الرئيسية / اكاديميا / نهاية وسائل الإعلام: تحولات الفضاء العمومي في زمن الاتصال

نهاية وسائل الإعلام: تحولات الفضاء العمومي في زمن الاتصال

د.عاشور فني- الجزائر

 

 

 

الفضاء العمومي فكرة طرحا الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في كتاب له صدر في ستينيات القرن الماضي لكنها مازالت تلقى  قبولا لدى الباحثين في شأن الإعلام والسياسة والرأي العام. وإن طرأت على الفكرة بعض التحولات الجوهرية. فالفضاء العمومي  هو فضاء للنقاش الحر والنقد العقلاني يسمح بإثارة القضايا العامة من طرف الأفراد ويسمح بأن يتحول الرأي الخاص في الشأن العام والنقد الشخصي إلى فكرة عامة تصل لعموم الناس. بدأ الفضاء العمومي في القرن الثامن عشر على شكل نواد وصالونات ومقاه ومنتديات خاصة يرتادها النخبة من البرجوازيين وأصحاب الأفكار المستنيرة لمناقشة القضايا العامة وإثارة المسائل السياسية  في إطار خاص وتحولت هذه الفضاءات العمومية إلى معادل لسلطة الدولة المطلقة.

يورغن هابرماس


 هكذا سمح الفضاء العمومي بوقوف النخبة في وجه الاستبداد المطلق قبل مجيء وسائل الإعلام الجماهيرية. حرية التجمع  والتجمهر في إطار الجمهورية تسمح للناس بالتداول الخاص في الشأن العام. هناك ظهر دور النخبة النقدي والفعال. كانت تلك بداية فكرة الفضاء العمومي. ثم توسعت الفكرة لتشمل التجمهر في  الساحات العمومية والتظاهر في الشوارع والتنديد العلني بالسلطة المستبدة.
لكن مجيء وسائل الإعلام الجماهيرية (خاصة الصحافة) أعطى للفضاء العمومي امتدادا جديدا مهما فصارت وسائل الإعلام تمارس الوظيفة النقدية التي بدأتها النوادي النخبوية. ومع بروز الإذاعة في العشرينيات من القرن العشرين ثم هيمنة  التلفزيون منذ أربعينيات القرن العشرين أضحى لوسائل الإعلام نفوذ جديد على وعي الجمهور وأصبحت وسائل الإعلام الجماهيرية أكثر فعالية.
غير أن وقوع وسائل الإعلام هذه تحت سيطرة المال والسلطة السياسية أفقدها القوة النقدية التي كان يمارسها الفضاء العمومي وأصبحت وسائل الإعلام تمارس التملق والتزلف وتعمل على تغييب الوعي وإفقاد النقد من أي محتوى عقلي باستعمال وسائل أصبحت معروفة الآن: الترفيه والإثارة والتحريض وتزييف الوعي وإغفال القضايا الحقيقية وصنع قضايا حسب الهدف المطلوب لشغل الجمهور وتوجيهه وتحريضه على الفعل أو منعه من الفعل وشغله بما يراد له. وهكذا لم يعد الفضاء العمومي قادرا على أداء الوظيفة النقدية التي نشأ من اجلها بل أصبح هذا الفضاء امتدادا للسلطات المهيمنة تصرفه حسب إستراتيجياتها:  سلطة المال والسلطة السياسية والسلطة الإيديولوجية من خلال إشاعة  أنماط محددة من الوعي تدفع الناس إلى الاستكانة وقبول القوالب الجاهزة في الوعي والتفكير وأنماط الحياة. ذلك هو النقد الأساسي الذي وجهته مدرسة فرانكفورت ل”الصناعة الثقافية” في منتصف القرن الماضي وماترتب عنها من تدمير للعقل وتزييف الوعي عبر وسائل الاتصال الجماهيرية. يجري الآن التحول إلى عصر آخر وهو عصر الشبكات العملاقة التي تحتكر صناعة المعرفة بكامل مراحلها: جمع المعطيات وصتع المعلومات وتسويقها وإنتاج المعارف الجديدة وتحويلها إلى منتجات استهلاكية. لم يعد الاتصال الجماهيري هو آفة الإعلام لأن الاصتل أصبح مشخصا عبر الشبكات الحاملة للوسائط المختلفة واللاهثة وراء صنع المحتوى وتوزيعه لكسب المزيد من الانتشار. المحتوى نفسه اصبح وسيلة لتسويق الصورة وليس العكس. لذلك يزداد المحتوى تبسيطا وتسطيحا ليزيد انتشاره بتكلفة زهيدة- إن لم تكن معدومة- قصد إيصال صورة الشبكات الناشرة  تدعيما لموقعها في الأسواق.
بهذه الوسائل تم فرض منطق الأغلبية اللاواعية لصنع “القبول” أو الرضا العام -بتعبير نعوم تشومسكي-باعتباره النموذج الأعلى للفكر والحياة والوجود: ذلك أهم ما يتطلبه توسيع الأسواق في المجتمع الاستهلاكي: زيادة الاستهلاك وشيوع الترفيه باعتباره أيديولوجية الهيمنة. وتلعب الأنماط الترفيهية الجماهيرية الشائعة دور المقولب للوعي والتفكير: كانت كرة القدم ومشاهدة التلفزيون أهم الأنماط. ومنذ ربع قرن برزت تكنولوجيات  الإعلام والاتصال الجديدة. يجري العمل الآن على إشاعة أنماط أخرى لتواكب التحولات التكنولوجيا الجديدة حيث يصير امتلاك  وتكديس الوسائل بديلا عن استخدام العقل. أصبحت التكنولوجيا بمثابة إيديولوجية المستقبل.
هكذا انتهت الوظيفة الإعلامية التقليدية لوسائل الإعلام وطغت الوظيفة الاتصالية. وهكذا تحول صناع المعرفة والمعلومات إلى صناع صورة ومنشئي علاقات هيمنة ومحرضين على السلوك الذي يتطلبه الوضع: التمسك بالوضع القائم لزيادة تملك الوسائل الجديدة: انتقال من عصر الفكر الفردي الانتقادي إلى عصر العاطفة الجماعية الجياشة ومن زمن الكلمة الواعية إلى الصورة المؤثرة المعطلة للعقل ومن زمن وسائل الإعلام إلى زمن وسائل الاتصال، ومن عصر الصحفي المناضل الملتزم  بقضية الرأي العام إلى زمن الصحفي المرتزق الخاضع لنظام الإثارة والتحريض.
والنتيجة الحتمية لكل هذا هي أن الوعي الزائف هو ما تنشره هذه الوسائل باعتباره فكرا سائدا وإجماعا لا يقبل النقاش وكأنه الحقيقة الثابتة الوحيدة. نهد ذلك لظهور النزعات المتطرفة من عنصرية ودينية متشددة وتحولت إلى تيارات”سياسية” يسهل استخدامها لفرض السياسات التي تتطلبها إستراتيجيات الهيمنة. ما يخالف ذلك يقدم على انه شذوذ وخروج على النمط المعياري العام. أما من يطرح فكرا مخالفا أو يدافع عن رأي مختلف فيتم إقصاؤه  ونبذه بأن يقدم على أنه عدو للحقيقة ومناويء للإجماع وشاذ ينبغي تهميشه. والواقع ان الإجماع والرضا العام هو المخالف لواقع التنوع الذي يزخر به العالم.
الذ ين ينتقدون النخبة ويتملقون الشعوب ويتوددون للجمهور وما يلائم مزاجه الخاضع للإعلان والتوجيه الخفي لقوى النفوذ المالي والسياسي والإيديولوجي إنما يفعلون ذلك بقصد تغييب الوعي والإساءة للعقل وتغليب منطق الكم (الأغلبية) على النوعية (النخبة). كل ذلك من أجل الاستيلاء على وعي الجماهير في لحظة إغفاءة الوعي  بقصد تحويلها إلى قطيع قابل للتوجيه والتحكم عن بعد. تلك هي الوظيفة الجديدة للفضاء العمومي المدجن: لا يؤدي وظيفة النقد بل وظيفته التدجين. وذلك هو جوهر الانتقال من عصر وسائل الإعلام إلى عصر وسائل الاتصال.