الرئيسية / الرئيسية / مات مرزاق بقطاش، فما معنى أن نكتب الآن عنه !

مات مرزاق بقطاش، فما معنى أن نكتب الآن عنه !

د. عبد الله العشي
لماذا أجلنا الكتابة عنه إلى اليوم؟ هل كان الموت أقوى من الحياة كي نستعيد بعض وعينا الغائب، ألم يكن بقطاش بيننا كاتبا كبيرا في حياته، سنكتب عنه قليلا بعض الكتابات الباكية، التي قد تضمر، في أحسن الحالات شعورا بالندم، ثم ننساه غدا، كما تعودنا أن نفعل دائما، ليتنا بكينا أنفسنا ووعينا الغائب!
قدم بقطاش المعنى الحقيقي لمفهوم الكاتب الوطني، تعايش بشكل مثالي مع مالم يتمكن الآخرون من التعايش معه، وحول كل التناقضات المحيطة به الى ثراء فكري بلا تنتاقضات، مع الإسلام والحداثة، مع الأمازيغية والعربية، مع المحلية والكونية، مع السياسة والثقافة، مع هذه اللغة وسائر اللغات الأخرى. ومن كل ذلك خرج بمفهوم الكتابة الوطنية، وكرس لها مشروعه الأدبي، انشغل بواقعه ولم يغره الذيوع كما أغرى سواه، ولم ينشغل كثيرا بالصرعات الحداثية رغم علاقته الحميمية بها وبلغاتها ، كان همه أن يبوح بلسانه عن حاله وأحوال وطنه لا بألسنه غيره.
ألأجل هذا لم يحتل موقعه اللازم؟!
بقطاش ليس مجرد أديب ضمن مجموع من الأدباء، بل هو، أيضا، منعطف أدبي هام في الأدب الجزائري؛ مهد للقصة في بداية الاستقلال وأسس لها مع آخرين بعد ذلك، وكان من أفضل كتاب المقالات ، وسلسلة “أبجديات” شاهد على ذلك، وكان ينبغي أن يقرأ بهذا المعنى التاريخي الذي يمنحه الريادة والسبق، لكن ثقافتنا لا يوجهها في القراءة هذا المعنى، لا بد من استعادة الحس التاريخي وتحكيمها والاحتكام إليه، فالنسيان أجل اشتغال ذاكرتنا، والذاكرة التي تفتقر إلى التاريخ لا يمكنها أن تكون ذاكرة ثقافية.
كم من مثقف مهمل! لأننا تصرفنا مثل سعاة البريد، نكتفي بنقل الرسائل الثقافية من مرسل إلى مرسل إليه، من مرسل أوروبي إلى مرسل إليه مشرقي ، دون أن نكلف أنفسنا بكتابة رسالة خاصة، أستثني قليلا من الكتاب الذين صرفوا مجمل جهودهم للأدب الجزائري القديم والحديث ، ولكن الاستثناء يؤكد القاعدة. كم من بحث أكاديي أو غير أكاديمي كان ينبغي أن يكون أدب بقطاش وفكره موضوعا له، لكن وعيا قاصرا مستلبا أزاحه وأحل محله سواه، بهذه الرؤية لن نتمكن من الحفاظ على كينونتنا، ووجودنا الثقافي معرض للنسيان والزوال.
الفهم العنيف للقطيعة غيب كثيرا من تجاربنا الثقافية الحية، القطيعة الجذرية القائمة على الإلغاء والمحو دونما رؤية ولا روية، القطائع المتوالية التي تتجدد كل عقد أو أقل لم تسمح للتجارب المختلفة أن تتأكد واقعيا، وكان للتحولات السياسية دورها السلبي في الدفع بهذه القطائع نحو منتهاها للإجهاز على ما سبق، ليت الثقافة تمكنت من التحرر من هيمنة السلطة وتشكلت باستقلال عنها ، واكتفت بالإنصات لما هو ثابت في حركة الإنسان والتاريخ، مثل هذه القطائع المتواصلة كانت السبب في تغييب كثير من الأسماء والتجارب والأفكار المؤهلة للحياة والقابلة للتطور، وكان يمكن أن تصبح أكثر حداثة مما يتداول أنه حداثي.
ينبغي ألا يكون موت كاتب مدعاة للشعور بالتقصير في حقه وفي حق أدبه فقط، بل ينبغي أن يكون وقفة متأملة في أسباب ذلك الشعور الذي يأتي دائما متأخرا، وفي الوقت غير المناسب، المفروض أن يكون مدخلا عمليا للعودة إلى ثقافتنا ، دراسة وتدريسا وتعريفا وترويجا وإبداعا، لا أن يكون موتا آخر للثقافة.
لم يراهن بقطاش على العبور السريع نحو الحداثة ومطالبها الشكلية والموضوعية ، بل انشغل بشكل جذري فيما هو محلي وبسيط وعادي، وبالتالي فيما هو وطني، وتؤكد العناوين التي اختارها لرواياته مدى الخصوصية والمحلي: عزوز الكابران، خويا دحمان، وقد ساءه أن يكون العبور نحن الموضوعات المستحدثة على حساب الموضوع المركزي الذي كان ينبغي أن يكون هو الأول للرواية الجزائرية بعد الاستقلال، وهو الثورة الجزائرية التي لم يتم الاهتمام بها روائيا كما يجب، على الرغم من الإمكانات الكبيرة التي تتيحها للروائيين والكتاب.
مات بقطاش، وترك حسرة ثقافية كبرى..