والفنون… هي مضادات حيوية ضد مرض الديكتاتورية، لهذا كان تاريخ الديكتاتورية حافلا بمحارق الكتب والفن.

أسنان الديكتاتور:

كان والدا السارد طبيبين، وكانت سلطتهماالعلمية في نظر النظام مجرد سلطة علمية عفنة. إنهما وأمثالهما يشكلان خطرا على أيديولوجيا النظام الشمولي. وفي المقابل أمعنت الرواية في تصوير التخلف الذي كان يعاني منه سكان القرى، حتى أن مداواة أمراض الجسد كانت تتم من خلال طقوس روحانية غريبة.

 أما والد ليو، صديق السارد، فهو طبيب أسنان، وهو في نظر النظام فهو رجل خطير، والسبب أنه أفشى سرا خطيرا؛ لقد أعلن والده أنه من أصلح أسنان ماو. أي أنه كشف للعلن عن حقيقة أسنان الزعيم الأعظم الذي فقد أسنانه الطبيعية واستبدلها بطاقم اصطناعي. ما قام به هذا الطبيب هو جريمة دولة، لا تقل خطورة عن إفشاء أسرار خطيرة تهدد الأمن القومي.

نفهم أنّ ما يرعب النظام هو الحديث عن الزعماء بصفتهم كائنات بشرية قد تفقد أسنانها كأي إنسان آخر. وما قام به الطبيب أنه أنزل ماو من تعاليه المقدس، وأظهره في صورة عجوز بلا أسنان. الخبر في ذاته يمثل تهديدا صريحا لأمن الدولة.

يكتشف بطل الرواية التأثير السحري للرواية على حياته؛ فقد كشفت له عن زيف الثرثرات الثورية حول الوطنية وخطب الزعيم الأعظم، وهي نصوص بمثابة أسوار عالية تحجب النظر إلى الحياة، في حين اكتشف في روايات بالزاك ذلك الإحساس الغريب بالحياة. بالغرائز، بالجسد، بحركة الحياة وحيويتها.

للرواية يد لامرئية لها القدرة على تغيير المصائر، والأفكار، وزحزحة القناعات القديمة ..فوظيفة الرواية هي تقشير الجلد القديم، لينمو فوقه جلد جديد، ورؤية جديدة، ومعنى جديد.

 في الرواية، قام السارد بنسخ فقرات من رواية بالزاك على سترته الجلدية، وهو المكان الوحيد الذي يمكن أن يخفي فيه جريمة القراءة، قراءة رواية غربية تحديدا. ما معنى أن تلبس سترة نسخ عليها كلمات من رواية؟ يعني احتكاك الكلمات بالجسد، وهو أكثر التجارب إثارة، والتي تبين إلى أي مدى يمكن للكلمات أن تتوحد مع الأجساد، لتغدو هذه الأخيرة مساحات لها.

كان مفعول قراءة الرواية هو اكتساب الوعي بماهية الصراع بين الفرد والعالم؛ إنه ذلك الوعي الشقي الذي يتفجر كصدمة الخروج من شرنقة الرؤية الشمولية التي تشكل في داخلها وعي شخصيات الرواية. لقد عاشت تحت مظلة أيديولوجيا الزعيم، وهي ايديولوجيا تنفي أي صراع بين الأفراد والعالم، الفرد منسجم مع العالم ومع نفسه، إنه ظل للرؤية الشمولية للزعيم الأعظم. ما يهم في الرواية أن تجربة القراءة هي تجربة تحول جذرية، فلا يعود القارئ الشخص نفسه قبل فراغه من قراءة الرواية. يبقى السؤال: هل كل رواية تحمل هذا المفعول؟

الرواية المتطرفة:

كثيراُ ما ننسى أنّ الرواية قد تخون وصاياها، لتنقلب على مبادئها، وتغدو هي بالذات منتِجة للتعصّب، ومنتجة لثقافة الاقصاء ومصادرة حقوق الآخرين. الرواية الكولونيالية إحدى أكبر النماذج التي يمكن تصنيفها في خانة الرواية المتعصبة؛ فهي الصوت العميق للايديولوجيا الاستعمارية، بل، كانت ومازالت تشكّل أداة رمزية لتكريس هيمنة الرجل الأبيض، على حساب الرجال الملونين الذين ينتمون إلى ثقافات الأطراف. واليوم، يمكن أن نقرأ الرواية المؤدلجة التي تستعيد أفكار التيارات العنصرية والمتعصبة، ففي أوروبا، هناك الكثير من الروايات التي تخندقت خلف أيديولوجيا اليمين المتطرف، فعبّرت عن أفكارها الاقصائية، ومعاداتها لكل ما له صلة بالإسلام والمسلمين.

رواية ” الاستسلام ” للروائي الفرنسي “ميشيل ويلبيك مثال مهمل لهذا النوع من الرواية المتطرفة، فهي انبنت على فكرة أنّ الإسلام هو الخطر الذي يهدد النسيج الثقافي لأوروبا، وأنّ ازدياد عدد المسلمين في فرنسا تحديدا سيحوّل البلد إلى أفغانستان أوروبية.

وضمن هذا الجو المشحون بالعداء اتجاه الإسلام والمسلمين، بنى ويلبيك روايته على رؤية مستقبلية سوداء، ولسان حال بطل روايته الأستاذ الجامعي أنّ فرنسا مقبلة على حرب أهلية، وأنّ الخلاص من الوجود الإسلامي في البقاع الفرنسية لن يكون إلا باللجوء إلى الخيارات العنيفة.

لقد استثمر ويلبيك الصورة الإعلامية لتجذير حالة الرعب من الإسلام، من خلال تركيزه على صور الملثمين المدججين بالأسلحة والذين تم تصويرهم باحترافية عالية، وهو يحيل إلى المشاهد التي صورتها داعش وروجت لها.

وبالنسبة لويلبيك، فهؤلاء هم الإسلام وأكبر من يمثّله، وبذلك لابد من الخوف من هذه الديانة السوداء القادمة من شرق مفتت، لأجل نشر الموت في أوربا.

هل تؤمن حقيقة أننا في مأمن؟” ( ص 79)

هذا هو السؤال الجوهري بالنسبة للرواية. إنها ترمي ببذور الخوف في نفوس القرّاء، كما لو أنّها تنبههم فجأة إلى هذه الحقيقة المريعة: هل أوروبا في مأمن من الإسلام؟

تحدثت الرواية عن حزب إسلامي هو حزب الأخوة الإسلامية والذي سيجتاح الانتخابات الرئاسية بفرنسا، وسيكون لفرنسا أول رئيس مسلم. فهذا السيناريو هو بالنسبة لويلبيك، الكابوس الحقيقي الذي يرعب فرنسا. من يكون هذا الحزب؟ إنه حزب بلا أولويات اقتصادية، بل أنّ مشروعه الأساسي هو تحقيق انفجار ديموغرافي إسلامي في فرنسا، ثم تأتي من الدرجة الثانية مسألة التربية. إذ من خلال التشجيع على الولادات يمكن تمرير القيم الإسلامية إلى الأجيال الجديدة، وعلى حد تعبير السارد في الرواية، فالمستقبل هو بين يدي من يتحكّم في الأطفال ( ص 82 ) إنّ أطفال المسلمين هم القنبلة التي ستنفجر على فرنسا في المستقبل.

إنّ هذا النوع من الروايات ينتج قيما متعصبة ومواقفا متشددة إزاء الإسلام والمسلمين، وليس غريبا أنّ رواية “الاستسلام” قد تزامن صدورها مع أحداث شارلي ايبدو، التي أسفرت عن مقتل عدد من صحفيي الجريدة الساخرة، وقد رفعت تلك الحادثة من أسهم الرواية، كما لو أنّها كانت بمثابة الدليل الواقعي عن المخاوف التي أطلقها ويلبيك في روايته.

إنّ الرواية المتطرفة كما مثّلتها رواية الاستسلام  هي الرواية التي أطلقت وحوش صندوق باندورا الخرافي، وهي المخاوف التي أصبحت عاملا دعائيا مهما في سياسة اليمين المتطرف؛ فالسياسة في حاجة إلى هذا الرعب، بل إنه رعب ضروري يحيي في النفوس غريزة الكراهية والعداء اتجاه ما هو أجنبي ودخيل.

تكمن وظيفة الرواية، ههنا، في التأثير على الرأي العام، و فيتجييش المشاعر القومية، والدعوة إلى الاحتماء بالهوية النقية، والذود عنها من أي دخيل من شأنه تهديد جوهرها.فويلبيك انطلق في التأسيس لروايته من الفكرة الجوهرانية عن الهوية، ومن الاحكام المسبقة عن الآخر، مدعما رؤيته التخييلية بما تتناقله وسائل الاعلام من أخبار و صور نمطية عن الإسلام والمسلمين، والواضح أن ويلبيك مازال يظن أنّ بن لادن هو نبي المسلمين الجديد.

إنّ بين رواية بالزاك والخياطة الصينية الصغيرة ورواية الاستسلام فرق في وظيفة الرواية؛ فالأولى تبدو فيها الرواية فنا مقاوما للديكتاتورية، وفي الثانية مجرد وسيلة دعائية لخطاب أيديولوجي من طبيعة عنصرية، وفي كلتي الحالتين، تبرز خطورة الرواية، وأهميتها في الوقت نفسه.

[1])- الرواية، ص14 -15.