الرئيسية / الرئيسية / سفير العراق في الجزائر: تحدى “حزب فرنسا “وأربك الهواري بومدين

سفير العراق في الجزائر: تحدى “حزب فرنسا “وأربك الهواري بومدين

د.محمد نور الدين جباب

جباب

في التسعين ونحن متوجهون في مسيرة كبيرة انطلقت من ساحة أول ماي نحو السفارة الأمريكية التي كانت تحشد القوات لغزو العراق.
من ضمن الوجوه الكثيرة والمختلفة لاحظت المخرج الجزائري الأخضر حامينا الذي لم أكن اتوقع حضوره المسيرة المنددة بالإمبريالية الأمريكية لأن الرجل كان في تلك الفترة يقيم بالولايات المتحدة الأمريكية وله مصالح وارتباطات هناك.
لم يكتف المخرج الجزائري حامينا بتسجيل حضوره الرمزي بل كان في طليعة المسيرة ويردد بقوة الشعارات المعادية لأمريكا وظل على ذلك الموقف حتى وهو بالقرب من السفارة الأمريكية.
وهو على ذلك الحال وكنت قريبا منه ولأنه شخصية معروفة تقدمت منه مذيعة التليفزيون الجزائري وسألته عن المسيرة المساندة للشعب العراقي. من ضمن الجمل التي لازلت أذكرها قوله “إن ما نقوم به نحن الجزائريين تجاه الشعب العراقي هو جزء صغير ولا يساوي ما قام به الشعب العراقي اثناء الثورة الجزائرية وهذه المسيرة لكي نقول للشعب العراقي اننا نحن الجزائريين لم ننس مواقفه تجاه ثورتنا” .
موقف الشعب العراقي تجاه الثورة الجزائرية ليس في حاجة للتذكير بخاصة موقف الرئيس عبد الكريم قاسم الذي طالب في اجتماع مجلس الوزراء أثناء مناقشة الميزانية السنوية أن تقسَّم الميزانية إلى نصفين نصفها للثورة الجزائرية ونصفها للشعب العراقي .
بعد الاستقلال كانت البعثات العلمية العراقية إلى الجزائر من اكفأ البعثات وجميعهم في التخصصات العلمية. لقد جاءوا ليس من أجل الاسترزاق إنما لمساعدة الشعب الجزائري لأن العراق بلد غني وغني جدا حتى ان أفراد البعثات العراقية كانوا يحتفظون برواتبهم في العراق وهم في بعثة خارج العراق .
من لا يعرف “عبد الأمير الحبيب” يجهل تماما الحركة الثقافية والفكرية في جزائر السبعينيات. عبد الأمير الحبيب كان استاذي في مادة الرياضيات لكن الصحافة الجزائرية عرفته ناقدا أدبيا. لقد اسهم بفاعلية كبيرة في إثراء الحياة الثقافية في الجزائر من خلال إسهاماته الفكرية والأدبية بخاصة تعريفه بأدب الشباب ولازلت اذكر تلك الدراسة التي كتبها عن القاص عبد الحميد عبدوس الذي كان يكتب القصة القصيرة وكانت بعنوان” أشياء عبدوس الصغيرة ” أقول لاأزال أذكرها لأنها اثارت حفيظة البعض مثل ما هو الشأن اليوم .
عبد الأمير الحبيب أستاذ الرياضيات العراقي لم يكن يكتب في الأدب والنقد الأدبي فقط إنما كانت له إسهامات في الفكر والفلسفة. فقد “تعرض ” بالنقد القوي إلى كتاب عبد الله شريط الذي صدر آنذاك بعنوان ” المنابع الفلسفية في الفكر الاشتراكي” . لم يتوقف النقد عند حدود المسائل النظرية والمنهجية بل امتد إلى اتهام عبد الله شريط بالسطو على الفيلسوف” بولنزاس” دون ذكره ولقد سبب الحرج الكبير للدكتور عبد الله شريط الذي لم يرد على الاتهامات.
لقد ظل استاذ الرياضيات والناقد العراقي يغني الحياة الثقافية الجزائرية إلى أن جاءت الطامة الكبرى وجاء الأمر السريع من وزير الداخلية ” أحمد عبد الغني” بطرد أستاذ الرياضيات وترحيله فورا إلى بلده بتهمة المساس بالسيادة الوطنية.
وقتها كتب أو استكتب مدير جريدة الشعب” محمد السعيد” مقالا يدافع فيه عن وجهة نظر وزارة الداخلية ضد الأستاذ عبد الأمير الحبيب الذي ظل عدة سنوات يكتب بجريدة الشعب نفسها ومما قال وهو يتهجم على الأستاذ العراقي قال” هؤلاء الذين القي بهم في مزبلة التاريخ ” ما جعل البعض يتهكم على مدير جريدة الشعب ويقول أنه اساء إلى الجزائر قبل العراق لأن الأستاذ العراقي هو حاليا مقيم في الجزائر ما يعني ان الجزائر هي مزبلة التاريخ .
تحركت السفارة العراقية بخاصة ،أن التهمة سياسية وثقيلة لأحد رعاياها وطلبت تقريرا رسميا من وزارة الداخلية لكي تتخذ ضده  العقوبات اللازمة لما يعود إلى العراق، لكن وزارة الداخلية تماطلت في الرد على السفارة وكانت السفارة تلح في طلبها ويبدو أنها كانت على علم بطبيعة التهمة لذا كانت تصر على التقرير.
جاء التقرير من وزارة الداخلية وجاءت التهمة الخطيرة التي تمس بالسيادة الوطنية ،التهمة تقول ان المدعو عبد الأمير الحبيب العراقي الجنسية الذي حل بالجزائر في بعثة تعليمية قد تطاول على احد الشخصيات الوطنية الكبيرة وهو الدكتور احمد طالب الإبراهيمي صاحب كتاب “من إزالة الاستعمار إلى الثورة الثقافية ” حيث تعرض العراقي للكتاب بالنقد عبر الصحافة الوطنية.
إذا كانت هذه تعد تهمة فإن الأستاذ عبد الأمير الحبيب ثابتة عليه فقد نشر بجريدة الشعب دراسة نقدية للكتاب الذي صدر آنذاك للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الموسوم “من إزالة الاستعمار إلى الثورة الثقافية”. يبدو أنها كانت ذريعة للتخلص من هذا العراقي اليساري الذي اراد أن يحرر اللغة العربية من قبضة الأموات وينشر ثقافة تنويرية عقلانية عكس ما كان يريد التيار الفرنكفوني الذي كان يريد لها ان تبقي لغة القبور والأموات والعظام النخرة.
السفارة العراقية ردت التقرير ولم تقبله لأنه مكتوب بغير اللغة الرسمية المنصوص عليها في الدستور الجزائري واخبرت وزارة الداخلية أنها لن تتعامل مع التقرير بجدية إلا إذا كتب بلغة البلاد الرسيمة. بعدما جاء التقرير مرة ثانية باللغة الرسيمة للبلاد عندها أصدر سفير العراق أمرا إلى البعثة العراقية في الجزائر بالاستعداد لمغادرة الجزائر، وقد أخبر رئاسة الجمهورية بذلك وأخبرها أن بقاء البعثة في الجزائر مرهون ببقاء أستاذ الرياضيات الذي لم يرتكب ما يخالف قوانين البلاد ولم يمس بالسيادة الوطنية الجزائرية ولم يتعرض للشخصية الجزائري التي ذكرها تقرير وزارة الداخلية الجزائري لأنه نقد بعض الأفكار التي جاءت في الكتاب وكانت تدور حول مسائل فكرية وفلسفية عالمية .
حسب ما اشيع آنذاك فقد وبخ الرئيس الهواري بومدين وزير داخليته ووجه الشكر للأستاذ العراقي عبر السفارة العراقية على إسهاماته الفكرية في الصحافة الوطنية وبعد نهاية السنة -وكانت السنة الأخيرة للأستاذ العراقي في الجزائر- أقيم له حفل وداع كبير باتحاد الكاتب الجزائريين .