الرئيسية / اكاديميا / سيمياء الأبجدية في ديوان صحوة الغيم لعبد الله العشي

سيمياء الأبجدية في ديوان صحوة الغيم لعبد الله العشي

الدكتورة آمنة بلعلى*

 

 

 

 

 

باحثة أكاديمية من جامعة  مولود معمري – تيزي وزو

 

يحرص الشاعر عبد الله العشي في كل مرحلة من تجربته الشعرية، على أن يمثّل توجّها مركزيا من الحداثة الشعرية العربية، التي تجعل من الذات قطب الرحى في مسعاها التجديدي، ولذلك نراه ومن خلال دواوينه الثلاثة، ينتقل في مقام البوح من هاجس التعلّق بالأنثى باعتبارها مركز الكون، و تدفعه في الديوان الثاني إلى الأسماء الفضلى، فيطوف بالقيم الأخلاقية الكبرى من خلال الطواف بالأسماء، وهاهو في هذا الديوان يتحقق له المعنى الذي طاف من أجله، فيقدم لنا كيف يصبح الإنسان هو القيمة الأخلاقية الكبرى، حين يتناغم مع الوجود ويسبغ على الحياة معناها الكبير. ولعل من هذه النقطة بالذات يتجلى توافق الشاعر التام مع الحداثة، التي  تمثل فيها الإيديولوجية الحداثية “آخر صورة للاعتقاد في وحدة الإنسان بالطبيعة”[1]. خاصة وأننا نعيش عصر التحوّلات الكبرى التي لا تعطي فيه أي قيمة للإنسان ولا للطبيعة.

يقدم الديوان من خلال العنوان “صحوة الغيم” تركيبا علاميا من عنصرين هما الصحوة والغيم، باعتبارهما مكوّنين أساسيين يقوم عليهما توليد الدلالة فيه. وهذا يعني قابليتهما لعملية استثمار تأويلي يقوم على استنطاق كل نص في الديوان استنادا إلى هذين العنصرين في العلاقة التي يبدوان فيها.ما يعني أنها ستؤطّر النسق الاستعاري الذي يقوم عليه الديوان، ويدلّل على هذا مبدئيا الحضور المكثّف للطريقة التّشخيصية التي تقوم عليها عناوين القصائد والحضور المهيمن للصباح والمساء في متن النصوص وبروز الآخر الأنثى التي تعتبر علاقة الأنا المتكلم بها هو الحضور وما عداها غياب، تبعا لما ذهب إليه ألان تورين في أننا “نرى في الآخر وعلاقتنا به حضورا للوجود ولللانهائي”[2].

وإذا كان عنصر الصحوة يوحي إلى ما هو إنساني وإلى الولادة والحياة وكل المظاهر الطبيعية المرتبطة بالصحو كالصفاء والضياء وكل ما يعبّر عن الاستفاقة كالتذكّر مثلا، فإن الغيم وهو عنصر كوني يؤشر إلى الحجب والاختفاء وكل ما يعبّر عن الغموض أو النسيان. وإذا ما ربطنا بين أحد عناصر المجال المصدر(الصحوة) وهو النور، مع أحد عناصر المجال الهدف (الغيم) وهو الماء سيصبح توظيف الحروف كبدايات لكل القصائد، الذي يعادل بداية الصحوة أو الاستفاقة أمرا مستساغا في مثل هذا المزج التصوري في بناء النسق الاستعاري وجواز ربطه باعتباره إسفارا عما يمكن أن يكون غموضا في النصوص؛ أي أن الأبجدية ستصبح وسيلة لفك الخفاء الدلالي الوارد في النصوص، وكلما تتالت الأبجدية أسفر الشاعر عن معنى، وهذا ما يتبين من خلال الإهداء الذي يقول فيه: إلى صحوة أنتظرها وغيمة أتوقعها وأبجدية تعبر بمائها سلطان المسافات،  فليست المسافات إلا المسافة  بين الإنسان والكون أو بين مجهول ومعلوم، فنقرأ الإنسان وهو يتحول في الديوان إلى كون ويتناثر عبر القصائد ليتحوّل إلى قيمة مطلقة.

بين الإسفار والحجب، والمعلوم والمجهول إذن، يتجلى لنا، شيئا فشيئا، الموضوع الدينامي في الديوان الذي تتأسّس من خلاله البطاقة الدلالية للآخر الأنثوي، ويكون كل حرف من حروف الأبجدية دالا يسهم مع الدوال الأخرى في رسم صورة تلك المرأة القيمة، في الوقت الذي يقص فيه علينا تجربته مع الحرف، فيعرّفه بالإضافة أحيانا ـكـ”ألف الأسماء، وحكمة الباء، ويجعلها أحيانا جزءا من الكلمة مثل: حيرة المعنى وخجل الأسئلة وأحيانا يجعلها مستقلة بذاتها مثل “قاف كاف”  وكل ذلك من أجل أن يرسم لنا رؤيته وموقفه الوجودي، من خلال تثوير العطاء الرمزي للحرف، ذلك أن الشاعر لا يريد أن “يفقد الخيط الناظم بين الماهية اللغوية للحرف باعتباره رابطة، والاستعمال المجازي للحرف، بمعنى الألم المعنوي والأدبي، لكنه يصهر تلك المعاني الرمزية المتوارثة بالبعد الصوفي التجريدي، دون أن يغفل عن مركزية الأنا في العملية الإبداعية، ولا عن معاناة الذات المتقلبة على لظى المعرفة، بين كائن التشكيل وممكن التأويل”[3]

 

 

وهكذا تبدأ تجربة الشاعر مع الأبجدية ، من خلال علاقة ذات أطراف ثلاثة، هي الصحوة والغيم والأبجدية التي يتمثل دورها في التوحيد بين الطرفين، والإيجاد الذي تتكفل فيه بردم ذلك التناقض الحاصل بين الإنسان والكون، وهو ما تجسده افتتاحية الأبجدية التي يقول فيها

الله يالله

أنرت من أمامه أضواءك الخضراء

فاساقطت على يديه

لكنه…

منطفئ القلب، كل نبض فيه

 مدينة عمياء

الله يا الله[4]

إنه بمثابة البيان الشعري الذي يتحدى فيه الأبجدية في الوقت الذي يستنجد بها، من أجل أن تعود للإنسان مرجعيته، وقيمته التي ضيّعها، وأصبح لا يرى النور الذي يعم الكون وينير له السبيل، لكي يتجاوز غربته، التي تركته غير مطمئن لكينونة، كل نبض فيها ينطق بالخواء.

هذه الرؤية الوجودية لعلاقة الإنسان بالوجود لا يتم ترميمها إلا بأبجدية صماء سوف يخلق فيها الحياة، ويجعلها الجسر الذي يعطي للإنسان انسجامه مع هذا الكون من خلاله تغلغل عنصر ثالث يبدأ في التشكل ويختلط مع الكون ويمكن من إحداث علاقة انسجام معه، وتجاوز  انطفاء القلب ويظهر ذلك  مع أول قصيدة وهي ألف الأسماء، التي تسترجع فيها الذات المتكلمة كيف حدثت الغربة وكيف انفصمت العلاقة مع الكون، من خلال حالة انفصال معه فيقول:

في الصباح الذي ضاع من يومنا…

كنت أسند ظهري على موجة…

وأعد الزمان

ساعة … ساعة

في تفاصيل أيامنا

في الصباح الذي ضاع من يومنا…

كنت أرسم حلمي على الرمل…

أعبر ظلي..

وأحفر هذا المدى باستعاراتنا.

………

……….[5]

يتشاكل المقطعان الأول والثاني للتعبير عن  الغربة التي أعلن عنها في الافتتاحية، من خلال ضياع الصبح  من العمر وانطفاء القلب الذي تؤكده استعارات من قبيل كنت أسند ظهري على موجة، وكنت أرسم حلمي على الرمل، وأعبر ظلي، وتلعب الكنتية (كنت) هنا دور المؤشر إلى حالة انفصال وقعت في الماضي وارتبطت بالأنا المتكلم المفرد وكأن الضياع هو حالة تخصه هو، كانت نتيجة التوهم في سند و حلم وهميين تركاه في حالة انطفاء للحياة وتوقف للزمن. فضياع الصباح الذي يتكرر هو ملفوظ حالة زمانية ونفسية تعبر عن  علاقة الانفصال بالحياة وبالسبيل الذي أناره له الله. وتتأكد من سطري الصمت اللذين تؤثثهما النقاط المتتابعة تعبيرا عن الهوة والفراغ  والموات الذي خلقه الانفصال.لكنه الموت الذي تنبعث منه الحياة فما يلبث أن يحدث تنافرا دلاليا باستحضار الصباح الذي ضاع في المساء، والاتصال بين الذات المتكلمة وما ضاع منها فيقول:

في المساء

سيعود الصباح ويسأل عنا

وليكن ما يكون

سوف يجمعنا بتفاصيلنا

 سيظللنا قمر في الغياب..

 ويضيء لنا قمر في الحضور[6]

يتفاءل الشاعر بالمساء الذي يستحضر الصباح، وهذا التصور الاستعاري الجديد سيلقي بظلاله على ما تبقى من القصيدة في جزئها الثاني، حيث ننتقل من الحديث بصيغة المفرد إلى الجمع،  الذي يتواتر من خلاله كل ما يوحي إلى الاتصال، “سيجمعنا.. يظلّلنا قمر في الغياب، ويضيء لنا قمر في الحضور” وسيتحول الصباح الذي ضاع إلى بداية الحياة من جديد،  ويعود الشاعر منه عبر الزمن ليسير عكس الزمن الواقعي، ويكون الفجر هو نهاية الغربة، “سيختم بالفجر غربتنا” وكأن الشاعر يعود بالزمن إلى الوراء، من المساء إلى الصباح،  فالفجر الذي يكون نهاية المعاناة، لأنه واقعيا بداية العلاقة مع الله، الذي ناشده في الافتتاحية بعد انفصاله عنه، وها هو يؤسس للعودة إليه مرة أخرى. وسواء كان الطرف الثاني هو ذات أخرى لم يفصح عنها الشاعر كأن تكون الأنثى، أم أنها الذات الإلهية، فإن بعودته، سينار الدرب من جديد، ويزول العماء عن كل نبض فيه، ويعود الصدى للجراحات وتجمع الخطوات ويلملم ما بعثرته الرياح ويرمم ما جرحته المراثي وتضاء الفراغات ويفتح المجال للأحلام مرة أخرى ويتم العناق،  وكل هذه الحالات التي تتشاكل سماتها معنويا ولفظيا ترسم لنا حالة جديدة مغايرة للحالة الأولى وهي حالة الاتصال، ويتحول العماء إلى نور فتهيمن الصور المرئية على القصيدة لترسم صورة جميلة لحياة مرتبطة بالسوفية (سوف)، لكنه سيعطي لحياة الشاعر القيمة والمعنى الذي فقدته، ليتمكن الشاعر في نهاية القصيدة من تقييم المسار الذي سارت عليه القصيدة ، فيختمها بما يشبه الحكمة بقوله: هكذا تنحني وتقوم سنابل أيامنا”

تلخص هذه العبارة، المقولة الدلالية التي تنبني عليها البنية العميقة  للقصيدة الأولى في الديوان، فأول الأسماء هي المقولة الدلالية التي ينطلق منها منتج الخطاب وهي كما رأينا تقوم على ثنائية يمكن حصرها في الحياة والموت وما تفرع منها كاليأس والأمل،  وهي الثنائية التي سوف يقوم الشاعر باستثمارها خلال الديوان، من خلال عالم الظاهر الذي هو المشبه به وهو الكون الاستعاري المرتبط بالطبيعة للتعبير عن  مشبه خفي هو الباطن الذي هيأ له هذا الكون الاستعاري  والذي يشكل تجليا له وهي الأنثى السارية في  قلب الشاعر، مثل الأنوثة السارية في العالم، باعتبارها التجسيد الحي للصورة الإلهية في جمالها وجلالها، مثلما يرى ذلك المتصوفة، ومن هنا، سوف نشهد في بقية الديوان ومن خلال رمزية الحروف مجلى لكل صور الجمال والكمال، فنكون أمام آلية في التصوير  قائمة على الطبيعة في صورة أنثى، ويتآلفا ليصبحا ظاهرا يعبر عن التصور العام الذي عبرت عنه الافتتاحية، فالطبيعة التي هي صورة للمرأة تتحد بها لتصبحا صورا ومرايا لمفهوم التجلي[7] هذا التجلي الذي عبر عنه في الافتتاحية بقوله: “أنرت له أضواءك الخضراء فاسّاقطت على يديه”، وهنا إشارة إلى ما يسمّيه المتصوفة بالقصدية الإلهية القائمة على فعل الإيجاد ، ليصبح النور  والأضواء الخضراء هي الطريق إلى معرفته، لكنه منطفئ القلب غير قادر على اكتشاف سر الإيجاد وطريق المعرفة، ويقرن الانطفاء بالقلب لأن به يتم الفهم والكشف وقدرة الإنسان على  استيعاب قلبه لكل التناقضات. ولعل ذلك ما تحقق له في القصيدة الأولى، حيث نقف على ذلك انفراج ما بدا انشطارا بين خلق الله وعماء القلب، في البيان الشعري، أو بالأحرى تعبير عن حقيقة الإنسان بالمفهوم الصوفي الذي يجمع المعية والضدية في الآن نفسه، أو لنقل هو تعبير عن المقولة الدلالية الأولية القائمة على شيئين مختلفين ويسعى ليجعلهما العارف واحدا.

 والشاعر عبد الله العشي  وبحكم تجربته الصوفية السابقة في ديوانيه السابقين،  يصل في هذا الديوان إلى ما يشبه تحقق هذا الجمع بين الضدين في صورة أنثى تتحد بالطبيعة، ليرمز اتحادهما  إلى قيمة الوجود ذاته القائم على الحب الذي يعد الناظم المنهجي للقول الاستعاري وحضوره الوجداني عند الشاعر بدءا من ديوان مقام البوح، لذا يبدو هذا الديوان تجسيدا للانتقال من الصورة الحب إلى الموضوع المرأة، فكأن المحتفى به في “مقام البوح” هو الحب وفي “يطوف بالأسماء” هي آثاره الخلقية أما في “صحوة الغيم” فهي الموضوع ذاته. وكأنه انتقال من المركز الحب إلى الهامش وهو التجلي عند المتصوفة، غير أن الشاعر يعكس مسار التمركز هذا ليصبح عنده الانتقال من الحب إلى المركز الذي هو المرأة، وهذا التصور يلتقي فيه الشاعر مع الرمزيين والرومنسيين والعرفانيين أيضا في تمثلهم للأشياء والوقائع والتعبير عن العلاقة بين  ما يدركه والطريقة التي يتمثل بها ما يدرك.

 

وبما أن الشعر يقوم على نسق استعاري يكون مسؤولا عن انسجام الخطاب، فإن ما يضمن هذا الانسجام، هو تلك الحركة التي ” يتم نقلها من مستوى لآخر والدلالة الأولية هي ما يجعل الدلالة الثانوية باعتبارها معنى المعنى”[8] ولذلك يوقفنا الشاعر في هذا الديوان على نسق استعاري قائم على استعارتين تتجسّدان منذ القصيدة الأولى ترتبط الأولى بمعاني الفشل والخيبة والألم وغيرها من معاني السلب وتتجسد في الماضي الذي تعبر عنه الكنتية (كنت) ومن ثم تبرز لنا استعارة: الضعف/ خلف،  كل وضعيات السقوط والمعاني الإحباط  أو العماء والانطفاء ، وتتفرع عنها استعارة: الضعف / داخل. ويتأسّس نسق استعارة أخرى تعكس كل معاني الاتصال بالجميل والانتصار، ويرتبط بالسَّوفية (سـ، سوف) فتنتج عنه استعارة: القوة/ أمام، ويكون المستعار له مرتبطا بـ”سوف” تجسيدا لتصور مستقبل هو أيضا حاضر إذا وضعنا في الاعتبار فعل المضارع الذي يدل على المستقبل والحاضر أيضا ، ونقف عند استعارة متولدة عنها هي القوة/خارج، وهذا ما يعكسه بحث الشاعر عمّا يؤثث به حقل رؤيته الخارجية  والمستقبلة التي تكمن في اتحاد الطبيعة والمرأة ، وهكذا نكون أمام إسقاط اتجاه فضائي هو أمام وخلف على تصور غير فضائي هو الماضي والمستقبل وهو نفسه الإسقاط على الداخل والخارج، فيتحول الزمن إلى شخص أي يتولّد نوع من التصوّر الاستعاري الأنطولوجي (سيعود الصباح خجولا ويسأل عنّا، ونعانقه عند أبوابنا، يستفيق النهار …..)

إن إسناد أفعال  من خصائص الإنسان إلى الطبيعة من قبيل المجيء والكلام … واستعمال حالات عاطفية، ووظائف إنسانية، وتأنيث الظواهر، ليوقفنا على النسق الاستعاري الإبداعي العام في الديوان الذي يقول:  “المرأة لغة”، و”اللغة سكن”، والذي تدور حوله مجموعة من التشاكلات الاستعارية التي تبدأ بالانفصال عن انطفاء الذات والتغلّب على الخواء والعماء أو المدينة العمياء القابعة في القلب، وتأسيس تشاكلات مغايرة تتعلق بالاتصال بعوالم جميلة، عالم القيمة وذلك من أجل تحقيق معادلة القدرة على الانسجام، والوصول إلى  التشاكل المحوري  الذي هو “المرأة سكن”.

هكذا، إذن يبني الشاعر  تصوره الاستعاري في هذا الديوان من خلال تشاكلات تقوم على رمزية حروفية  تبني سكنا باللغة وتحوّل المرأة من خلالها إلى سكن، ولعل قصيدة الثاء تغزل ليل(ها) تعدّ قصيدة محورية تجتمع حولها كل المعاني لتشكّل ما نسمّيه بالاستعارة المحورية التي ينبني عليها الديوان أو هي الاستعارة الأم بتعبير محمد مفتاح التي توجد في النص  قصيدة أو ديوانا إذا ما جاز لنا اعتبار الديوان قصيدة واحدة، فهناك ما سمّاه الاستعارة الأم،  وهناك استعارات متفرعة عنها تتوالد عنها استعارات أخرى إلى نهاية النص[9] وإذا اطمأننّا إلى هذا الافتراض الذي قال به محمد مفتاح سيكون من اليسير كذلك افتراض أن كل قصائد الديوان، وبزخم لغتها الاستعارية هي بمثابة مشبه به لتجربة حب امرأة واقعية يتحدث عنها العشي ولا يسميها وهي المشبّه الأكبر.

وهذا المشبه به هو ما يدعى بالتمثيل allegory  كما يذهب إلى ذلك محمد مفتاح وينقل تعريف ليتش للتمثيل بأنه” الرمز المتعدد هو ما يكون فيه عدد من الرموز المختلفة ذات التأويلات الفردية المضموم بعضها إلى بعض لصنع تأويل شامل”[10] ولعل الرموز اللغوية والمرئية التي تتناسل وتتشاكل هي التي ستقود إلى الاستعارة الأم (المشبه به) وهو ما يضمن به الديوان انسجامه حيث  تتشاكل جمل هذه الاستعارة الأم  لفظيا ودلاليا مع باقي نصوص الديوان، وتعمل جميعا وفق الاستثمارات التي قام بها منتج الخطاب وهو يبني عالمه الشعري، ببناء مركبة سردية وخطابية تتشكل  وتتوالد لتحيل إلى المرأة في الديوان.ويعطي الشاعر للقارئ مؤشرات عن هذا المشبه كما في قوله:

ما أرقّ الصباح وما أجمله

 (لست أعنيه،

إني أصرّح باسم ولا اقصده)

لي صباحي ولي زهر أغنيتي

لي فجري أطويه أو أنشره

لي جمر المعاني ولي صهد

كلما هزجت بالمعاني انسكب

……

…….

دربها وردة

ودروبي قصب[11]

فالشاعر يعلن من خلال هذا المقطع، أنه لا يعني ما تقوله الجمل، لأنه يقصد صباحه و زهر أغنيته وفجره وهو يحترق بمعانيها ومهمته أن يتغنى بها، ولعل في هذا التأنيث ما يحيل على هذا المشبه الذي يقصده.

وإذا سلّمنا أن الاستعارة الكلية في الديوان  ليست سوى نتيجة للمقولة الأولية لتي تتشكّل بها الدلالة فيه والقائمة على الثنائية (الانفصال والاتصال،أو الإسفار والحجب) وتفرعاتها الفضائية والأنطولوجية التي أشرنا إليها سابقا، فهي بهذا المعنى ” ليست إلا وسيطا للربط بين العالمين، فالمقولات المتقاطعة لكثير من عقد الشبكة التراتبية الدلالية تبني قنطرة للعبور إلى أشياء العالم الطبيعي وأحداثه”[12] وذلك ما بصرنا به من تشاكلات عالم المشبه (المرأة) بعالم المشبه به المصنوع باللغة وعناصر العالم المرئي في الديوان. في شكل حزم من التشاكلات ويكون التشبيه والاستعارة من أهم أدواتها مثلما هو وارد في هذا الديوان، وهي تدخل في تشكيل النسق الاستعاري في الديوان، وتضمن قيام نسق تصوري ينهض على السعي على إحداث الوحدة بين المتناقضات كما تحدث بين الصحوة والغيم، لارتباط الأولى بالإنساني والثانية بالطبيعي، ومهما تعددت وتنوعت  الأشياء الطبيعية، فإنها تصبح رموزا لهذا الكائن القيمة (الأنثى ) التي تتربع على عرش القصائد قديسة وإلها، ويعدو كل ما يرتبط بها صورة من صور ذلك الكمال والجمال.

من ذلك مثلا، أننا نجد الهاء التيي هي حرف من حروف الأبجدية تكتسي أكثر من كل الحروف الأخرى قيمة ويحتفي بها الشاعر في قصيدة “الثاء تغزل ليل(ها)” احتفاء مميزا يجعلها مركز الديوان والبؤرة التي تلتئم حولها كل القصائد، وفي الوقت نفسه تكون مصدر إشعاع يعم كل الحروف وكل نصوص الديوان، ليس ذلك لأنها تدل أكثر من غيرها على التأنيث، فنون النسوة والتاء من أكثر الحروف في عرف القراء دلالة عليها، وإنما  للتحول الذي عرفتها، حيث رفعها الشاعر من الإبهام أو التبعية إلى اسم علم، فتفوقت على الحروف جميعا باكتسابها التعريف، وباستقلاليتها وبعدم حاجتها إلى كلمات أو حروف أخرى لتكتسب شخصيتها، حيث اكتسبت كل الحروف  في عناوين القصائد دلالتها بما ألحق بها  مثل حكمة الباء وألف الأسماء، أو بذوبانها مع حروف أخرى لتسهم في تشكيل كلمة مثل حيرة المعنى وخجل الأسئلة، واستقلت في أحسن الأحوال مصحوبة ببعضها عارية من كل ما يميّزها دلاليا مثل “قاف، كاف” التي لم يزد اقتران هذين الحرفين إلا في إبهامهما، فضلا عن أن وجود هذه الحروف مرتبط أساسا بما يؤثث لعناوين القصائد لا غير، ولا نعثر في النص على ما يوحي أو يؤشر إليها.

في حين نجد ال(هاء) تفضل الأحرف جميعا وتكون محور القصيدة كلها، بدءا من العنوان الذي يفردها فيه بقوسين كعلامة على  استغنائها عن غيرها  ودلالتها في ذاتها، حيث يقول في القصيدة:

…على عتبة النهر،

كان الضياء يجر الخطى مرهقا،

ويعب من الفجر ألوانه:

نرجس ورخام

وفيض بنفسجة

وضحى خط في الماء أحلامه

أشرقت:

تلك عينان من غسق غزل الليل جفنيهما

من دجى الكون تحتفلان…

وتختصران المسافة بين السماوات والأرض، إني أرى

ضاق بي الأفق إني أرى؛

قمرا ذاب في فيضه وأرا(ها)..

تتوّج بالظل بستانها

(ها) تذري البهاء على وجنة الريح..

(ها) لغة حكت الأبجديات ترحالها

وقرنفلة سكبتها الفصول…

وأخفت تواشيح(ها)

(ها)قناع يؤجلني…

ويؤجل إسفار(ها)

(أستعير لسانا غريبا…

كي أتهجى تفاصيل أحرفها)

(ها) دنت وتدلت…

وألقت على النهر أغصانها

وانثنت وتولّت…

 وما ذاع سرّ لها[13]

تلقي هذه القصيدة بظلالها على كل قصائد الديوان وتقول كل ما قالته القصائد الأخرى، فهي القصيدة التي تدور في فلكها القصائد كلها، وتشع منها الحروف الأخرى ، فنجدها مبثوثة في القصائد إما بالصيغة نفسها، أو باندماجها مع المتكلم لتصبح جزءا من (نا)، ولذلك فمعاني القصائد الأخرى مختزلة فيها ولا يمكن أن تضاء إلا بإضاءة هذه ال(ها)

تتحول الهاء في هذه القصيدة إلى  كائن مستقل معرّف، يحوز فضاء يستقل به، وتجتمع من حولها كل عناصر الكون الجميلة، وتكتسب ملامحها من كل الحالات الكونية الجميلة من الليل والنهار والشمس والقمر والنهر والزهر والرخام  والريح والشجر حتى لكأنها تصير الكون كله، وتجسد عناصره كل تمثّلات الذات الأنثوية في كل ابتهاجاتها، وقد تجاوز الشاعر تاء المخاطبة التي كانت في مقام البوح والتي قيدت التاء في ذاك الديوان بامرأة بدت من لحم ودم، غير أنه في هذا الديوان يتحدث عنها وليس لها، فتتحول دلالة الغيبة المرتبطة بال(ها) إلى اسم علم، وهو حين يضعها بين قوسين فكأنه يهيئ المتلقي ليكشف له عن شيء يجهله ويزرع فيه الفضول لمعرفة  من تكون هذه الهاء تماما كما يعتري الطفل الفضول لمعرفة سر الأبجدية، في محاولته تهجية الحروف ثم تمتد لتصبح الكون كله، ومن أول مقطع تبدو الذات المتكلمة مشمولة وجدانيا ومعرفيا بموضوع رؤيتها وتجليها، حيث يرسم لنا حالة جمالية تؤثثها كل عناصر الكون الجميلة من نهر وضياء وألوان ونرجس ورخام وتتشاكل الصور البصرية المختلفة، لتهيئنا لاستقبال هذه ال(ها) وتعلن عنها كلمة “أشرقت” التي تختزل الحالة السابقة،  ليبدأ الشاعر في وصفها، فيسمي العيون ويلبسها سمات جديدة تأخذ من السواد بريقهما، وبين التشخيص والتجريد تتوالد الصور الواحدة تلو الأخرى وينزاح الشاعر الذي يبحث عن التفرد في رسم تفرد هذه الأنثى عن الموسوعة الثقافية التي تشبه المرأة بالقمر، ليجعل المرأة تفوق القمر جمالا وتتجاوزه،  وبعدما كان يستمد لها الصفات من الطبيعة أصبحت هي التي تضفي سحر  البهاء على وجنة الريح، أي أنها أصبحت مصدر الوجود، وفي هذا إحالة إلى الفهم الصوفي للوجود الذي يقوم على التأنيث،  إلى درجة أنه لا يجد اللغة التي يصفها بها، فهي من صنف أسطوري، تضيق اللغة عن  الإحاطة بها، لأنها تتلبسه: “ها قناع يؤجلني” وكأنها تسبق ظهور الشاعر وتخفيه وتفيض عن وجوده، فلا يستطيع أن يخبر عنها لأنها تأبى عن أن تسفر عن نفسها وهي أشبه بصور التجلي تجيء وتختفي أو كبرق خلّب يضيء ويختفي، وتضيق العبارة عند اتساع رؤية الشاعر هذه، وخاصة حين دنت وتدلت، إشارة إلى سورة النجم،  فيذكرنا بلحظات التجلي الصوفي، ونشهد مع الشاعر تشكل أنثى ليست ككل النساء، بل هي المطلق الذي لا تستطيع القصيدة الكشف عنه.

وبعد هذا الامتلاء بهذه الأنثى يستيقظ الشاعر على الواقع الذي  يحول دون امتلاكها فيقول فيما يشبه الرثاء:

انهضي يا تواريخ أيامنا الذاهبة

واقرئي حالنا…

إن أشياءنا غيرتها الفصول

ولم يبق إلا خيالاتنا الشاحبة[14]

إن هذا المقطع الذي ينهي به الشاعر صورة التجلي الخارق لهذه الأنثى، يمكن اعتباره، من جهة، نوعا من تضليل القارئ لكي لا يتوهم أن القصيدة هي محض تغزل بامرأة ، ومن جهة أخرى، يمكن تأويلها بحالة خوف من غياب الهاء، وأنه يخشى أن يفلت منه،هذا الشيء الجميل الذي يشمله ويقدسه فالأشياء الجميلة لا تدوم.

 

 

لا شك أن للإدراك البصري حضورا لافتا في هذا الديوان، فكل عناصر الكون تتناغم لكي تصبح مشبها به لهذه المرأة، بل إن الحروف أيضا تتحول وتكتسي من الطبيعة ألوانها وصحوها، فتصبح اللام خضراء والنون صحو والواو مشرقة ويتحد الغيم بالصحو، فيتولى سكب الألوان والأضواء والروائح، ويتحول المساء إلى صبح، ويشرق الحلم في حقول الظلام، ويتآلف البياض والإشراق والصحو مع الظلام والغيم والمساء ويلج الواحد في الآخر، وتصبح صحوة الغيم “ماء الوجود وماء الضوء الذي يجعل الكائن يعبر نحو نور ليس مفارقا للظلام، إذ النور والظلام ثنائية لجسد كوني واحد”[15]

ومن خلال هذا التزاوج الكوني ينقل الشاعر الأنثى إلى مستوى الكون فيوحّدها به، أو يوحّد الكون فيها، ويجمع حولها كل العناصر، ويغدو المديح ليس للاسم الذي لا يريد أن يصرّح به في آخر ديوان مقام البوح، بل للكون الذي يعادل صورة هذه المرأة التي يصل بها إلى عين اليقين، غير أنه في تحسّسه بها هذه المرتبة يتحسّس أيضا من خلال الأبجدية قدرته على الكتابة وتجاوز ضيق العبارة ويعاني مثلما عانى الشعراء من قبله، من حيرة المعنى والتمدد في الإيقاع، ولذلك نرى عمل الأبجدية في توحيد عناصر الكون ورسم البطاقة الدلالية لهذه الأنثى، ينسحب أيضا على مستوى الإيقاع، فعلى الرغم من أن حركة الإيقاع تختلف باختلاف كل حرف مع كل قصيدة، إلا أن هاجس الهارمونيا التي ينشدها الشاعر تلقي بظلالها على التفعيلة ، حيث نلفي تشاكلا إيقاعيا تخلقه هيمنة تفعيلة المتدارك، فتحاول فيه كل تفعيلة منه أن تدرك الصورة التي يرنو إلى بنائها الشاعر.

وبما أن قصائد الديوان قائمة على الحروفية، وهي تستمد رمزيتها في الأساس من هذه الحروف نظرا لقابليتها التكوينية لكي تكون رموزا، لم يكن الشاعر بحاجة لكي يؤثثها بكثير من الرموز الثقافية الأخرى، وهذه الطريقة التي، لا شك، أنها تلتقي مع المرجعية الصوفية في تشكيل الحروف، تجسّد رؤية وجودية تحتفي بالقيم التي يتغياّها الشاعر، وفي مقدمتها قيمة الإنسان  وتقدير الذات وقيمة الحب باعتباره هاجسا لا تتحقق ذاتية الإنسان إلا به، ومن هنا نفهم سر احتفائه بالأنثى في كل الديوان، الذي ينهيه بالإعلان عن اكتمال كل المواصفات التي تجعل منها قيمة كبرى بالنسبة إلى الشاعر، فيقول في قصيدة :واو وأشرقت:

فجأة أشرقت من تخوم الضيا..

وأضاءت فضاءاتها

فجأة أسدل الصمت أستاره

فتشابكت الكلمات بأصواتها

وتعثّر ظلي على ضوئها

غاب كل ندا

ليس غير الصدى

ذائبا بين أحضانها

صحت ها هي

إني أرى وجهها

هي حبري

وميلاد أجوبتي

هي أنثى الحروف التي أنجبت كلماتي

هي هذي القصيدة

تطلع من جذر أيّامها

هكذا سوف أبني قصيدي على نغمة

من أناشيدها[16]

هنا تكتمل البطاقة الدلالية التي عمل الشاعر على إنشائها أو استحضارها، وتكتمل بها رحلته مع الحروف التي كانت وحدات المعنى التي ساهمت في ملئها واكتمالها، وهنا تجلّت مقصدية الشاعر في هذا الديوان، هي ملهمة الشاعر وهي من يعطي لحياته معنى وهي سر إبداعه، هي مجرد امرأة قد تكون ككل النساء، لكن الشاعر لا يراها  كما النساء.

الإحالات

باحثة أكاديمية من جامعة  مولود معمري – تيزي وزو.

[1] – ألان تورين نقد الحداثة ، ترجمة أنور مغيث، المشروع القومي للترجمة  المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة1997 ص 46.

[2] – يراجع ألان تورين ص293

[3] – حياة الخياري، أضف نونا، قراءة في نون أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012 ص 15.

[4] – عبد الله العشي ديوان صحوة الغيم، دار فضاءات عمان، الأردن، ط1، الأردن ، 2014 ص9.

[5] – الديوان ص13.

[6] – الديوان ص14.

[7] – ينظر منصف عبد الحق الكتابة والتجربة الصوفية، نموذج ابن عربي، ط1، منشورات عكاظ الرباط،1988 ص 72.

[8] – بول ريكور، نظرية التاويل الخطاب وفائض المعنىتر سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي ط1بيروت/ البيضاء 2000

 ص 97.

[9] – يراجع محمد مفتاح، مجهول البيان، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،  المغرب 1990، ص85.

[10] – نقلا عن محمد مفتاح، مجهول البيان ص86،

[11]– الديوان ص20/21 .

[12] – محمد مفتاح مجهول البيان  ص87

[13] – الديوان ص32.

[14] – الديوان ص33.

[15] -رشيد يحياوي، معابر أمجد ناصر، دار الفارس للنشر والتوزيع، الأردن 2010، ص88.

[16] -الديوان ص1