الرئيسية / 2- من التنابز إلى التنابذ، عن التقابل الخطّي للمواقف الفكرية..

2- من التنابز إلى التنابذ، عن التقابل الخطّي للمواقف الفكرية..

عن التقابل الخطّي للمواقف الفكرية..

عبد القادر رابحي

عبد القادر رابحي

   قد تكون فكرة التنابز بالأفكار دليلا قاطعا على انعدام الحوار. كما قد تدّل على بلوغها درجة معينة من التصنيف يصبح معه إمكانية التقارب أو المزج أو التوحيد أمورا مستحيلة. و قد يدل التنابز كذلك على نفسية المثقف الجزائري التي تمتح من صورة الإنسان الجزائري والتي هي إقرب إلى العنف الجسدي متجاوزة بذلك العنف اللفظي الذي قد يدخل تنابز المثقفين ضمن دائرته الخاصة. لكن يمكن أن ننفي ما يمكن أن تحمله فكرة التنابز من إمكانية التأسيس للتوازي الفكري الذي لا يمكن أن يبح له عن التقاءات للمتناقضات بالنظر إلى ما يلح على البحث عنه من تناقضات للالتقاءات؟ و هل يمكن أن ننفي تحوّل التنابز إلى تنابذ بحكم صيرورة المصطلح في مسار القطيعة المتواصلة بين الرؤى المتوازية في خطّي السير اللذين أسّست لهما النخب الجزائرية منذ تكوّنها في بداية القرن العشرين ، و اللذين أصبحا أرثين ثقافيين متوارثين بكلّ فخر من طرف النخب الجزائرية الجديدة التي تنتمي إلى هذا الخط أو ذاك؟

°°°   °°°   °°°

ربما كان من البديهي التأكيد مرّة أخرى على فكرة أساسيّة لا تزال تحملها بنية الخطاب الثقافي الجزائري المعاصر كما تتجلّى في كتابات العديد من مثقفي الجيل الجديد من الجزائريين الذين هم نتاج المدرسة الجزائرية، و التي مفادها أن ما أُسّس على التوازي لا يمكن أن يحلم بتحقّق الالتقاء نظرا لما يحمله المنطق الرياضي من نفيٍ نهائيّ لفكرة احتمال اللقاء بين المسارات المتوازية و المصائر المتناقضة، و نظرا كذلك لما يتصوّره هذا المثقف من أن القيمة الثقافية و المعرفية هي أكثر صرامة في تحقيقها للمسار الوجودي انطلاقا من قاعدة انطلاق راسخة في صناعتها للمعطى المعرفيّ الجاهز و المعلّب و المستعد للاستهلاك ضمن وليمة فكرية أعدّ التاريخ القديم و المعاصر طبختها و لم يعد ثمّة من إمكانية لتغيير بعض عناصر الطبخة الأساسية أو الثانوية وفق ما تقتضيه متغيرات اللحظة و وفق ما يتطلبه العصر من إمكانية إعادة النظر في المسلّمات الجاهزة التي صنعها المثقف السابق و تركها إرثا معرفيا للمثقف اللاحق وفق خطّ متسلسل من التوارث المعنعن للأفكار و للمواقف و لما تتخذه من اقتناعات إيديولوجية و من مسارات محدّدة سلفا في نقطة الانطلاق للوصول بالحدّة نفسها التي انطلقت بها إلى نقطة الوصول. ففي عالم معاصر متسارع من حيث كونه زمن هارب من بين أتون الفكرة ، و الذي يؤسس لقيمة التواصل بوصفه فكرة فلسفية لا بدّ من الاقتناع بها من أجل التأكد من المعرفة بوصفها أداة لعبور التاريخ و الاحتفاظ بالجغرافيا، لا يزال المثقف الجزائر بفضل القطيعة المبنية على الخطيّة المتوازية بما هي رفض للآخر و نكران لمجهوده الفكري و المعرفي و دحض لكل إمكانية للالتقاء معه داخل بيت الذات و بيت الوجود.

   و لعل من أسباب رفض المثقف للصورة التي يحملها عن الآخر الذي يتوازى معه في المسارات هو هذه الفكرة التي تحوّلت إلى يقين ثابت عند مثقفي جيل كامل قطع مرحلة الكولونيالية و هو يصنف أجزاء مختلفة من ذاته تصنيف الغريب للغريب، و يتبرّع بها إلى الآخر الذي لا يمكن أن يكون إلاّ هو على طبق من خصومة نهائية باردة، حتّى ترسخت صورةٌ أصبحت متوارثة لدى الأجيال الجديدة مفادها أن الاختلاف في المواقف التاريخية أو الإيديولوجية أو السياسية من القضايا الكبرى التي شغلت المثقفين و الساسة و المفكرين هو اختلاف جذري و صارم و نهائي لا يمكن بعده أن يحاول المختلفون تقريبها لمصلحة ما، أو لظرف ما، أو لضرورة ما، حتى لكأن ثمة من قدر ضارب بثقله على بنية التفكير عند المثقف الجزائري في ما قطع من مراحل تاريخية صعبة لم تزد هذه الفكرة إلا ترسيخا، مفاده أن ‘الكلام الأول لا يتحول’ كما يقول المثل، و أن من غير رأيه قد خان حتى إن اكتشف أنه على خطأ و دفعه اكتشافه للصواب إلى ذلك.

°°°   °°°   °°°

     لقد انتقل الخطاب الثقافي لجيل جديد من المثقفين و هم يلجون عالم الأفكار التي تربض في بنية أي مجتمع من المجتمعات و منها المجتمع الجزائري المغلقة أصلا لأسباب أكثر عمقا و خطورة، من الحديث عن المجتمع الجزائري إلى الحديث المجتمع الجزائري المتعدد، و من الحديث عن المصير الواحد إلى الحديث عن العيش المشترك، و من الحديث عن التاريخ الباني إلى الحديث عن الهوية المتعدّدة. غير أن هذا الخطاب، في انتقاله هذا، لم يتخذ من القراءة الحذرة للموروث المعرفي الذي تركه المثقفون الجزائريون أثناء فترة تكوّن النخب الجزائرية المثقفة أداة لإمكانية الخطأ و وسيلة لتفكيك البني الفكرية و الثقافية التي أدت إلى ترسيخ مقولة (الكلام الأول) في ذهنية العديد من المثقفين و في طرائق تفكيرهم. كما أن هذا الخطاب، و من خلال مقاربته لإشكاليات هي من الخطورة بمكان، لم يحرص في تناوله لتصورات النخب الثقافية التي توارث منها هذه المواقف الثابتة على تحليل المواقف التاريخية بصورة حيادية يمكنه من خلالها، و هو البعيد عن هذه الأجيال بحكم التقادم الزمني و المسافة المصلحية، أن يتخذ لنفسه رؤية محايدة يحاول أن يكسر من خلالها التصور الجاهز الذي توارثه عن الأجيال الأولى من المثقفين المتمترسين وراء الاقتناعات الايديولوجية المتوجة بالصراعات السياسية التي شابت الدولة الجزائرية المستقلة، فصار ، بناء على ذلك، يبني أحكامه المسبقة على نتائجها المعلبّة وفق اقتناعات إيديولوجية توارثها من خط السير نفسه الذي سار عليه وفق المسار المؤسس له سلفا من طرف هذه النخب السابقة المقتنعة بما تراه صالحا لمصلحتها و ما تراه عكس ذلك.

لقد تحوّل التنابز، بموجب هذا التصور الذي توارثه الجيل الجديد من المثقفين المهتمين بعالم الأفكار، من مرحلة توصيف لهجّاء مقذع لأفكار و لصورة الخصم المقابل في خط التوازي السائر نحو مستقبل معرفيّ غامض إلى مرحلة ترسيخ لموقف مؤسس معرفيا و مدعوم بالحجة التاريخية المستخلصة ممّا حمله كل توجّه عن الآخر حلال المراحل التاريخية التي قطعوها و هم يتنابزون بالأفكار و بالأفكار المضادة. و سيتخذ هذا الموقف صورة الثبات غير القابل للتغيّر أو للتمحيص أو للتحليل في بنية التكوين الثقافي للمثقف الجزائري المعاصر و في راهن الممارسة الثقافية إلى درجة الاقتناع بأن التنابز هو نوع من الممارسة النقدية التفكيكية للمثقف الآخر القابع في الخط الموازي لمسار التحولات الفكرية التي يحملها و التي بإمكانها أن تشكّل خطورة على وجود، و من ثمّة وجب تحليل لسلوكياته المعرفية والحياتية بطريقة تتخذ من الحيطة و الحذر رؤية مستمرة نظرا لما يمكن أن يقوم به المثقف الآخر في الخط الآخر من احتياطات هو كذلك.

°°°   °°°   °°°

   ربما كان الخطاب الثقافي الجزائري في مراحله الأكثر هشاشة و الأكثر رضوخا للشرط الكولونيالي أكثر وعيا بالمسلّمات التي استطاع أن يؤسس عليها رؤيته للذات وللعالم ، و أن يبني عليها تصوره للمشكلات التي كانت تعترض سبيله نحو تحقيق ذاته الوجودية و التحرر من الأسر الاستعماري. فلم يكن هذا الخطاب، وهو تحت هذه الظروف الخانقة ليشكّك ولو للحظة في وحدته و في هويته و في مصيره على الرغم من وعي العميق ببنية المجتمع الجزائري و بأصوله البشرية و الاجتماعية. و على الرغم من ذلك، فإن ما يتوارثه الجيل الجديد من المثقفين لا يمكن أن يدخل في ما كانت النخب المثقفة في مراحل سابقة تؤمن به في إطار وحدة جامعة لا يمكن أن يصل الاختلاف حول جزئياتها إلى حد استعمال هذه الجزئيات من أجل نكران البناء العام المُشكّل لهذه الجزئيات وتعمّد هدم البيت على ساكنه.