الرئيسية / اكاديميا / نهاية المثقف والمجتمع والمدينة

نهاية المثقف والمجتمع والمدينة

رجائى موسى

إثنوجرافى مصرى

-1-

لا تظهر النهاية هنا بوصفها شيئا متحققا أو ممتلئا أو ناجزاً أو أنها نقطة توقف بل بوصفها حدا، “والحد ، كما أدركه الأغريق ، هو ما يبدأ منه شىء ما حضوره”(مارتن هيدجر). تأتى النهاية هنا، مثلما تأتى عند فوكو، بوصفها قطعا إعتباطيا فى مجموع متحرك بلا حدود، وهى أيضا مفتتح للتفكير بشىء آخر وبطريقة مختلفة فيما كان يبدو للفكر أو للثقافة أن تفكر به أو تعمل وفق نظامه، فوجدا نفسيهما يبدأن من جديد وعلى أرض جديدة أيضا. تدلف النهاية إلى المشهد بلا تردد كأنها جاهزة منذ أمد للحضور لكى تعلن بلا وجل:“كل ما هو صلب يذوب فى الهواء All That Is Solid Melts Into Air “.(هى العاصفةThe tempest  أو شكسبير، صوت بروبسبير أو بيان ماركس وانجلزThe Communist Manifesto”.

-2-

الحداثةmodernity  هي تلك البلورة متعددة الأوجه، التي ولدت من رمال كثيرة، ومياه القرون الوسطي المضطربة. خرج الزمن التاريخي من المقدس الدائري. تم إعادة الهيبة للناسوت في مقابل لاهوت متعالٍ يسكن أسقف الكاتدرائيات وثريات القصور.الصيرورة في مقابل التأبيد، النسبي في وجه المطلق. تكسرت جغرافية العالم القديم بفعل الكشوف والذهب، والتوابل، والإستعمار. ظهرت المدن إستجابة لهذا الحلم بالتنظيم وبالتقدم وبالسعادة للجميع. حملت المدينة أختام هذه الحداثة وتألقت بتألقها وأيضا أفلت بأفولها وبدت تتشظى وتنفجر مثلما تشظت الحداثة وتفجرت. وفى إيهاب الحداثة وبطلتها المدينة تم صناعة المثقف الذى يرعى أساطير المدينة والحداثة (العقل/التقدم/التاريخ/الحرية/العدالة/المساواة) وينسج أحلامهما وأضغاث أحلامهما، فالمثقف هو المعبر الرسمى وراعى تمثيلات المدينة والحداثة بلا منازع.

-3-

لقد كان الخروج من القرون الوسطى حدثاً عظيماً وثورياً فى التاريخ بلا شك، عبره استطاعت البرجوازية أن توطد أحلامها وتقبض على سلطتها وثرواتها وتنشىء خطابها التاريخى بوصفه خطابا عقلانيا وتحرريا لجميع الناس. ابتدعت عمارة ضد عمارة القرون الوسطى، فبدلاً من الكاتدرائية محل البابا والقصر محل الامبراطور والكوخ محل الفلاح والورشة محل الصانع اليدوى، جسدت أحلام مثقفيها وجماعة تنويرها بالمدينة الفاضلة وبمدينة الشمس؛ حدائق وقطارات وبرلمانات وخطوط سكك حديدية وشوارع واسعة ومسفلتة ومضاءة بالآف الشموس الليلية وأوبرا وسينما ومتحف ومسرح ومصنع ومساكن مريحة مزودة بأجهزة رفاهية ومجلات وصحف وجامعات وعلاقات بين البشر تقوم على ابعاد طبقية بدلا من علاقات العرق والدم، وايضا هيأت مسرحها لظهور تناقضها الرئيسى ومشعلى حرائقها وهى طبقة البروليتاريا، ورسمت الحدود الفاصلة بين الريف والمدينة. ولكن يبدو أن هذا العالم/الحلم ذهب وبلا رجعة وتهاوت الحداثة ومدنها فى غمضة عين، وتبخرت فى الهواء لحساب حقبة أكثر خفة ومرونة وربما أكثر كابوسية. تبخرت أوهام الحداثة ومادتها الصلبة لصالح العيش بلا أوهام، وبلا مزايا ولكن بتحمس وبفرح وبتشبث بالزوال،“وما كان يظن صلبا قد تبخر فى الهواء، وكل ما كان مقدسا جرى تدنيسه، وبات البشر ملزمين أخيراً أن يواجهوا بواقعية ظروف حياتهم وعلاقاتهم مع البشر الآخرين”(ماركس) وهناك من يؤرخ لهذه اللحظة، لحظة زوال مدينة الحداثة أو عمارة الحداثة بكاملها وشموليتها، إنه نحو الساعة 3.32 مساء تقريبا من يوم 15 يوليو لعام 1972 فى مدينة سانت لويس بولاية ميسورى عندما تم تفجير أجزاء من مبنى برويت ايجوPruitt-Igoeبالديناميت.(جنكسJencks Charles وهو معمارى امريكى ولد سنة 1939 ومن أهم كتبه لغة عمارة ما بعد الحداثة 1977 ومبنى برويت إيجو Pruitt-Igoe يعطى كمثال لفشل سياسات الإسكان الشعبى والتجديد الحضرى بأمريكا).

تشارلزجنكسJencks

-4-

ربما كان حريق القاهرة فى يناير 1952 إيذانا بتحول ما فى العمارة سيجد طريقه فى مدينة القاهرة. وضع الضباط أيديهم على الثروة العقارية بكاملها وتم مصادرة القصور والفيلات للصالح العام والصالح الشخصى، وتم تأسيس عمارة بيروقراطية عسكرية باسم عمارة قومية، وبدأ المعماريون والمثقفون يبحثون عن هوية معمارية مصرية تارة وعربية تارة أخرى، وحداثية تارة ثالثة. تم ترسيم حدود المدن وتخطيط حديث للمساكن بحيث تأتى ملائمة للمزاج الثورى الذى كان يسعى بشكل ما إلى تحقيق عدالة اجتماعية وتوزيع مختلف للناتج القومى وايضا يسعى لضبط المدن بما يتوافق مع أيديولوجيته الثورية، فظهرت مدنا للعمال ومساكن للموظفين وثكنات للجيش ومساكن شعبية ومدن جامعية للطلبة الذين جاءوا من الأرياف بعد ان انفتحت المدينة لإستقبالهم، ربما ظهور مبنى مثل مجمع التحرير يعتبر رمزاً لعمارة الستينات ونموذجاً لمركزية الدولة. وفى حقبة السادات ظهرت عمارة مغايرة لعمارة الستينات، وربما ظهور مادة الالوميتال كان سمة مميزة لهذه الحقبة بالإضافة إلى السمات الخليجية التى ظهرت فى الألوان، وفى تأسيس المساكن والمكاتب وأيضا غلق البلكونات بمادة الالوميتال بدافع اقتصادى أو بدافع دينى من أجل الحجب وتأسيس أخلاق إسلامية فى التهوية والفتحات مع ظهور نمط شائه من العمارة يجمع بين تأسلم وإنفتاح اقتصادى وصعود طبقة رأسمالية جديدة يسميها البعض رأسمالية طفيلية، والبعض يطلق عليها رأسمالية تابعة. وفى تقديرى أن هذه الحقبة انتهت بخروج الناس فى المدن تطالب بالخبز وذلك فى يناير 1977. وهذا الجوع هو الأول فى تاريخ مصر المعاصرة ويسجل تغير جذرى فى البنية الاجتماعية وفى ظهور فقراء المدن وتجمعاتهم السكانية على الأطراف. وفى التسعينيات وبداية القرن الحادى والعشرين يحدث تغير جذرى فى العمارة مع الثورة التكنولوجية الحديثة وفى مقدمتها تكنولوجيا الصورة وظهور خامات جديدة أكثر ليونة وطواعية فى البناء والتشكيل. فظهرت المولات الكبيرة مثل فايف ستارز وجراند مول، وسلسلة المطاعم المنتشرة فى كل المدن المصرية وسلسلة السوبر ماركت الضخم والمجمع وظهور ما يسمى بالتسوق shopping والتيك أوى مثل هايبر وان، وكارفور، ومن قبل سينسيبرى ومترو …الخ، ومراكز تجميع أجهزة اتصال تكنولوجية وأبراج سكنية. ومع هذه الحقبة يتم تفريغ القاهرة التقليدية ونقل الثقل خارج القاهرة إلى المدن السياحية والسكنية الفاخرة والمدن الصناعية الجديدة التى تمتاز بحجم عمالة ضخم مع مرونة فى التشغيل والتسريح، فهناك مدينة الرحاب والشيخ زايد والتجمع الخامس ودريم لاند والقاهرة الجديدة والعاشر من رمضان والسادس من أكتوبر..الخ بالإضافة إلى انتشار سريع للقرى السياحية والمنتجعات. لقد تم خلق جيتوهات للاثرياء والتكنوقراط خارج القاهرة التاريخية مما يجعل قلب القاهرة مفرغ ومصمت لا يضم سوى عدد قليل من المكاتب والسفارات التى تعمل نهارا أما بالليل فهى لمن يأتى من الأطراف أو ما تم تسميته بالعشوائيات. تم نقل المركز المدينى خارج العاصمة/القاهرة فصارت أهم اللقاءات تعقد فى منطقة عائمة، طافية، حدودية، فى منتجع، فى شرم الشيخ. وأخيرا تم نقل الجامعة الأمريكية إلى التجمع الخامس وتحويل مبنى وسط البلد إلى مبنى إدارى، وبذلك سيتم تشديد العزل على أبناء هذه الطبقة، فحتى مرورهم بسياراتهم الفخمة بوسط البلد وتنزهم المؤقت بين محاضراتهم لن يكون فى استطاعتهم. تدهورت المواصلات داخل المدن وتدنت حالة الطرق مع ضعف شديد فى المرور وتخبط صارخ فى ادارته، ويبدو جليا أن النظام عاجز عن تسيير حركة التنقل داخل القاهرة. تحولت الشوارع الرئيسية إلى حفر وأكشاك وبلاعات مفتوحة ومطبات ومقالب للزبالة. انهارت المدارس والمستشفيات وخطوط السكك الحديدية، وتحولت أعرق الجامعات المصرية وأقدمها إلى ما يشبه نظام الكتاتيب. لقد تقلصت القاهرة وانفجرت فى آن واحد. لقد تم تقطيعها مؤخرا بقرار اقامة محافظتى حلوان، و6 أكتوبر، وذلك فى محاولة لتجميع أجزاء يمكن التعرف عليها وتسميتها بأنها مدينة القاهرة. لا توجد القاهرة فى القاهرة، لا يمكن أن تجد القاهرة، صارت المدينة المتاهة التى لا تصلح إلا للاختباء. انحلت القاهرة وتبخرت، صارت مدينة للوهم والكابوس، مدينة للفقراء والسماسرة وتجار التجزئة ومراكز الستالايت ولشباب ما بين ال 14 سنة وال 35 عاطلين وفقراء قادمون من المناطق المجاورة يبحثون عن لذة سريعة وعابرة، ربما صارت القاهرة أكثر حقيقة من كونها فى حالة صلبة.

-5-

تدلف النهاية إلى المشهد الآنى بوصفها نقصا يهدد الاقامة، أو كارتجاج فى لوحة صامته أو مرور عابر فى لوحة لمنظر طبيعى، مرور من شأنه أن ينبىء العاصفة ويهيج الرعود ويوقظ البراكين النائمة بأن تأخذ حصتها من اللعب. النرد فى يد اللوحة، لا رسام يقف لكى يتأمل اللوحة، ولا مشاهد مأخوذ بالتصميم، والتنظيم والابداع والروح التى تطل من القماش، فقط مرور مفاجىء كأنه اضطرارى لعاصفة من الألوان والخبرات.”لقدتخطت عاصفة العالم الثلجية عتبة الباب و…قلبت نظام الروح”. ليونارد كوهن

-6-

بوصول الحداثة إلى غايتها أو إلى حدها لم تنتهى فقط المدينة بل تهاوت أسطورة المثقف الذى كان يرعى أقانيمها، أقانيم الحداثة؛ العقل، التقدم، التنظيم، الحرية، الذات ..الخ. لم تعد الجماهير فى حاجة إلى هذا المثقف الرسولى الذى يلقن الشعب المعارف ويرشده إلى أغوار الحقيقة، فالحقيقة نفسها لم تعد تسكن فى أعماق سحيقة تحتاج لهذه الفئة، البروجوازية، البيضاء، الذكورية، المغلقة، بل صارت، الحقيقة، تسكن السطوح أو كما يكتب إدجار الآن بو “إن الحقيقة لا توجد فى بئر دائما، أظن فى الحقيقة، أن معظم المعارف المهمة توجد على السطح دائما”. لقد انحل مركز المعنى الذى كان يسيطر على رأسماله المثقف، وصار الوعى فى حالة مأسوية أو فى صورة تدعو للشفقة. ومثلما انتهى عصر النبى مع قيام المؤسسات الدينية التى عملت على غلق هذا المنفذ أو هذه الفوهة التى كانت تطلق الأنبياء من آن إلى آخر وانتهى عصر المجنون الحكيم بعد اكتشاف المورستان والتحليل النفسى، وانتهى دور الشاعر الرائى والنبوى لأن المجتمعات صارت تحلم عبر الصورة التى تبثها الفضائيات كذلك انتهى دور المثقف الثورى بعد صعود الرأسمالية الجديدة التى دشنت ثورية خاصة بها وزمنية خاصة بها. ربما مصمم الأزياء ولاعب كرة القدم، ونجم السينما، وصانع الأفلام والاعلانات والداعية الجديد، والموديل ومقدم البرامج، ومتخصص الحمية …الخ هم الذين يلعبون دور المثقف الآن ويؤدون وظيفته. مع نهاية الحداثة وجد المثقف الثورى/ الرسولى/ التنويرى نفسه فى وضع هامشى جدا، وفى عزلة شديدة وعالمه القديم أو مدينته القديمة التى لم تأت أبدا وفقا لأحلامه، وجد هذه المدينة تنهار وتتشوه أو تتريف ويسكنها غرباء ولا يستطيع وعيه الثورى أن يتعرف عليهم أو التحقق من هويتهم، فالسكان الجدد لا هوية لهم. لقد فقد المثقف سلطته التى استمدها من تحرير/إنشاء خطابه التنويرى والثورى. هذا الخطاب الذى جاء مترافقا بخطاب السلطة وعمل على مد هيمنتها إلى مناطق أخرى لم تكن السلطة تحلم بالوصول اليها. ففى الستينيات عمل بعضهم على وضع الأساس النظرى للناصرية وتأطير أيدولوجيتها ومشروعيتها، فعندما تأتى الشهادة ممن عانى الموت وتجرع صنوف العذاب فى المعتقلات لسنوات عدة تكون شهادة بالغة النقاء وكأنها رد اعتبار للنظام. لقد عمل معظم المثقفين فى جرائد ومجلات، ووزارات ومواقع قيادية ثقافية تابعة للنظام وقدموا رأسمالا رمزيا للنظام أو ما يطلق عليه انتاجا ايديولوجيا من أجل السيطرة وممارسة العنف. السخرية ان المثقف الذى يعيش وهم التمثيل يدرك تماما أن من يدعى تمثيلهم هم أول من يرمونه بالحجارة، وهو ما يجعل المثقف يرى الشعب تارة بأنه عبقرى ولا مثيل له بين الشعوب وأن حكمته القديمة صالحة لإثارة الدهشة وتارة أخرى بانه شعب أبله وغبى ومتخلف، ففى فيلم “البرىء” يقول رشاد عويس(الذى لعب دوره صلاح قابيل) يقول لأحمد سبع الليل جندى الأمن المركزى(أحمد زكى):”انت حمار ومش فاهم حاجة”. وعلى جانب أخر نجد ان السلطة قد نجحت بشتى مفاعيلها بأن تجعل من تمرد المثقف الذى لم يندرج تحت سلطتها، وظل فى موقع ما منها لكى يحكم عليها، ويشجب الظلم، ويبشر بنظام جديد وهو نفس الموقع الذى يمكنه من الانسحاب والتمركز على الهامش وهو أمر مستحب للسلطة ايضا، نجحت السلطة بأن تجعله سلوكا عصابيا.

-8-

لقد غدت أيديولوجيا الحداثة عاجزة على الوفاء بمتطلبات وحاجات الجماعات المختلفة. لقد انفتحت الساحة على المتخيل والاستيهامى والدينى وما أرادت الحداثة نفيه راح ينبعث من جديد وما حاولت استبعاده بات يلمع أكثر وقابلا للاستهلاك أكثر فأكثر. لم تعد الهوية تستمد صورتها من الماضى أو من خطة قومية للمستقبل(زراعة، تصنيع، تنمية..الخ) ولكن تستمد صورتها وتتشكل عبر ما يمكن استهلاكه الآن. الخبرات اليومية لا تتشكل وفقا لعلاقات إنتاج تقليدية بل تتشكل وفقا لكتالوج الدعاية واعلانات السفر والمجلات الشعبية. الذات هى لحظة انتقائية مشبعة بالغرائز. يقول ليوتار”الانتقائية هى الدرجة صفر فى الثقافة الراهنة عموما”. الذات جملة من الاكسسوارات، أو مسطح يجمع بين ماض متخيل وواقع مفرط وطارىء وسريع الزوال. حتى الله نفسه صار يسكن هذا السطح  الهش، فلم يعد فكرة غامضة ومجهولة ولا يمكن ادراكه بل ظهر على السطح مثلما ظهر فى جسد المسيح من قبل، الآن تجسد الله ثانية عبر الميديا. فيكفى المؤمن الآن أن يفكر بالله حتى يأتي إليه أو يضغط على قناة فضائية لكى يظهر له من جديد. وأيضا لا يمكن النظر إلى التاريخ إلا بوصفه ليس وحسب قابلا للاستعادة، ولكنه أيضا فى صورة جاهزة للاستهلاك. لقد تحول التاريخ عبر السينما والتلفزيون والكتب وما شابه إلى مجرد أرشيف كبير يمكن استعادته جاهزا واستهلاكه المرة بعد المرة، فالتاريخ لا يكون صالحا إلا اذا كان قابلا للاستهلاك، وهو لا يأتى معبرا عن هوية أو من أجل حفظ الذات بل من أجل تشكيل الواقع بموتيف غير متجانس. يقول سان جون بيرس:”..آه ! هل الكل لا شىء إلا هذا التفتح لفقاعات سعيدة تغنى الوقت النهم وتغنى الوقت الأعمى، وهذا البحر أيضا هل هو البحر الذى يحفر فينا مهاويه الرملية، ويحدثنا عن رمال أخرى”.

-9-

“لقد أصبحت الحياة فى الحقيقة مثيرة للإهتمام من جديد، لقد استعادت الحياة أهميتها كاملة”(فرويد:أفكار لأزمنة الحرب والموت) لقد آن الأوان أن نتعلم كيف نحيا الحياة البسيطة المليئة بالأشغال المملة والسهلة التى هى مأثرة متميزة ترغب فى كثير من الحب على حد تعبير بول فرلين، أى الحياة فى مباشرتها وفى تدفقها الحى وفى مساراتها وفى لعبها، الحياة التى لا تخضع للتنظير ولا للعقلنة، فهى غير ذات غائية أو مشروع بل تنغمس انغماسا كليا فى الحاضر، هو الانغماس الذى يؤسس لحمة الجسد الاجتماعى ويوحدنى بالآخرين، العيش المشترك فى زمن حاضر أبداً، إنها هى الحياة بلا مزايا. وهنا نكون فى قلب الحياة الاجتماعية اليومية، بما هى اجتماعية المبتذل والفريد.(ميشيل مافيزولى) ويمكن تعريف السياسة هنا بانها فن الوجود فى اللحظة المناسبة Kairos هذه اللفظة اليونانية كانت تحتل مكانا هاما جدا عند اليونان لا كمشكل أخلاقى وحسب بل كمسألة علم وتقنية. الkairos هو القدرة على تحديد اللحظة التى يجب التدخل فيها والكيفية التى بها تمارس بالنظر إلى الظروف فى راهنيتها، وهنا تصبح الأخلاق هى “فن اللحظة”(ميشيل فوكو). هذه اللحظة هى الزمن، واللحظة الحاضرة هى التى تمتلك كل الثقل الزمنى، إنها كاملة ومنفردة. إن الماضى هو فارغ كالمستقبل، والمستقبل ميت كالماضى. إن الواقع الحقيقى للزمن يكمن فى اللحظة، وبالتالى تتجلى الديمومة من لحظات لا ديمومة لها(جاستون باشلار). ربما على السياسة الآن أن تتعامل مع الإحباطات المتواترة والفشل المتكرر لا مع الطموحات والآمال، لا توجد هناك أية طموحات ولا أية توقعات. “يتوقف التاريخ هنا، يبرد، يتباطأ، تتبع الأحداث بعضها وتتلاشى فى لامبالاة، إنه يحلم بنهايته الخاصة، إنه يندفن فى تأثيره الفورى، إنه ينضمرimplodes فى الهنا والآن”(بودريار). لا توجد فرص أخرى لوعود جديدة، ولم يعد حلم المواطن المصرى الآن إلا “بالستر”، هذه الكلمة التى تعنى التغطية، أى ألا يصير فى يوم من الأيام مكشوفا وعاريا فتظهر للعيان أثار فأس السلطة على جسده. لقد تفاعل الإسلاميون مع هذا المطلب، الستر، وقدموا له تغطية وهمية عبر الحجاب، أما اليسار فيجد نفسه فارغ اليدين، معزولا ومحبطا وغير مستبعد. ربما لى أن أنحاز ضد هذه التغطية، ولى ايضا أن اعمل من أجل كشف هذا الجسد للشمس، فهى وحدها القادرة على تضميد الجرح. ربما هى اللحظة Kairos التى نخرج فيها لكى نحتفى بالشمس لا بالقمر، لحظة مناسبة وناضجة  Kairosلكى نخرج للاحتفاء بنهار الآخر. إن “رع” ما زال يعبر الأفق فى مركبته النورانية ويتطلع إلى كرنفالات جديدة، ففى الكرنفال وحده ينقلب كل شىء(باختين).

-10-

هل يمكن التعامل مع مسيرة أو مظاهرة أو احتجاج ما بطريقة تشبه خروج الجماهير لمشاهدة فريقها فى مباراة لكرة القدم. هذه الجماهير أو المجموعات التى تلتف حول شىء ما ستذهب بعده دون النظر إلى النتائج أو التفكير سوى بالكرات التى اقتربت من المرمى والفرص الضائعة، أى أنها مشغولة باللعب، وتنتظر مباراة أخرى. إن الجماهير التى تحركت صوب راقصة تقدم المتعة فى شارع عام سوف تتقدم لصنع المتعة والحاضر معاً.

-11-

لقد انتهت خرافة الوجود، لم يعد سوى ما هو موجود، أى أن مبدأ التعالى المفارق يتلاشى ويحل محله الحضور اللا مفارق، الحضور المحايث…..

رابط