الرئيسية / اكاديميا / بنية  الإيقاع الشِّعري وأشكالهُ الأسلوبية

بنية  الإيقاع الشِّعري وأشكالهُ الأسلوبية

 

بشير ضيف الله

أساليبُ الشِّعريةِ المغاربيَّة المعاصرة من خلال ديوان الجاحظية: مقاربة أسلوبية-إحصائية الجزء الأوّل: البنيةُ الإيقاعيةُ

الفصل الأول:

بنية  الإيقاع الشِّعري و أشكالهُ الأسلوبية

1.إيقاع الصّوت في البنية الشعرية

1.1.إيقاعُ التّوازي.

2.1.إيقاع التكرار.

1.2.1.نظام التكرار

2.2.1.أشكال التكرار الإيقاعي

3.2.1.الوظائف الأسلوبية للتكرار

2.إيقاع القافية الشعرية

1.2.القافية البسيطة

2.2.القافية المتواطئة

3.2.القافية المتوالية والمتناوبة

4.2.القافية الحرة

  1. إيقاع قصيدة النثر (ينشر لاحقا في مقالة مستقلة)

1.3.قصيدة النثر،،الخلفية والمرجعيات

2.3.محددات إيقاع قصيدة النثر

4.إيقاع البياضفي البنية الشعرية

  1. إيقاعُ الصوت في البنية الشعرية:

         للأصوات دور<< بالغ الأهمية بوصفها المادة الأولى لتأليف أشكال هذه الموسيقى بما يمتلكه كل صوت من صفات خاصة مستقلة..>> (1) ، فالصَّوتُمن المتعلقات الأشد وثوقا و الأكثر هيمنة على “الإيقاع“،ولا يقتصر الأمر على الأثر الأدبي فحسب بل يتعداه إلى الفنون برمتها، فهي  <<سلسلة من الأصوات ينبثق عنها المعنى>>(2)، و”الصوت”  ليس ظاهرة “أكوستيكية” أو ظاهرة عددية ،بل فاعل بنائي في المضمون(3)يتجسد معنى.

         إن<<الكلمات التي هي عبارة عن مجموعات صوتية تقوم على بناء مزدوج إنما هي أصوات..>>(4) ، أي أنَّها رموز للمعاني وفي الوقت نفسه شكل من أشكال “الإيقاع“، وعليه فالصوت –حسب “هيجل”<<يجب أن يظهر متشكلا بأسلوب حي ومن الواجب اعتباره كهدف في حد ذاته، مهما اعتبر في الشعر كوسيلة خارجية ومن ثم يخضع لقواعد الإيقاع>>(5) ،فالتصاوت الذي يحدث بين الحروف وكذلك بين الحركات، وما يفرضه النَّص الشِّعري من رويٍّ ومجرى كلُّها ظواهر صوتيَّة لها دلالاتها على اعتبار أنَّالنسيج الصوتي فاعل دلالي ، فقيمة المادة الصوتية تجسد قيمة الصوت النظمية(6)،القيمةالتي تسجلها الترددات في النَّص:

1.1. إيقاعُ التوازي:

     يعرِّفه “جون كوهين” بأنَّه:

<< خطاب يكرر كلا أو جزء نفس الصورة الصوتية>>(7) ،‏ فهو تقنية قائمة على تكرار أو ترديد وحدة أو وحدات صوتية بعينها تُحدث حراكا إيقاعيا لافتا.

      ومما لابدَّ التذكير به ،هو أنَّ ” التوازي” يقوم على عنصرين أساسيين هما “التماثل و الاختلاف” ، ممَّا يعني أنه أشمل من “التكرار” القائم على عنصر “التطابق” الذي لا يعني ” التماثل” في كل الأحوال،لأن <<التوازي تماثل وليس تطابقا>>(8) ، فإذا كان كل تطابق تماثلا، فليس كل تماثُل تطابقا، غير أن هذا الفرق بين المصطلحين لا يؤدي بالضرورة إلى الفصل بينهما على مستوى النَّص في كثير من الأحيان-خصوصا و أن هذه الفصل بين مكونات الخطاب الشعري في الدرس النَّقدي ضرورة المنهجية فحسب- لدرجة أنَّ :

<<بعض الصور التي نصنفها – حسب تداولها في الدرس النقدي – ضمن أنماط التكرار تثيرنا بما فيها من تواز واضح، كما أنَّ التكرار قد يكون أساساً في قيام الكثير من الصور التي نصنفها ضمن أنماط التوازي>>(9).

           وعليه فإنَّ هذا العنصر كثيرا ما  يتشابك في النَّص  مع تكرارات كلية أو جزئية في صور صوتية  مختلفة كالطباق، و السَّجع، و التصريع، والمقابلة… وهي كلُّها تمثل ترددات صوتية دلالية لها أثرها باعتبار “التوازي” محدِّدا قائما على الاهتمام << بأية مشابهة وبأي اختلاف يدرجان بين الأزواج المتجاورة للأبيات وبين الأشطر ضمن نفس البيت>>(10).                                                                             وإذا كان “التوازي” أشكالا متعددة منها ” الدلالي” ، و“التركيبي”، و“الصوتي”، فإنَّ الشكل الأخير هو الذي يعنينا  في هذه الدراسة، لتركيزه على <<التماثلاتالموقعية بين الشطرين مع تكرار حروف أو كلمات بعينها كأنْ تكون في بداية الكلام أو البيت الشعري أو أن تكون في العناصر المتصرفة أو المنبورة >>(11) ؛ واشتماله  على “التصريع”  و”الجناس” و”السجع“، و“التَّصدير”  وهي عناصر تكثيف صوتيّ / إيقاعيّ بامتياز.

إنَّ الوزن و القافية ليسا محددين مقدَّسين، بل أن الإيقاع يتولد << من تكرار كلمات  معينة في مواقع مختلفة كالجناس والترصيع والتصدير والترديد وغيرها.

هذه التكرارات الاختيارية تتداخل مع بعضها لتشكل مزيجا صوتيا يسهم في المقومات الصَّوتية الإجبارية للقول الشعري في اكتمال شكل الإيقاع الذي يسيطر على الشاعر>>(12).

 

       إن “التوازي الصوتي” عامل إجرائي مهمٌّ يرصد أثر العلاقات الصوتية في ترابط البنى الشعرية المختلفة وإمكانيات تعاضدِها صوتا ودلالة ً لصالح النَّص، فهو  <<عنصر تأسسي وتنظيمي في آن واحد>>(13) خصوصا و أنَّ القصيدة << هي ذلك التردد الممتد بين الصوت والمعنى>>(14).

في (مقاطع للحزن و أخرى للأمل) يجسّد “سليم دراجي” شكلا من أشكال “التوازي الصَّوتي” بقوله:

أيُّ بوصلةٍ ترشد المنزوي في ظلام القبورْ؟

 أيّ ليلٍ يمدّمخالبه نحونا كي يشكلنا نقطة للعبورْ

أيّ مهزلة صنعتها عجوزٌ

أقامت من الرقص

أيّ مهزلة صنعتها عجوزٌ أقامت من الرقص موسمها

حينما رقص الكأس في رأسها

 فانتهت تحت فرط الغرور؟!!(15)

          يعبّر الشاعر في هذا المقطع عن حالة من الخيبة والإحباط بحيث يتصاعد هذا الشعور ويتعاظم بتوازي الأسطر الشعرية التي اعتمدت على العناصر الآتية:

أيّ الاستفهامية+مضافإليه+فعل..” وعبْر هذا “التوازي” الذي كرره الشاعر في أغلب الأسطر الشعرية استطاع خلق دلالة إيقاعية متصاعدة ترصد حالة الخيبة الشديدة بدلالات جديدة عند كل تساؤل ليبلغ الذرة في السطر الأخير.

    وفي (شظايا الذي لم يقل للقراصنة مرحبا) نوَّع “عياش يحياوي” يتمثّل التوازي الصّوتي باعتماد جملة “تقُولين” المكونة من ” فعل القول  + فاعل + +مفعول منتظر(مقول القول)في النّوع الأول ، و” فعل القول  + فاعل + استفهام  ”  في النّوع الثاني وهو ما نُسجله بوضوح في قوله  :

 “تقولين مرّ كأجنحة الطّير  ……..النوع الأول

مرتبكا بالفضائح والورد ..إلاّ قليلا

تقولين  أيُّ النساء سيوقفن هجرته…..النوع الثاني

 وبأي الظفائريُطفيالصّهيلا؟

تقولين لم يكتملْ،……..النوع الأول

مالذي هزّ أضلاعهُ  وأضاء السّبيلا؟….النّوع الثاني

تقولين أشياء يصعبُ أن تُتهجى……..النوع الأول

ولكنّ لي رغبةٌ في التعرّي على غصن أسطورةٍ في بلادي

 و أُشهر من غِمْدها المستحيلا…” (16)

          إنَّ الشَّاعر يستغلُّ كل الممكنات الصوتية التي من شأنها إعطاء الوقْع المفترض لنصه، وهو في هذا العنصر يشتغل على الكلمات ذات<<الخواص الحسية لأصواتها وجرسها>>(17)لإنتاج فائض المعنى من خلال ما تكتنزه الأصوات من زخم إيقاعي لكونها << غنية بالقيم الترابطية والتعبيرية التي يستطيع الفنان استغلالها>>(18).

والشِّعرُ ليس<<هو المجال الوحيد الذي تخلق فيه رموز الأصوات وآثارها، وإنما هو المنطقة التي تتحول فيها العلاقة بين الصوت والمعنى من علاقة خفية إلى علاقة جلية وتتمظهر بالطريقة الملموسة جداوالأكثر قوة ..>>(19).

            ولا يجب إغفال أن قوة الصوت كالتنغيم مثلا، من شأنها إعطاء بعد دلالي و   إيقاعي في الوقت نفسه بما تحمله من إحالة على الموقف/الحالة الشعرية إذْ أنَّ <<المنحنىالبياني الذي يسجله الصوت، يختلف في الواقع اختلافا ملحوظا حسب المعنى والخطاب. فالتنغيم دال إذن، أي أنه يقوي هذه الاختلافات لتبين بشكل أحسن اختلاف المدلولات، وهكذا سيتعارض الاستفهام والإثبات ليس ببناء الجملة فحسب ولكن بالتنغيم أيضاً..>> (20).

إن الصّوت كخط فيزيائي لا يتناقض وكونه دالا يؤَثِّث معنى المتن الشِّعري،ويفعِّله ضمن عمليَّة خلق القصيدة كحالة استثنائية قائمة على الحراك والتحول ، هذه الحالة التي <<تبدو في خصائصها الداخلية على شيء من التشابك والتعقيد، هي الخطوة الأكثر دقة وأهمية في تشكيل العملالشعري وتأسيس جذوره الإيقاعية، لأنَّ هذا التسلسل في تطور مراحل الصوت اللغوي بواقعه الإيقاعي والدلالي الذي يكتسب فيه على الدوام صفات جديدة، هو بالذات العنصر الذي يسهم في إعطاء النص الشعري وإيقاعه هويته المحددة..>> (21) ، فالصوتُ في هذه الحالة سمةٌ إيقاعية للنَّص الشعري بامتياز.

2.1. إيقاع التكرار:

         “التكرار”في اللغة من الكر بمعنى الرجوع، ويأتي بمعنى الإعادة والعطف،  يقول“ابن منظور”:

<< الكرّ : الرجوع يقال كرّهُ وكرّ بنفسه… والكر مصدر كرّ عليه يكرُّ كراً وكروراً وتكراراً: عطف عليه وكرّ عنه: رجع… وكرر الشيء وكركره: أعاده مرة بعد أخرى. فالرجوع إلى شيء وإعادته وعطفه هو تكرار..>>(22).

ويقابل كلمة “تكرار” في اللاتينية كلمة Repetition بمعنى يحاول مرة أخرى والمأخوذة من Petereالتي معناها يبحث.

أما في الاصطلاح فهو تكرار الكلمة أو اللفظة أكثر من مرة في سياق واحد لنكتة إما للتوكيد أو لزيادة التنبيه أو التهويل أو للتعظيم أو للتلذذ بذكر المكرر(32) كأنْ<< يأتي المتكلم بلفظ ثم يعيده بعينه سواء أكان اللفظ متفق المعنى أو مختلفا، أو يأتي بمعنى ثم يعيده. وهذا من شرط اتفاق المعنى الأول والثاني، فإن كان متحد الألفاظ والمعاني فالفائدة في إثباته تأكيد ذلك الأمر وتقريره في النفس وكذلك إذا كان المعنى متحدا وإن كان اللفظان متفقين والمعنى مختلفا، فالفائدة في الإتيان به الدلالة على المعنيين المختلفين>>(24) ، و لا يقتصر على الأثر الأدبي، وإنما يتعداه إلى كل ما يتعلق بحياة الإنسان من تصرفات و سلوكات مختلفة(25) ، غير أنَّ أثرهفي المنجز الفني و الشعري تحديدا يبقى له وقع خاص حيث<< يجد مشروعيته في الانزياح الناشئ بين الموضوع و تشكلاته الجديدة>>(26).

         إنَّ توظيف الشعر للتكرار يجسد ذلك التقاطع القائم بينه وبين الموسيقى –كما سبقت الإشارة إليه-فالقطعة  الموسيقية قائمة على التكرار باعتباره << ظاهرة صوتية تميزت بها القصيدة الحرة، وهو إلحاح على جهة معينة في العبارة يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها ، وكذلك يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمامه بها>>(27).

إنَّ غاية “التكرار” الأسلوبية  بوصفه من أبرز أشكال “الإيقاع” هي<<الإتيان بعناصر متماثلة في مواضع مختلفة من العمل الفني، والتكرار هو أساس الإيقاع بجميع صوره، فنجده في الموسيقى بطبيعة الحال، كما نجده أساسا لنظرية القافية في الشعر، وسر نجاح الكثير من المحسنات البديعية كما هي الحال في العكس، والتفريق والجمع مع التفريق ورد العجز على الصدر في علم البديع العربي>>(28)وهو ما يجعله عنصر ارتكاز في ضبط وتحريك فعل “الإيقاع” بكل مستوياته في النصوص الشعرية بما يحفظ للنَّص انسجامه و اتساقه الذي يتعداه إلى البنية الدلالية فيما بعد نتيجة لما يقدمه هذا العنصر من بدائل إجرائية مختلفة ومتنوعة تمنح الشاعر فرصا أوسع للتجريب و الحفر وإبراز مدى عمق وسعة التجربة الشعرية التي تختلف من شاعر إلى شاعر بحكم خصوصيته  القائمة على ثنائيتي التَّماثل والتغاير بما تحققه من حراك وتنامٍ.

و”التكرار”<<يحدث تيار التوقع ويساعد في إعطاء وحدة للعمل الفني ومن الأدوات التي تبنى على التكرار في الشعر: اللازمة، العنصر المكرر، الجناس الاستهلالي، التجانس الصوتي، والأنماط العروضية..>>(29)بل أنّ هناك من ذهب إلى التأكيد على أنه << لا يستقيم قول شعري إلا به، و لا تتحقق طاقة شعرية بدونه. >>(30).                                                            

1.1.1. نظام التكرار:

يقابل “التِّكرار” بمفهومه الحالي “التوكيد” في الفكر النقدي القديم الذي أفرغه من بعده الإيقاعي وجعله حكرا على الجانب الدلالي، و التقاطع الحاصل بين الشعر والموسيقى أوجد مجالا للتفاعل والإفادة من الموسيقى بما يخدم الإيقاع في النَّص الشعري مما يبرز الصِّلة الوثيقة للتكرار بالإيقاع وهو ما يظهر بجلاء في النصوص الحداثية التي ذوَّبت الفوارق واستثمرت كل الممكنات الموسيقية المتاحة التي لم تعد حكرا على الأوزان الشعرية وما تولده من إيقاع خارجي محدد، وإنما أوجدته في<< تقطيعات وفي توازنات لا متناهية..في التقابل و التشاكل، في التكرار على أنواعه:  

التكرار لحروف بذاتها، أو لكلمات، والذي هو تكرار لأصوات، لمسافات زمنية لغوية، وقد يكون اللفظ كما قد يكون المعنى هو حدود هذه المسافات أو فاصلتها>>(31).

      إنَّ أهم فتح يُحسب للقصيدة الحديثة كسرها للحواجز و النمطيات  والقيود التي تحد من   دينامية اللغة و التخييل، و توظيفها تقنية “التكرار” كعنصر إيقاعي على شكل <<إعادة الفكرة باللفظ متنوعة أو بالألفاظ نفسها أحيانا..>>(32) ، لأنَّ توظيفه بالشكل الأنسب رهين بالتجربة الشعرية ووعي الشاعر بدور هذا العنصر الذي قد يكون عامل رتابة ونفور إذا لم يوظف توظيفا إبداعيا ، فهو: <<   يعطي الكلمة وزنا في البداية ويجعل الوعي يتوقف عندها، ثم ما يلبث أن يفقدها وزنها كأنها لم تكن ، لتعود هيمنة الإيقاع وجمود الحركة على الفضاء الموسيقي للقصيدة >>(33).

 

2.1.1. أشكال التكرار الإيقاعي:

   لا يمكن حصر أشكال “التكرار” خاصة مع تعابر الشعر والموسيقى من جهة، وإفادة النَّص الشعري الحديث من هذا التفاعل  بحيث يكون للتجربة الشعرية أثر واضح في تحديد أشكال “التكرار” التي يوظفها الشاعر، وهو ما يعني أنَّنا قد نكتشف أشكالا تكرارية عديدة ،  فهي:

<< متنوعة جداً، منها عودة لازمة على فترات منتظمة، واستعادة مقطع البداية في الخاتمة، مما يسمح للفكرة الشعرية بأن تلتف حول نفسها وتغلق القصيدة، وهكذا تشدد على انطباع الـحلقة والـدائرة المغلقة..>> (34)لذلك سأكتفي بالسَّائد منها:

– التكرار الاستهلالي:                                                              

          يشكل منعطفا دلاليا و إيقاعيا  يرتكز عليه الشاعر من خلال توظيفه لفعل أو كلمة في مستهل  النَّص تتكرَّر عبر كافة مراحله بالصيغة نفسها أو بصيغ متشابهة مما يولِّد حالة إيقاعية يستقبلها المتلقِّي/القارئ لها آثارها و  دلالاتها و أبعادها، كقول “محمود العياري” وهو يصف لقاء حميميا  :

”  حين التحما ..

حين اتّحدا..

 حين اشتبكا…

حين اشتعلا/

 كان الله يدندنُ أغنية العشق القدسيّ،،

ويبتسم”(35).

 

فكلمة “حين”  أداة تكثيف  إيقاعي  أحدثت وقعا تفاعليا   و أشركت المتلقي في فعل النص بحيث ينسجم مع تمثلاته و تحولاته  فيصبح بمثابة  مبدع ثان، بالمقابل فإنّ الشاعر كرر هذه الكلمةإعلاء من شأن  الحب وتأكيدا على قيمته .

     ومن ذلك قول “فاتح علاق” في قصيدة  (التتار)  :

سقط الشعارُ و أنت تعلو في رمادك وردةً

سقط الشمالُ و أنت تنزف في ضيائك غيمةً

سقط الجنوبُ وأنت وحدك واقف أبدا تلوبْ..” (36).

 

        يرصد الشاعر في هذا المقطع حالةَ خيبةٍ مؤلمة يجسدها السقوط الحر من خلال تكرار الفعل “سقط” بكل ما يحمله السقوط من معنى ، محدثا بذلك رجّةً في المتلقي، محركا رغبة في التغيير و التوثُّب يمثلها الإجراء التكراري الذي جعل النَّص ككل حالة ثائرة رغم مرارة الخيبة.

 

 

– التكرار الختامي:

   لا يختلف كثيرا في أثره عن سابقه إذ يمثل عامل خلوص يكثِّف من خلاله الشاعر أداءه ليركِّزه في المتلقِّي مما يجعل النَّص حالة تبدأ عند نهايتها، وتفتح هامشا آخر للتأثر والتأويل، و هو ما يجسده “نور الدين طيبي” في قصيدته (نادية):

“..والفتى بذل الدّمع من مقلتيهِ مطرْ

 ومضى ينتظرْ

ومضى ينتظرْ

ينتظرْ

ينتظ..

ينتــ…

ينـ…” (37).

 

          تتردّد في هذا المقطع كلمة “ينتظر” وتتهافت  بصيغة إيقاعية تنازلية  من سطر إلى سطر حتى تنكمش إلى حرفين فقط عند نهاية النَّص في حركة ذكية موجهة للمتلقي بالأساس ليلتحم بإيقاع النّص السائر نحو النهاية / الخروج بما يحمله من تمثلات خصوصا و أن لا لغة تسود إلاّ لغة “الصمت” التي تُبقي التأويل مشرّعا على ما لانهاية في آخر النَّص حيث بداية ترتيب آخر لا يمكن الإلمام بكل ّ تجلياته  لوجود نقاط الحذف ، وتلك حالة شعرية جسَّدها الشاعر و رصد أيقوناتها من خلال هذا الشكل التكراري ، فهو يقدم وصفاً دقيقاً للحظةالترهل بضمير الغائب /الحاضر ليجعل من الانتظار  ظله الذي لا يفارقه.

       وفي قصيدته (تجيئين يستيقظ البحر و النَّاسُ و الميتون) ، يمثِّل الشاعر “عثمان لوصيف”  بشكل لافتهذا الشكل التكراريبقوله:

تجيئين يا ألف مرحى

هلمّيو مرّي على شبق الفقراءْ

هواء وماءْ

هلمّي

هلمّي(38).

لقد كانت لفظة “هلمّي” عامل خلوص يقابل ما يُعرف في النقد القديم “حسن الختام”، وهي حالة هنا حالة تهافت /هبوط إيقاعي اختياري يضع القارئ/المتلقي في الصورة حيث يدرك من خلاله قرب الختام فيصير شريكا إبداعيا شاهدا على  النَّص في مرحلته الأخيرة.

 -التكرار المتدرج “الهرمي”:

       يقتضي هذا النَّوع تشكيلا إيقاعيا هندسيا يقف عنده الشاعر تبعا لحالة شعرية ما، بحيث تؤول الوحدة التكرارية بالتدرج إلى وحدة مركزية  يرتكز عليها النص تتفاعل و تتنامى بتفاعل وتنامي الحالة الشعرية بشكل هرمي .

          ولعلّ قصيدة (بلا وطن هل نعيش؟) لـِ: “علي ملاّحي” تبرز بوضوح “التكرار المتدرج” حيث شكل اسم “فاطمة” وحدة مركزية يتمحور حولها النَّص ككلّ بحيث يعرف حراكه صعودا وهبوطا تبعا للحالة الشعرية للشاعر ولطبيعة الموقف، مما أحدث تشكيلا هندسيا إيقاعيا متغيرا في كل مرة إلاّ أنه يؤول في النهاية إلى الوحدة التكرارية المركزية “فاطمة”  :

“بلا وطن هل نعيش؟

التفاصيل شافية في الجبين ..

وفاطمة في الحنايا اشتهاءُ أفقْ

من عزاءْ

وفاطمة صورة من دمٍ واضح الانتساب

………..

 فاطمة والنياشينُ معروضة للطلبْ،

فانتسبْ

 فاطمة ..

 أسميك فيما أسميك سجادة للصلاة

وزربيةٌ لاجتماع الأخوّة

……………..(39).

        لقد وظّف الشاعر اسم “فاطمة” 16مرة على مدار النَّص لكن هذا العدد لم يكن عامل رتابة في النَّص بقدر ما كان حالة إيقاعية متجددة  في كل مرة ، فالنَّص كشكل هندسي يُعتبر مدارا مركزه “فاطمة” تفعله وتحركه كل ما أوشك على الرتابة ما يجعل المتلقّي يرتقبُ تمثلات “فاطمة” التي يبرز فيها الشاعر كعازف ينشر ألحانه على متلقيه في انسجامٍ تام.

و يقف “مجديبن عيسى” الموقف نفسه في قصيدته (أواني المطبخ) حيث يتصاعد وقع كلمة “صمت” بشكل هرمي انطلاقا من السَّطر الأول في توتّر منتشر الأثر/الوقع ما يجعلها أيقونة مركزية تُكثِّف المعنى و تُحرك النَّص في كل اتجاه  :

“لكأني بها الليلة تنشج في صمتْصمتِ البيت الخالي

صمتِ اللّيل

صمتِ أبٍ

ودّع منذ قليل ابنته

في ثوب  العرس إلى بيت الزّوج ..” (40)

والشَّكلان التاليان يوضحان ذلك

 

 

 

– التكرار الدَّائري:

           يعتمد هذا النَّوع على إحداث ثنائية تتقاطب فيها المقدمة والنهاية عن طريق تكرار الجملة الشعرية نفسها في كلا الوضعيتين مع ملاحظة أنه لا يشترط تطابق الجملتين التكراريتين تطابقا كليا، هذا التقاطب الذي يشبه عملية غلق لدينامية  النَّص من الجهتين  يوظفه الشاعر ليحقِّقَ متعة النَّص / فائض المعنى، ويبرز من خلاله قدراته فيشدّ المتلقِّي خطوة خطوة مع حركة النَّص و يجعله أداة تقصٍّ سرعان ما يستفيق مع لحظة الخروج/الغلق في لعبة مختلفة يرتكز عليها النَّاص تحقيقا للمتعة و تجريبا للقدرات ، وهو ما  نقف عنده في قصيدة (وشاياتُ ناي) لِــ:عبد الرحمان بوزربة” حيث استهلها في المقطع الأول  بقوله:

لك من برزخ الوقت

 تفاحةُ الليل

والانتشاءُ لهمْ”(41):

   و اختتمها في المقطع السادس بقوله

لك من وقتهم سعفةُ الوقتِ

يمضي الغبارُ إلى منتهاهُ

وتمضي إلى عطرها النّرجسهْ”(42)

تكراراللازمة:

نرصد في هذا المجال نوعين ،النَّوع الأول يرد في بداية القصيدة على أن يتكرَّر بعد ذلك في عدد من مقاطعها على فترات تخضع لتفاعلات النَّص و تشكلاته  حسب الحالة الشعرية  من ذلك  تكرار سطر أو جملة شعرية كلازمة يرتكز عليها الشاعر لرغبة ما، كقول الشاعرة الليبية”فوزية شلابي “في قصيدتها (أحبُّك…):

ما أشهى هذه البرتقالة

تُسفر عن إصبعيكَ موسيقى

وطعم المرارت

إنها الأولى في جريدة الرّغبة الممتدة على أشغفة القلب اليساري…

…………………

ما أصعب هذه البرتقالة

تتدحرجُ في الفراغ …

………………

ما أجمل تلك القبلة

………………

ماألظى تلك الجمرة…” (43).

 فقد تكرّرت صيغة “ما أفعله “ التعجبية عبر النَّص في بدايات المقاطع الأربعة على شكل لازمة حيوية تصعد وتهوي امتثالا للحالة الشِّعرية ، وتسجّل حضورا    مختلفا للتكرار.

و في نصّه(نبيذ الجرس)،  يصنع “الأخضر بركة”  حالة إيقاعيةتصاعدية بامتيازتجعل من النص ينمو وينفتح على كل الاتجاهات محدثا خلخلة ، وتوترا غير اعتيادي من خلال تكرار اللازمة “وأنت تسافر” في عملية استنفار مختلفة لفيض الغة و المعنى معا:

وأنت تسافرُ
لا تَنْسَ أن تملأَ العينَ ممّا تراه
وأنت تسافرُ
لا تَنْسَ أن تُفرغَ القلبَ ممّا رآه
***
وأنت تسافرُ
حَدِّقْ إلى لُحمةِ الرُّوحِ
وهي تروحُ على ظهْر غيمَةْ
وأنت تسافرُ
ناوِلْ حواسّكَ خمرَ التحيّرِ في ضوءِ نجمَةْ
***

إنذ هذه التقنية تحقق المبتغى إيقاعيا بإحداث توتر بهيج،  ودلاليا بتكثيف لغوي متنام، ما ينعكس على المتن ككل ، فيبسط النًص نفوذه على القارئ بشكل مميز.

 

و في نصه(مناشير تحريضية)، يجسّد “عادل صياد” هذا الشكل التكراري على شكل جملة فعلية ابتدائية طلبية  تخللت بدايات الأسطر وأعطت نسقا إيقاعيا مركّزا:

خُذْ بلادك واخرجْ بها للخلاءْ

 خذْ خصومكَ و اقض على الحلفاءْ

 خذْ كتابكَ،،  خلّدْ صدى الأمراءْ

خذْ وصيّةَ جدك وامسحْ بها…

 خذْ شبيهكَ سرْ باكرا في الخواءْ

خذْ بقيةَ اسمك واخرج بها من على ..

واستطاعتْ تفتنني خيبة الكون

يا سيّد البلداءْ”(44).

   أما النَّوع الثاني، فيتجسد في النَّص ولا يرتكز على بداياته ، بقدر ما يتردد عبر مراحله المختلفة ، كقول “عيسى قارف” في قصيدته  (ثلاثة أبيات إلى نورة):

 ” ناديتُ نورا فلما لم تجب نورا

أوصدتُ قلبي فهاجت في دمي نورا

  حتّى تغشّتْ ظلام العمْر واشتعلتْ

ظلمة العمْر نورا زادني نورا

  والكهفُ قلبي ،وكلّي فتيةٌ رشدوا

فرتّل الكهفَ واقرأْ في دمي النّورَ”(45).

 

        توزعت اللاّزمة “نورا” على أبيات القصيدة الثلاثة وفق الترتيب 3، 2، 1، مشكّلة ً حدثا إيقاعيا لافتا يبرز من خلاله الشاعر شعوره اتجاه من يحبّ، فكانت اللاّزمة وسيلته و أداته الإجرائية لتبليغ مراده، وتحسس انفعالاته صعودا وهبوطا  فالشاعر هنا يعكس أهمية ما يكرره مع الاهتمام بما بعده حتى تتجدد العلاقات وتثرى الدلالات وينمو البناء الشعري(46).

      ولا يختلف كثيرا الشاعر الليبي“مجاهد البوسفي ” في نصّه (بيان خاص وعادي):

ليس كثيرا

أبتغي فقط أن يُحظى هذا القلب

بشيخوخة هادئة

قرب حبيبته التي ألهته سنوات النزق

عن أن يقول لها

 –بعد خجل حنون-

أحبّك

أبتغي فقط :

أن يتّسع القلب …

………………

أبتغي فقط :

قليلا من الوقت النقي

 كخيط الضّوء …

أبتغي فقط :

……………..

أن أطيح بهذه الجيوش

بنبضة قلب واحدة

أحبُّكِ…

………….” (47).

 

إنّ اللازمة “أبتغي فقط” تردّدت داخل النَّص و لم يستهلّ بها الشَّاعر متنهُ، و إنما تبدو كعلامة بارزة تؤثثــُه و تستجمع أنفاسه كلما انتهى إلى ملاذ آمن، لينبثق من جديد.

 

– التكرار التراكمي:

يتَّخذ هذا النَّوع بعدا لُغويا/ لفظيا كاستعمال مفردات بعينها أو أسماء أو أفعالا أو حروفا  لصياغة مستوى دلالي وإيقاعي مؤثِّر، على أن لا يكون لهذا “التكرار” موقعا محددا في النَّص، فهو يخضع لما تقتضيه الحالة الشعرية وما يفترضه نسقها الإيقاعي الذي يتشكل كلما أوغل النَّص في تنويع “التكرار”.

إنَّ هذه التنويعات التكرارية سواء كانت معجمية، مجازية، صرفية، نحوية يبقى الصوت مادتها الرئيسية ، ومحركها الحافل بالابتكار والتفاعل.

أ/- تكرار الوحدات المعجمية:

يقوم على أساس الحقل الدلالي المتماثل <<إذ تستدعي الوحدة المعجمية مثيلتها لتعمق الوصف و تؤكد التعبير>>(48) ، وبذلك فهي تدعم الخيارات العروضية للشاعر وتشدُّ من عضد المعنى/ الموقف الذي يريد الوصول إليه في خضم النَّص.

و لا يقتصر هذا النَّوع على “التماثل” فحسب، وإنَّما يقوم على التقابل أيضا على شاكلة “الطباق” مثلا .

        وكنموذج شعري، أقف عند قصيدة (السبّابة) لـ: “أحمد عبد الكريم”  حيث وظّف فيها “الألوان” كحقل دلالي له حضوره الإيقاعي في النَّص:

” ذا بيرقي أسود

والمدى أحمرُ        .. …..

د علمتني القصيدة

كيف أهندسُ مملكتي القرمزيَّة

أبني عروشي على الماء  لمّا أحوّمُ

في برزخٍ أزرق.

ها فمي ضالع

في  فصوص الكلام المطرّز بالكستناء…” (49).

           لقد استثمر الشاعر في حقل “الألوان” على تنوعه ليمنح النَّص حراكا إيقاعيا مطرّزا يجذب المتلقّي، ويجعله يوقع حضوره في النَّص، فالأسود والأزرق و الأحمر و الكستنائي وحدات معجمية لحقل دلالي واحد أضفت نسقها على النَّص.

ب/-تكرار الصيغ الصرفية:

      للصيغ الصرفية دور بارز في التشكيل الإيقاعي للنَّص الشعري ، فهي << على خلاف الوحدات المعجمية من أصناف التكرار التي تتشاكل في البناء و تختلف في الدلالة وهذا ما يجعل دورها مخصوصا بسمات تميزها..>> (50)، ويتجلَّى ذلك في  توظيف:

.الصفة المشبَّهة:  إن التنوع الذي يميز أوزان “الصفة المشبهة” يجعل منها ممارسة تكرارية بامتياز بحيث يتنوَّع  “التكرار” نظرا << لتركيبتها الصوتية و وزنها و دلالتها في وسم النص بالترجيع والمعاودة التي تمثل إحدى خصائص الإيقاع..>>(51).

.صيغ الجموع:

الجموع باختلاف صيغها تشكل وحدات تكرارية من شأنها إضفاء حركية في النص فهي تسم ُ<< التكرار بالتنوع والتناوب في جريان الصيغ مما يثري التشكيل الإيقاع…>> (52).

.المصدر:

      المصادر بأنواعها يمكن أن تؤدي وظيفة إيقاعية وجمالية في الوقت نفسه، فعندما يتواتر مصدر بعينه، فإنَّ ثمَّة تشكيلا تكراريا يؤدي الوظيفتين الإيقاعية و الدلالية نظرا لقوَّة المصدر ووقْعه ، وحضوره و دوره في إحداث الارتداد الإيقاعي.

        وكنموذج لهذا الشكل التكراري ، أقف عند نص (فلسطين المنكوبة) لــ: “فاطمة أحيوض” حيث تتنوع الجموع وتشكل زخما إيقاعيا عبر كافة مراحل النَّص:

فواجع رهيبة وسط شارع الأقنعة

جروح دامية

………

 هل من مارة؟

هل من بصمات الأيتام تنهمرُ أشعاري؟

 سألت الأموات

سألت كل بقايا الآهات

 على صدور الطرقات

دم الأنبياء…”(53).

 

طغت الجموع في هذا المقطع بوجود 8جموع تكسير و 3جموع مؤنثة سالمة ما يعني أنّ هناك ترتيبا إيقاعيا تحركه الشاعرة وفق رؤيتها وتجربتها الشعرية، فالنَّص عبارة عن قصيدة النثرية،وهذا التكرار ليس اعتباطيا بقدر ما هو ورقة “إيقاعية” وظفتها الشاعر لتحريك النص و تفعيله .

ج/- تكرار المكون النحوي:   إنَّ التشابه الحادث في مكونات الجملة الشعرية النحوية، يمكن أن يكون شكلا إيقاعيا إذا تكرر وفق نسق يحدث أثرا موسيقيا، هذا التشابه الذي يحدث نتاجا لأشكال من التوازي التي تتناسب فيتحول بها الكلام إلى هيئة من “الإيقاع” المتشكل من انتظام عناصره على أنحاء متشابهة.

          وما يمكن رصده من أشكال هذا “التكرار“، تكرار التراكيب النحوية كالجمل الفعلية والاسمية و وظائفها ، إضافة إلى التراكيب الإضافية، والنعوت، وتركيب الجر…كلها مكونات نحوية تؤثِّث المستوى الإيقاعي والدلالي للنَّص، وتجعل من تكرارها أثرا يقف عليه المتلقي/ الدارس ولا يعني هذا إغفال النثر، فقد اهتم الدارسون به << في النصوص السردية والنثرية، كما في النصوص الشعرية..>> (54).

 

       أكتفي في هذا الشأن بنموذج لتكرار المكون النحوي ممثلا في تكرار “الجملة الفعلية”، حيث حفل به نصّ (انتخاب) لــ:“زهرةبلعاليا” :

قالت الدودةُ يوما للغراب:

أشتهي فتح عيون بدياري

أرقب منها السحابْ

فافتنيفي أي وجه سأكون؟

………………..

قال طيرُ الشؤم في مكر :

صدقتِ

وأرى :

لو أنا أجرينا انتخابْ!

……………………

قالت الدودةُ في حزن عقيم:

أدرك  الآن كثيرا من أمور الدنيا

لكنْ…….

………………….” (55)

فكل الجمل الفعلية الموظفة في هذا المقطع متعدية، تفسح المجال لمزيد من الحراك الإيقاعي، وتجعل باب تفاعل المتلقي/ القارئ مع النَّص منتجا، يشعره بكثير من اللّذة، وبشيء من الرغبة في دفع هذا النسق الإيقاعي الجهوري الذي هزهزته الجمل الفعلية المتواترة بشكل مطّرد .

3.1.1. الوظائف الأسلوبية للتكرار الإيقاعي:

مما لا شكّ فيه أنَّ  “الإيقاع” في  الشعر قائم على التكرار،بل أنَّ تفعيلات بحور الشعر العربي تقوم على هذه الخاصية في أغلبها، كتكرار “فعولن” في “المتقارب”أو “فاعلاتن” في “الرمل”، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، فالتفعيلةُ نفسها قائمة على تكرار مقاطع متساوية  مما يشكل توليفة موسيقية متناغمة و متناسقة في النَّص الشعري، فللشعر  <<نواح عدة للجمال أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس الألفاظ وانسجام توالي المقاطع وتردد بعضها بقدر معين وكل هذا ما نسميه بموسيقى الشعر>> (56) ، فالإيقاع وفق هذا التّصور أكثر ما يعتمد  على <<التكرار والتوقع، فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقعنا سواء كان ما نتوقع حدوثه يحدث أو لا يحدث>>(57).

          إلاّ أن “نازك الملائكة” تعتبر “التكرار” أسلوبا مثل باقي الأساليب لا يحقق غايته إلاّ إذا وظّف أحسن ما يكون، وهو ما يعود إلى تجربة الشاعر،فقد يكون “التكرار” هنة ً أو مطبًّا يُفقد النَّص جماله ، ويضع الشاعر في مأزق

لأنَّه <<يمتلك طبيعة خادعة فهو على سهولته وقدرته في إحداث موسيقي يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه في مزلق تعبيري، فهو يحتوي على إمكانيات تعبيرية تغني المعنى إذا استطاع الشاعر أن يسيطر عليه ويستخدمه في موضعه وإلا فإنه يتحول إلى مجرد تكرارات لفظية مبتذلة>> (58).

         و لا يقتصر أثر “التكرار” في “الإيقاع” فحسب، وإنما يتعداه إلى صياغة المعنى، والحفر في الدلالة، وتنويع المعجم الشعري ودلالاته وإن كان في شكله السطحي لا يعدو كونه تكرارا، فإنه لا يكرر المعنى نفسه، و إنما يعطيه دلالة أعمق و أكثر إيغالا في المعنى مما يحمل دلالات و إشارات مختلفة ليست هي نفسها بالضرورة، وإنما قد تكون انعكاسا لحالة شعرية تقتضي الوقوف عليها.

 

       وهكذا << نتبيَّن أن من خصائص التكرار خلق جمالية المخالفة، إضافة إلى ما يحققه من مؤالفة و إعادة، فالعناصر المعادة فيه تُظهر الاختلاف في ما هي تُفصح عن المتشابه ،تؤلف المفترق فيما هي تجمع المختلف..>>(59) .

 

  1. إيقاع القافية الشعرية :

القافية” لغةً من “قفاه واقتفاه، وتقفاه“، بمعنى  تبعه واقتفى أثره(60)و تعورف عليها بهذا الاسمكون <<الشاعر يقفوها، أيْ يتبعها فتكون قافية بمعنى مقفوة، كما قالوا “عيشة راضية” بمعنى مرضية، أو تكون على بابها كأنها تقفو ما قبله..>> (61) ، إلا أنها تختلف في مفهومها من ثقافة على أخرى،ومن عصر إلى عصر، فقد عدَّت ركنا من أركان الشعر قديما.

      أما اصطلاحا،فهي <<مصطلح يتعلق بآخر البيت، يختلف فيه العلماء اختلافا يدخل في عدد أحرفها وحركاتها..>> (62) ، واعتبرها “الخليل” ما وقع بين آخر ساكنين والمتحرك قبل أولهما في حين اعتبرها “الأخفش” آخر كلمة في البيت الشعري(63) ،هذا المفهوم الذي تحوَّل في الأبحاث الأوروبية إلى << تكرار أصوات متشابهة أو متماثلة في فترات منتظمة، وغالبا ما تكون أواخر الأبيات الشعرية، وقد تكون أحيانا في النثر (كالسجع عند العرب) أو داخل البيت من الشعر..>> (64).

        أما “لوتمان” فاعتبرها تكراراصوتيا(65) ، ومجال توافق صوتي بين الكلمات أو بين أجزاء منها، في مواضع محددة من الوحدة الإيقاعية(66) ، هذا التكرار الذي قد يقترن بضروب أخرى من التكرار كالتكرار النحوي، والتكرار الدلالي؛ ومن ثم يمكن الخلوص إلى أنها مجموعة<<أصوات تتكرر في أواخر الأشطرأوالأبيات من القصيدة، وتكررها هذا يكون جزءا هاما من الموسيقى الشعرية، فهي بمثابة الفواصل الموسيقية يتوقع السامع ترددها، ويستمتع بمثل هذا التردد الذي يطرق الآذان في فترات زمنية منتظمة،وبعد عدد معين من مقاطع ذات نظام خاص يسمى الوزن>>(67).

          ولعلَّ من المهام الوظيفية للقافية إحداث الانسجام و التناغم لأنها بمثابة ضابط “الإيقاع” في ” الأوركسترا ” نظرا لوقعها المتواتر و الأثر الذي تحدثه ، مما يعني أنَّ لها :

<<بعداً من التناسق والتماثل يضفي عليه طابع الانتظام النفسي والموسيقي والزمني>>(68) ، لذلك فهي<< تشكِّل قسماً من شبكة المقطع الشِّعري الصوتية>>(69).

وما يجدر التأكيد عليه، أن القافية في ظل التحوُّل الشعري الراهن، لم تعد تخضع إلى تلك القوانين الرياضياتية بالغة التدقيق، وإنّما انزاحت من بعدها النَّظمي المكرّس إلى دائرة “الإيقاع” والحركة بدلا من المراوحة و التهافت  فقد أصبح لها بعد دلالي فاعل في إنتاج المعنى انطلاقا من موقعهالأن<<الصفة الاختتامية التي تتميز بها القافية، سواء أكانت في البيت أم في الجملة الشعرية أو المقطع الشعري أو عموم القصيدة، لا يمكن لها أن تكتفي بدور الضابط الموسيقي المجرد…إذ لابد لها أنتشترك اشتراكا فاعلا في التشكيل الدلالي، فثمة انسجام يجب أن يكون تاماً بين بنية الإيقاع وبنية الدلالة، إذ أن أية مفارقة بينهما تؤديبالضرورة إلى خلخلة وارتباك في التشكل العام لهيكل القصيدة ويفقدها تماسكها النصي..>> (70).

          وما نخرج به من خلال هذه المقاربة هو أن “القافية” كوحدة عروضية  لها دور إيقاعي/ دلالي متوازٍ، وهو ما يحيلنا إلى كون “الإيقاع” برمته لم يعد مفصولا عن سياقه الدلالي بقدر ما هو متشابك ومتفاعل مع كافة معطيات النَّص كمتن وكمنجز إبداعي،  فهي ليست << جزءً منفصلا مكملا يدخل في صميم العملية الشعرية من الخارج، كما أنهاليست أداة قابلة للحذف والاستبدال والتعديل لأن دورها في تحقيق اللغة الشعرية لا يسمح بذلك…>>(71).

إنَّ التحول الذي عرفته الشعرية العربية لم تكن “القافية” بمنأى عنه، فقد بدأت تفقد بعضا من صرامتها ولم تعد ثابتا معياريا محدَّدا وخاضعا لقواعد متعارف عليها وموضوعة سلفا، و إنما << اتخذت أشكالا أخرى تراوح بين الاطراد في بعض الأبيات دون الأخرى،وبين تغيير موقعها داخل السطر الشعري مع الاحتفاظ بالروي، لتصل في بعض الكتابات الحديثة إلى مجرد الاحتفاظ بالصيغة دون الروي ، فضلا عن التوزع داخل الجملة الشعرية بدل التحصن في مواقعها التقليدية عند نهايات الأبيات >>(72) ، فهي مولّد إيقاعي/معنوي نظرا لبنيتها الصّوتية  بعيدا عن كونها عنصرا تُعرف به أواخر الأبيات في الفكر النّقدي القديم ، حيث تتجلَّى قيمتها الصوتية والجمالية في تركيبتها المكونة من حروف وحركات و مقاطع صوتية بالأساس.

.عناصر القافية الشعرية:

ميَّز “المسعدي” عناصر ثلاثة للقافية الشعرية، بقوله:

<< إنّ ثلاثةأنواع من العناصر مختلفة صوتيّا تتضافر في تركيب القافية: عنصر ذو جرسحرفي وعنصر ذو جرس حركيّ وعنصر جامع بين جرس الحركة ومداها وهما الرويّوالمجرى أي الحرف الأخير وحركته. وقد يكفيان وحدهما لتكوينها كما هوالشأن في القافية البسيطة. أما في القافية المركّبة فتضاف إليهما أصواتأخرى ويصبح عدد العناصر الثابتة التي لا تتغير أكبر ويتراوح بين الثلاثةوالستة>>(73).

          من هذا المنظور تخرج عن مفهومها العروضي “الصَّارم” الذي يحددها ضمن حيز واقع  بين آخر ساكنين والمتحرك قبل أولهما، لتكون مجالا صوتيا متحركا ومتجددا باستمرار بدلا من الجمود والصرامة.  ويمكن إحصاء عدة أشكال للقافية، هي:

1.2. القافية البسيطة:

يتسم هذا النَّوع بأحادية الشكل والتكرار فلا تغيير ولا تنوع فيها ، والقصيدة العمودية مجالها الخصب،غير أننا نجدها في النصوص الحرة خاصة مع بدايات التحول الشعري على غرار نصوص “نازك الملائكة“، وبدايات “صلاح عبد الصَّبور“..ومع ذلك فإنها لا تزال   تجد لها مكانا في النصوص الراهنة على غرار الأسطر و  الجمل الشعرية ، بحيث لم تعد حكرا على النصوص العمودية، ومن أبرز أشكالها:

  • القافية السطرية:

      إن السَّطر الشعري يعتبر البديل الحداثي للبيت الشعري وهو وحدة من الوحدات الدلالية المشكلى للنص الحر أو النثري ولكنه لا يستقل عما عداه كما هو الحال في الشعر الكلاسيكي ، و <<التقفية التي يعتمدها السطر الشعري هي من أبسط أنواع التقفية البسيطة الموحدة، إذ إنها تنهض على أساس تكرار قافية موحدة في كل سطر شعري، قد تتعاقب تعاقباً لا انقطاع فيه، وقد تنقطع بين الحين والآخر لكنها في كل الأحوال تعتمد السطر أساسا لها..>> (74) ، وهو ما يجسده قول “قدور رحماني”  في قصيدته   (رفرفة الخروج)

“قمرٌ بعمق هديلك الشّتويّ غيّبه المطرْ   

فجلست فوق ضفاف جرحك كالقمرْ

تتلو كتابا من دموع 

ومراحل الحبّ المغيَّب في السَّحرْ    “(75)

فقد وظَّف الشاعر القافية توظيفا كلاسيكيا لا يختلف كثيرا عن النُّصوص العمودية، وتقيّد في هذا المقطع بقوانين العروضيين، ممّا يجعل حراك النَّص خطيا/ أفقيا دون توتُّر ملحوظ.

ويتجلّى ذلك بوضوح  أكثر في نصّ “ (إبحار في ثنايا السؤال) لــ:”حسين عبروس“حيث تبرز النّمطية التقليدية في التشكيل القافوي وحتى في توزيع الأسطر الشعرية ، فالنّص – في مظهره- يبدو كقصيدة عمودية :

“رنّ هاتفي وبكى

مبحرٌ في عيون الجمالْ

واستحال المدى ثورةً

توقظ الروح في ثنايا السؤالْ

هو ذا الكونُ لييرسمُ صورة ًللجلالْ

كلما أبحر النّاسُ

في ثنايا السؤالْ“……….(76)

    إنّ توالي القافية بهذا الشكل الرتيب يفقد النَّص كثيرا من ملامحه الجمالية ، ويُغيّب ُعنصر المفاجأة في غياب الاشتغال المبهج ، الاشتغال على الفجاءة بكل ّتوثباتها.

2.1.2.   قافية الجملة الشعرية:

      لا تتحدَّد سطور الجملة الشعرية بعدد ما، بقدر ما هي بنية دلالية مستقلة ، مكتملة المعنى والفكرة والشعور ، و<< استقلاليتها ليست استقلالية دلالية بل استقلالية موسيقية، إذ إنها تعتمد على الدفقة الشعورية التي تتناسب في طول موجتها من الموقف النفسي والعاطفي والفكري للتجربة الشعرية من جهة، ومع طول النفس عند الشاعر من جهة أخرى>>(77) ، فهي بنية موسيقية مكتفية بذاتها(78)تمتدّ أو تقصر بحسب ما تقتضيه الدفقة  الشعورية من وقف نهائي  ، وبالتالي فإن الوقفات الداخلية  بمثابة “قافية”  في:

<< إتاحة الفرصة والاستمرار .وهي عملية أدق و أرهف من الوقفات المألوفة في نهاية السطر الشعري>>(79)لها دلالاتها الإيقاعية و النفسية و الفنية، فإذا كنّا<<إزاء جملة شعرية فلا سبيل مطلقا للبحث عن وقفة موسيقية مريحة عند نهاية كل سطر >>(80) هذه الوقفات وظيفتها التصعيد الإيقاعي حد الذروة عند نهاية الجملة الشعرية ، فيمتلك بذلك هذا النوع من القافية أفضلية إيقاعية  ، وكنموذج لهذا الشكل الإيقاعي، أقف عند المقطع التالي من قصيدة (لمسات يومية) (81)  لـــِ: “الأخضر فلوس” :

“في الطريق أشارت إلى حائط مائلِ…      وقفة أولى

ثمَّ قالت :

أأبصرتَ ذاك الفتى؟….            وقفة ثانية

“إنَّهُ العقبهْ“…          قافية الجملة الشعرية

إذْ عبرنا تمايل و التفتَ،

ثمَّ قام ليشعل نيرانهُ  ….       وقفة ثانية

في الرؤى المعشبهْ”   قافية الجملة الشعرية

       في هذا المقطع الشعري لم تكن الوقفات الثانوية قوافيا، بل أنَّ القافية تتجسَّد عند نهاية كل جملة شعرية، وهو ما يجعل باقي الوقفات عوامل إقلاع و هبوط إيقاعي بحسب الدفقة الشعرية، فهي بمثابة عناصر مساعدة للوصول إلى قافية الجملة الشعرية /الذروة الإيقاعية.

3.1.2.  القافية المختلطة:

النوع الثالث من أنواع القافية البسيطة “الموحدة” الذي لا يعتمد النظام السطريعلى نحو مستقل ولا على نظام الجملة الشعرية ، بل قد تأتي في القصيدة الواحدة قافية موحدة لكنها موزعة توزيعا عفويا لا يخضع لنظام ثابت بل يخلط بين النظامين آنفيْ الذكر.

وهذا النوع يعطي الشاعر حرية أكبر في الاستخدام التقفوي، فهو يترك للقصيدة حريتها في اختيار مناطق التقفيات بلا تخطيط مسبق مما يجعلها أقل عرضة لتوليد الملل عند المتلقي بفعل سيولة التقفية وانسيابيتها.

 

      يشكلّ  “عزوز عقيل ” في قصيدته (مقاطع من رحلة الضّياع) (82) منطقة مختلطة بين “القافية البسيطة” و”قافية الجملة الشعرية” في حركة تنويع تقفوي تجعل النَّص متحركا باستمرار، إذْ يقول:

“سلامٌ سلامٌسلامْ     ………….قافية سطرية

سلامٌ إلى طفلةٍ ذاب

من شفتيها الكلامْ      ………..قافية سطرية

سلامٌ إلى طفلةٍ

علمتني بأنْ أقرأ الآنسورة “مريم”   ……وقفة أولى

فقلتُ لها :                     ……وقفة ثانية

أنت ريحانةٌ……………………وقفة ثالثة

بل بدايتها و الختامْ”……….قافية الجملة الشعرية

 

2.2. القافية المتواطئة: 

كانت تُسمّى في الفكر النقدي القديم “الإيطاء” ،وهو عيب عروضي مخلّ بالقصيدة ونظامها(83) ، فالشاعر الذي يكرر القافية نفسها في بيتين متتالين يُعتبر قاصرا بلاغيا، ولو أنَّ “المظفر العلوي ت:1295ه ” صاحب كتاب(نضرة الإغريض في نصرة القريض) أطلق علية تسمية “تجنيس القوافي” واعتبره  ملاذا بديعيا.

 

ثمَّ انزاح هذا المفهوم  ليصير عنصرا فنيا في الشعر المعاصر بما يمنحه للشاعر من قدرة على تجديد المعنى، صناعته أو اختلاقه، و الشعراء<< لم يهملوا القافية في القصيدة الحرة بل طوروها لتكون أكثر مؤاتاة للبناء في القصيدة الحديثة>>(84)و ذلك لكونها << تعاطت مع الإيطاء على أساس أنه حدث إيقاعي يترجم قدرة النص على تكثيف اللغة الشعرية  والغوص في أعماقها لإعادة بناء طبقـات المعنى…فليست هناك إعادة للمعنى الوحيد نفسه،وإنما تناسل ونمو لمعان جديدة، ففي كل مرة ترد المفردة إنما تعاد خلقا جيدا عبر محيطها السياقي المتجدد بما يولده من معان حافة جديدة>>(85) هذا التوليد خاصية تفعّل وتجدد الحدث الإيقاعي في النَّص باستمرار.

الشاعر عاشور فني

   يقول “عاشور فني” في مقطع من قصيدته (رجل من غبار):

كان في قلبه امرأةٌ لم يكن هو في قلبها

كان في قلبها رجلٌ لم تكنْ هي في قلبهِ

رجلٌ لم يكن فيه قلب

فأغرق في الصَّمت حتى افتضحْ(86)

 

   رغمَ تكرُّر القافية “قلب” في هذا المقطع مرات ثلاث متوالية ،إلاّ أنها لم تكنْ عبئا على النَّص بقدر ما كانت توليفة إيقاعية متَّسقةً، مشوِّقة على بساطتها، ففي كل مرة تُحدث زخما لافتا مفتوحا على كثير من الأسئلة، كثير من التوهج يتجاوز “الإيطاء” إلى التحليق في سماوات المعنى، في تواشيج الإثارة.

و لا يختلف الأمر في القصيدة “النثرية”، فتكرار “القافية” يتّخذ حيزا متوترا له تمثلاته ، فلا نشعر بسلبية “الإيطاء” و لا برتابته بخلاف النظرة “الاحتقارية” القديمة لهذا الشكل التكراري، يقول التونسي “محمد لحبيب زناد”  :

“قصائدي

لا تحمل طعم قديم الشِّعرِ

وكثيرا ما تُعبّر عن شكل هذا العصرِ

عن مشاكل هذا العصرِ(87)

فتكرار “العصر” كان ذا أثر مليح مستحبّ مستلطَف حين نوغل في المعنى، ولو أخذناه بظاهره لكان هنة ً في عرف “ميكانيكيي” البلاغة  و  العروض و اللغة، لذلك فلا ينبغي الحكم ُ على التكرار إلا في سياق المعنى.

 

3.2.القافية المتوالية والمتناوبة/المتناوبة:

        تقوم على أساس التوالي والتناوب بعيدا عن صرامة قوانين “العروض” في هذا الجانب، حيث << تنزع القوافي في بنية التوالي إلى الاطراد المعروف في القصيدة العربية الكلاسيكية  وذلك من خلال رصف أبيـات متتالية ذات قواف تنتهي بروي موحد؛ بينما تتأسس بنية التناوب على المراوحة بين روييْن أو أكثر بحيث تتخلل الأبيات المنتهية بقافية وروي موحدين أبيات أخرى ذات قافية وروي مغايرين..>>(88).

        وكمثال على ذلك، أقف عند قصيدة (الربيع الذي…) لـِ: “الطاهر لكنيزي” التي تقدم صورة مبسّطة عن هذا الشكل التقفوي:

“الربيع الذي كان سجع يمامْ            قافية متناوبة   “تناوب”

يرتّلُ متن الحنينْ                      قافية متوالية   ” توالٍ”

قد أتى دون حفحفةٍ أو طنينْ      قافية متوالية

الربيع الذي كان كفَّ نسيمْ        قافية متناوبة         “تناوب”

 تدغدغ أعطاف رمل

تحطُّ الدوالي على كتفيه جدائلها..

 وتنامْ

…………………………….”(89).

   أما عن “التناوب المنتظم“على شكل أزواج أو أسراب(90) فيتجسّد في نص (إذا ما رأيت الفراغ يسود) لِـ: “محمد لعروسي المطوي” بقوله:

“إذا ما رأيتَ الفراغ يسودْ  قافية دالية

وعبّاد َوهمٍ و صرعى جمودْ

وهم يجهلونْ

ولا يفقهونْ        قافية نونية

       لقد شكل “التناوب” عن طريق “الأزواج المتكررةلعبة إيقاعية جريئة وزَّع  من خلالها الشاعر القافية وفق تصوره  ، ووضع مقاما نصّيا إيقاعيا خاصا به يتناسب و رؤاه الشعرية بعيدا عن كل تقييد نظري، وهو إذْ يُقدم على هذه  الخطوة إنما يتَّخذ المبادرة و يشكل نسيجا شعريا خالصا له ، وفيا بذلك لقناعاته الإيقاعية .

4.2. القافية الحرة و المنوَّعة:

   يمثل هذا النَّوع أحد مظاهر الحراك الشعري الحداثي، والذي بفعله تحولت “القافية” من شكلها النَّظمي الكلاسيكي المتعارف عليه إلى حالة أخرى تتسم بنوع من التكثيف و التشابك لتمثِّل عنصرا  فنيا له دوره في التشكيل الإيقاعي من جهة ، وفي فعل التلقي من جهة أخرى لما تتميز به من <<دقة الجمال الموسيقي وعذوبته ..>> (92).

 

         إنَّ هذا التحول الذي عرفته الشعرية الحديثة يعكس حالة الراهن بكل تعقيداته ، وبالتالي فهو امتداد طبيعي جعل الشاعر أكثر ميلا إلى<<الموسيقى المركبة منهم إلى الموسيقى البسيطة>>(93) ، وهو ما يعني أن هذا الشكل من القافية ينبني على عنصر التنوع والحيوية بما ينعكس إيجابا على المتن الشعري ،وبما يحمله من ملامح الهدم/هدم الرتابة وتغييب عنصر الفجاءة في القصيدة الشعرية في ظلّ انفتاح النَّص على الفجاءة لا التوقّع.

عبد الرزاق بوكبة

     يعزف  “عبد الرزاق” بوكبة ” على هذا الوتر في نصه (عصير التفويض) ويعلن رغبته في كسر حالة الجمود   بقوله:

“قلتَ:أصل الحقيقة أنثى؟

و أصلُ الشياطين حرف تنزَّه عن سجدة الطين؟

السُّنبلاتُ حديث يدينْ؟

ومواسمنا شغف الله بالدوران/

المواويلُ فالتُ حواء

 وهي تشقّ أبانا  مطلقة

 فصارت جميع الأغاني إناث؟”(94).

       ما يلاحظ في هذا المقطع هو تنوع القافية  القوافي، فقد وظف القافية المطلقة 3مرات”أنثى،أبانا،إناث”،ووظف القافية المقيدة 3مرات ” الطين،يدين، الدوران” و تنوعها ممَّا جعل كل سطر شعري يمثل حالة إيقاعية مختلفة و غير متوقعة، فالمتلقّي تستفزّه الفجاءةُ الفجاءة المحبّبة في مثل هذه الحالة الشعرية التي تبرز قدرة الشاعر على صياغة عوالمه الشعرية وهندسة حركية نصّه بحثا عن كل مختلف.

 

هوامش الفصل الأول:

(1):إبراهيم السامرائي، في لغة الشعر، دار الفكر للنشر والتوزيع، ط1،عمان، الأردن، 1973م ، ص: 73.

(2):رينيه ويليك و أوستن وارين، نظرية الأدب، ترجمة: محي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية،الكويت، 1972م، ص:205

(3): I. Tynianov, Le vers lui – meme, 1977,p :70                                 (4):محمد صابر عبيد، القصيدة العربية الحديثةبين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق،2001م،ص:26/27.

(5):محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، المركز الثقافي العربي،ط2، الدار البيضاء ،المغرب، 1985م، ص:80.

(6): I. Lotman, Le structure du terte artistique, gallimard, 1973, p : 221                                                                                                  

(7):بنية اللغة الشعرية، (مرجع سابق)، ص: 52-53.

(8): رومان جاكوبسن، قضايا الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، ط1، الدار البيضاء، المغرب، 1988م، ص: 105.

(9):محمد كنوني، اللغة الشعرية، دراسة في شعر حميد سعيد ، دار الشؤون الثقافية العامة،ط1، بغداد، 1997م، ص:116.

(10): محمد مفتاح، التلقي والتأويل – مقاربة نسقية – المركز الثقافي العربي ، ط 1، بيروت، لبنان، 1994م، ص: 152.‏ 

(11):يوري لوتمان، تحليل النَّص الشعري، ترجمة و تقديم وتعليق :محمد فتوح أحمد، دار المعارف، القاهرة، 1995م، ص:98.

(12):محمد عبد الله القاسيمي، التكرارات الصوتية في لغة الشعر،عالم الكتب الحديث، ط1، الأردن، 2009م ، ص:57

(13): التلقِّي و التأويل،(مرجع سابق)،  ص:149.

(14): قضايا الشعرية، (مرجع سابق)، ص: 46.

(15):سليم دراجي،علم ودم وحمام،دار الريحانة للكتاب،ط1،الجزائر،2007م،ص:29.

(16):عياش يحياوي،شظايا الذي لم يقل للقراصنة مرحبا،ديوان الجاحظية، التبيين،2007م، ص:50

(17):عبد الفتاح صالح نافع، عضوية الموسيقى في النص الشعري مكتبة المنار، ط1، الزرقاء،1985م، ص:18.

(18):المرجع نفسه ، ص:31.

(19):قضايا الشعرية ،(مرجع سابق)،ص: 54.

(20):بنية اللغة الشعرية، (مرجع سابق) ، ص:90.                                        

(21): القصيدة العربية الحديثةبين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية،(مرجع سابق)، ص:28.                                                                  

(22):الخليل بن أحمد،كتاب العين، الخليل بن أحمد، تحقيق: مهدي المخزومي وآخرون، ج5، ط1، دار الرشيد للنشر، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1982م، ص:277.

(23):ابن معصوم ،أنوار الربيع في أنواع البديع، تحقيق : شاكر هادي شكر، مطبعة النعمان ط1،ج5، النجف، 1969م، ص:34/35.                                                                                                 (24):أحمد مطلوب، معجم النقد العربي القديم، ج1، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، الأعظمية، بغداد، 1989م، ص:370.                                                                                                             (25):سمير سحيمي، الإيقاع في شعر نزار قباني من خلال ديوان قصائد، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2009م، ص:127.                                                                                                       (26):المرجع نفسه والصفحة.

(27):مجدي وهبه و كامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، ط2، بيروت،1984م، ص: 117-118. 

(28): الإيقاع في شعر نزار قبَّاني،(مرجع سابق)،ص:129. 

(29):محمد عبد المطلب، بناء الأسلوب في شعر الحداثة، القاهرة، 1988م،ص:390.

(30): الإيقاع في شعر نزار قبَّاني، ص:128.

 

(31): يمنى العيد، في القول الشعري، دار توبقال للنشر، ط1، الرباط، 1987م، ص: 17-18.               

(32): حاتم الصكر، مالا تؤديه الصفة، بحث مقدم إلى مهرجان المربد العاشر، 1989، مطبوع بدار الحرية للطباعة، بغداد، ص:21.     

(33): غيورغيغاتسف، الوعي والفن، ترجمة: نوفل نيوف، سلسلة عالم المعرفة ، العدد:146 ، الكويت، 1990م، ص:78. 

(34):سوزان بيرانا، جمالية قصيدة النثر،قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: زهير مجيد مغامس، مطبعة الفنون،ط1،  بغداد. دون تاريخ، ص:31 .

(35): محجوب العياري، حرائق المساء،حرائق الصَّباح ، بيت البحر المتوسط،ط1،الحمامات،تونس،1993م،ص:55.

(36):فاتح علاق،آيات من كتاب السهو، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين ط1، 2001م،ص:36

(37):نور الدين طيبي،نادية، ديوان الجاحظية، ص:120.

(38):عثمان لوصيف،الكتابةبالنار،المؤسسة الوطنية للكتاب، ط1 ،الجزائر، 1985م، ص:34/35.

(39):علي ملاّحي، البحرُ يقرأ حالته، الجاحظية ، ط1،الجزائر، 2011م، ص:88 وما بعدها.(40): مجدي بن عيسى، ديوان اليومي،المغاربية للطباعة و إشهار الكتاب، ط1، تونس، 2010م، ص:27.

(41)عبد الرحمان بوزربة، وشاياتُ ناي، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين،ط1، الجزائر، 2001م، ص:84                 

(42):المصدر نفسه، ص:90.

(43):فوزية شلابي، أحبك وكم أنت جبان،الفصولالأربعة،عدد خاص بالمشهد الشعري الليبي بين 1970و1990م، 1993م، ص:155.

(44):عادل صيّاد،أشهيان، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، ط1، الجزائر،2001م،ص:62.

(45):عيسى قارف، النّخيل تبرأ من تمره، منشورات التبيين،الجاحظية،ط1،  الجزائر، 1999م، ص:23.    

(46): مدحت سعيد الجيار، الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي ، الدار العربية للكتاب والمؤسسة الوطنية للكتاب، ط1،  ليبيا، 1984م ، ص:47.

(47): مجاهد البوسيفي، بيان خاص و عادي،الفصولالأربعة،عدد خاص بالمشهد الشعري الليبي بين 1970و1990م، 1993م، ص:157. (48): الإيقاع في شعر نزار قبَّاني،(مرجع سابق)،ص:132

(49):أحمد عبد الكريم، معراج السنونو، منشورات الاختلاف، ط1، الجزائر، 2002م، ص:43/44.                     

(50): الإيقاع في شعر نزار قبَّاني،(مرجع سابق)،ص::138.   

(51):المرجع نفسه، ص:140.                                                                                               (52): نفسه، ص:142.

(53): فاطمة أحيوض، إنَّ موعدكم الصبح،منشورات مكتبة سلجماسة، ط1، مكناس، المغرب ،2001م، ص:58.                                                                                                                                                (54):محمد الخبو، مدخل إلى الشعر العربي الحديث، دار الجنوب للنشر، ط1، تونس،

(55):زهرة بلعاليا، ساحل و زهرة، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، ط1، الجزائر،2001م، ص:20.                                                                      (56):إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، مكتبة الانجلو المصرية،ط5، القاهرة، 1978م،ص:8.

(57):أ.ريشاردز ،مباديء النقد الأدبي، ترجمة : مصطفى بدوي، مراجعة: لويس عوض، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة العامة للطباعة والنشر،  ط1، القاهرة، 1961م، ص:88.

(58): نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين،ط7، بيروت، 1983م، ص:263 وما بعدها.

(59):الإيقاع في شعر نزار قبَّاني،(مرجع سابق)، ص: 129.                                   

(60): أحمد مطلوب، معجم النقد العربي القديم، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، ،  ج2، بغداد،1989م،ص: 170.                                                   

(61):المرجع نفسه والصفحة نفسها.

(62):رشيد العبيدي، معجم مصطلحات العروض والقوافي، ط1، بغداد، 1986م،ص: 207.(63): معجم المصطلحات العربية في اللغة والآداب، (مرجع سابق)، ص:282.                                           (64): المرجع نفسه، ص:246.

(65):                I. Lotman, Le structure du texte artistique,

Gallimard,paris ; 1970, p : 181

 (66): المرجع نفسه والصفحة نفسها.                                                                               (67):إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر،(مرجع سابق) ، ص: 246.(68):أدونيس، الشعرية العربية ،(مرجع سابق)، ص: 13                                                                                                            (69):منيف موسى، الشعر العربي الحديث في لبنان، دار الشؤون الثقافية العامة، ط2، بغداد، 1986م، ص: 234.

(70): القصيدة العربية الحديثةبين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية،(مرجع سابق)، ص: 90.                                                                              (71):المرجع نفسه، ص:88                                                                                                                                        (72): في البنية الإيقاعية للقصيدة العربية الحديثة،(مرجع سابق)، ص:134.

(73):الإيقاع في السجع العربي،(مرجع سابق)، ص:54/5                           

(74):القصيدة العربية الحديثةبين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية،(مرجع سابق)، ص:100.                                                                              (75): قدور رحماني، قراءة في عينيك،دار هومة، ط1،الجزائر،2002م، ص:31.

(76): حسين عبروس، النخلة أنت والطلع أنا ، منشورات دار الحضارة، ط1،الجزائر، 2004م، ص:13                                                                     (77) القصيدة العربية الحديثةبين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية ، ص:108.

(78):عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر،قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ، دار العودة، ط3، بيروت، لبنان، 1981م، ص: 108.                                 

(79):المرجع نفسه ، ص:120.

(80): نفسه، ص:115.

(81):الأخضر فلوس،مرثية الرجل الذي رأى،منشورات الاختلاف، ط1،الجزائر،2002 م، ص:10.

(82):عزوز عقيل، مناديل العشق، التبييين، الجاحظية، ط1، الجزائر،2000م،ص:34.

(83):انظر:ابن رشيق، العمدة في صناعة  الشعر ونقده، ج1، تحقيق:محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية، ط2، القاهرة، 1955م ، ص:169/170/171.      

(84):صالح أبو إصبع، الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط1،بيروت، لبنان، 1979م، ص:240.

(85):  في البنية الإيقاعية للقصيدة العربية،(مرجع سابق)، ص: 142 .                                                     (86):عاشور فني، رجل من غبار، منشورات الاختلاف،ط1،الجزائر،2003م،ص:7.

(87): محمد الحبيب زناد، كيمياء الألوان، الدار التونسية للنشر، ط1، تونس، 1989م، ص:10

 (88):في البنية الإيقاعية للقصيدة العربية، ص:134.

(89):الطاهر لكنيزي، كيمياء السؤال،منشورات جماعة الديوان المغربية،ط1، مراكش، المغرب ،2001م،ص:39(90):حسين العوري ،الشعر الحر في تونس، مجلة القصيدة،مطبوعاتالتبيين،الجاحظية، الجزائر،العدد:9، 2001م،ص:90.

(91): المرجع نفسه و الصَّفحة.

(92):صفاء خلوصي، فن التقطيع الشعري والقافية، منشوراتمكتبة المثنى، ط5، بغداد، 1977م، ص: 224/225.

(93):علي يونس، النقد الأدبي وقضايا الشكل الموسيقي في الشعر الجديد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، القاهرة، 1985م،ص: 158.

(94):عبد الرزَّاق بوكبة، من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟، منشورات المكتبة الوطنية/ دار البرزخ، ط1،الجزائر، 2004م، ص:31.