الرئيسية / الرئيسية / ندوة: حركية اللغة وتشكل هوية المجتمع،إشكالية التصور وجدل العلاقة

ندوة: حركية اللغة وتشكل هوية المجتمع،إشكالية التصور وجدل العلاقة

موضوع ندوة في معسكر

بقلم عيسى مزوار

معسكر

بدعوة من نادي البيان ، وتحت إشراف مديرية الثقافة لولاية معسكر ، قدم يوم السبت16 جانفي 2021 ، ابتداء من الساعة العاشرة ، بقاعة المحاضرات بدار الثقافة أبي رأس الناصري ، د. العربي طاير مصابيح ، أستاذ الأدب العربي بجامعة مصطفى اسطنبولي بمعسكر ، محاضرة تحت عنوان ” حركية اللغة وتشكل هوية المجتمع : إشكالية التصور وجدل العلاقة” .

نشط هذا اللقاء د. طاهر بقدار ، أستاذ الأدب العربي بنفس الجامعة ، الذي بعد أن صلى وسلم على خير الأنام سيدنا محمد ، رحب بالحضور بقوله : يطيب لنا أن نلتقي في رحاب نادي البيان في هذه الجلسة الثقافية الفكرية لنتناول موضوعا من بين الموضوعات المهمة الجديرة بالدراسة والبحث وهو ثنائية اللغة والهوية . وأضاف : أسعد مرة أخرى أن يكون بجانبي د. العربي طاير مصابيح ، ويسعد أيضا نادي البيان والحضور الكريم الذي ألفناه تواقا شواقا معطاء محاولا دائما أن يتلهف من أجل المعرفة والعيش فيها . ثم أسرد سيرته العلمية والمهنية باختصار على النحو التالي :
_ كان أستاذا للغة العربية بالثانوي ثم مفتشا لها بالمتوسط .
_ أستاذ محاضر الآن بجامعة معسكر .
_ له اهتمامات متعددة في مجال اللغة .
_ بالإضافة إلى ذلك ، فهو مدرب ومستشار معتمد لدار الحكمة للتدريب والتطوير والتنمية البشرية .
وبخصوص موضوع المحاضرة ، قال المنشط أنه يطرح مجموعة من الأسئلة التي سوف يتلقفها الحضور نقطة نقطة ولحظة بلحظة ، باعتبار هل اللغة كائن حي ؟ ماهي البنية التصورية للغة حين تتدخل في تشكلها عدة عوامل : النفسية ، الاجتماعية والفلسفية ؟ ولكن المنظور الذي جاء به المحاضر مختلف : هل اللغة محايدة ؟ هل هي تشكل رؤيا للعالم ؟ كيف تتشكل الهوية في الدلالات العميقة التي تحملها اللغة في سياقاتها المختلفة ؟ ثم أعطى الكلمة للمحاضر ، الذي في البداية حمد وشكر الله على نعمه : الصحة والعافية، العلم والأدب، الأخوة والإسلام ، وسلم على رسوله سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين . ووجه عرفانه للحاضرين في نادي البيان الذي نعته بأنه يؤسس لقاعدة سننية يجتمع فيها الناس ويحاولون بناء ذواتهم ويتساءلون من هم ؟ وأين هم ؟ وهي تساؤلات جوهرية بدأت منذ أن خلق الإنسان على هذه الأرض . وقال أن نادي البيان قد أتعب الذين يأتون بعده ولا عجب في ذلك لأن معسكر هي مدينة التاريخ ، العلم ، العلماء ، الفقهاء والأمراء ، منها تأسست الجزائر الحديثة من خلال بناء مشروع اللغة والهوية . وأعتبر عنوان موضوع محاضرته الشائكة مشروع أمة وليس محاضرة يحتاج إلى كم هائل من المناهج والأدوات . ثم بدأ بشرح مصطلح الهوية بقوله :
_ اصطلاحا : هي جملة من الخصائص والمميزات التي يملكها الإنسان تجعله مختلفا عن الآخر . وهي من هو بضم الهاء .
_ لغويا : هي البئر عميقة القار . وهي من فعل هوى : سقط .
ومصطلح الهوية من المصطلحات الجديدة لم يكن معروفا وولد مع ميلاد الفلسفات المعالجة للظواهر الإنسانية . وكان قبله مصطلح الشخصية . فكل إنسان له ميزاته وخصائصه تميزه عن الآخر. وهذا الاختلاف في نظري ، يقول المحاضر والذي أسميه التنوع ، هو الذي يعطي للحياة صيرورتها . فالله جعل نفسه واحدا مختلفا عن البشر وهم مختلفين فيما بينهم . وأعطى مثالا عن الأدب الأندلسي عندما كان مقلدا للأدب المشرقي ، حتى قال العباسيون قولتهم المشهورة : ” هذه بضاعتنا ردت إلينا” . وقد أصبح الأندلس أندلسا عندما بني لنفسه خصوصية بسبب التغيير الحاصل في بناء القصيدة ( الموشح ) . إن التنوع و الاختلاف حالة صحية في المجتمع وليست مرضية . وأضاف د. مصابيح : لا تشيد اللغة الثقافة والمعرفة فقط ، بل تبني الرؤى والمبادئ وتشكل العالم وترسمه . ومن أهم وظائفها أنها نافذة على العالم ومن خلالها يتصور الواقع . بعدها طرح جملة من الأسئلة ، من بينها : أيهما أولى اللغة أم الفكر ؟ ما العلاقة الموجودة بينهما ؟ هل الفكر سابق أم اللغة؟ وأجاب بسرد النظريات المفسرة لعلاقة الفكر ، الذي هو مجموعة من التصورات واللغة التي هي الحامل .

بعد هذه المقدمة ، انتقل المحاضر إلى نقطة هامة من محاضرته ، وهي علاقة اللغة بالهوية . فقال : ليس هناك فاصل بين اللغة وتشكل الهوية . في البدء كانت الكلمة . وكانت صناعة الكون بين الكاف والنون . كن ، فيكون . وبالتالي فكل ما وجد من بعد ، يخضع لهذه الكلمة . أي الخضوع للأصل أو ما يسمى بالهوية الفطرية( الأصيلة ) . الإنسان يبني هويته من خلال المثال الأول(الهوية الجبلية التي لا توجد بعدها هوية ). هناك تناقض بين الإيمان والفكر ومابين القلب والعقل . والقرآن الكريم يخاطب القلوب فيهزها هزا . ويخاطب العقول فيفتزها إفتزازا . وبين اهتزاز القلب وافتزاز العقل تنشأ الرؤى ،التصورات والمفاهيم من خلال اللغة . والكلام عن القرآن هنا باعتباره مصدرا للغة . وقد أعطى الله للإنسان الحرية والاختيار ، لكن إبليس وقف له في الطريق للوصول إلى الهوية الأولى . ومن خلال إعمال أدوات التميز والفلترة ( المصفاة ) يميز بين الحق والباطل . وبالتالي تتشكل هويته تبعا لاقترابه من الهوية الأصيلة أو من الهوية المبتدعة .
وبخصوص هذه العلاقة دائما بين اللغة والهوية ، شرح د. مصابيح بأن العلاقة تكون علاقة انفصال حين تكون اللغة محايدة ، وإذا كانت اللغة حاملة وغير محايدة تكون العلاقة علاقة اتصال . بمعنى إذا كان للغة دور في تشكيل الرؤى أو الواقع ، فهي متصلة مع الهوية . وإذا كانت اللغة مجرد أداة ( وسيلة من وسائل الاتصال ) ،فقد ينتهي دورها بانتهاء الرسالة المرسلة من المرسل إلى المرسل إليه .
بعد ذلك ، تطرق المحاضر إلى مميزات وخصائص اللغة والهوية ، في النقاط التالية :

• ليست اللغة ناقلا محايدا : بل تشكل نافذة على العالم وعلى الرؤى وعلى التصورات . وعندما لا توظف توظيفا من منظور بنائي إنساني تجعل الإنسان تائها وضائعا بدون هوية يبحث عن نفسه في غيره . فالذي لا يجد نفسه في لغته الأم ، قد لا يجد نفسه في اللغات الأخرى . لأن اللغة الأم تشكل منظومة فكرية ومنهجية إلى جانب كونها رصيدا لغويا للتواصل .

• الشعور بالذات : يحمل الإنسان هوية الوطن ، العلم ، المجتمع ،التقاليد واللغة . وإذا كان لا يشعر بهذه الخصائص ، فلا تنفعه . والهوية أن تشعر بذلك. ولاحظ المحاضر بان الشعور بالذات العربية والإسلامية قد انخفض بسبب تأثير العولمة التي قتلت خصوصيات الشعوب وجعلت العالم قرية واحدة والتفكير واحد والمشاعر واحدة . وأعطى مثالا عن الوجود العاطفي لدى المسلمين بخصوص موقفهم من مقاطعة البضائع الفرنسية كعقاب عن موقف فرنسا من الإسلام . لكن هذا الشعور ما يلبث حتى يخفت بسبب غياب الجانب الإجرائي والواقعي .

• الهوية : ففردية وجماعية : الهوية الفردية هي شخصية ذاتية تتشكل من مجموعة من الصفات . والهوية الجماعية هي مجموعة الشعورات العامة الكبرى تجمع أفرادا ينتمون إلى هوية كلية .
ويعرف الجرجاني الهوية ، في كتابه التعريفات بأنها : ” الأمر المعقل من حيث امتيازه عن الأغيار ” . ويعني بذلك الصورة العاقلة لا المكتسبة أو المقلدة . فإذا تميز الفرد ، من خلال فهمه لنفسه وعقله ولخصوصيته ، فهو يملك هوية خاصة . وهذا لا يعني التفاضل . فحين يقول أني أختلف عن الآخر ، فهذا ليس بالضرورة أنه أفضل منه . ففي حالة الشعور بالتفاضل يحدث الصراع . والاحتلال الفرنسي ، حينما دخل الجزائر ، حاول أن يحدث تغيرات في الهوية الجزائرية بإبعادها عن الإسلام وعن اللغة العربية . ولولا المدارس الحرة ( الزوايا ) التي حافظت على اللغة ، لانطمست هذه الأخيرة . ومازالت هذه الهجمة على اللغة العربية حتى الآن . وللأسف ، يقول المحاضر ، مازلنا ، على المستوى الرسمي نتواصل بلغة الآخر . كان مالك حداد رحمة الله عليه يكتب باللغة الفرنسية وهو يقول : ” أنا منفي في الحرف الآخر ” . لقد أرادت فرنسا أن تنفي الجزائريين في منطق الآخر وحرفه .

• للغة سلطة على صناعة الشخصية : ويظهر ذلك من خلال الشكل ونوع اللباس . فهي تلعب دورا في تشكيل شخصية الإنسان ، معلم اللغة العربية ، معلم اللغة الفرنسية …إلخ .

• الهوية الجسدية : وتتعلق بالأطفال الصغار حين يبدؤون في تكوين عالم الهوية والتعرف على العالم .

• الهوية مستقلة داخل الهوية الكبرى ( الفطرة الإسلامية ) : توجد هوايات مستقلة لأن الله أرسل كل نبي بلسان قومه . فخصوصية اللسان هي التي تشكل الهوية . كما أن تشكيل اللغة يتأثر بالأخذ من الآخر . وذكر قول السيوطي في كتابه دقائق الأخبار المروية في سبب وضع العربية الذي قال أن مائة كلمة موجودة في القرآن الكريم غير معروفة عند العرب وهي مأخوذة من لغات أخرى .واستطرد المحاضر بقوله : ليست عملية الأخذ من الآخر منافية لهويته بل هي إنعاش للهوية الأصيلة . والحكمة التي هي كل ما يفيد الإنسان ، ضالة المؤمن والأمم التي تتقوقع على نفسها بغية الحفاظ على هويتها تضمحل وتختفي حضارتها . وأعطى مثالا على ذلك الخليفة عمر بن الخطاب وانفتاحه على حضارات الأمم الأخرى ( الفرس والروم ) . فأنشأ ديوان الخراج وديوان الإنشاء …إلخ واعتبر مصفاة الخليفة الراشد الثاني مصفاة صحيحة . وقال نحن المسلمين أحق بطلب الحكمة دون أن ننتظر وعلينا أن نكون أول من يطلبها . وعاد إلى تشكل الهوية ، وتحدث بأنها تتشكل من خلال منظور ثلاثي يتمثل في :
_ الشعور بالذات ( الوعي بها ) : أي معرفة الأنا والشعور بها ( وهذا معنى الهوية ) .
_ معرفة الآخر : علم ودراية الإنسان بما حوله .
_ معرفة الله : فهدف رسالة الأنبياء هي أن يعرف الناس ذواتهم وربهم . ودور اللغة هو إرسال هذه الرسالة.

• المرسل والمرسل إليه( العلاقة التواصلية ) : أشار المحاضر في هذه النقطة إلى هوية النمل ( البرمجة اللغوية ) ، الملائكة ( وظيفتهم تسبيح الله ) ، وهي تختلف عن لغة الإنسان الذي أعطاه الله قدرا كافيا من العقل . وهذه البنية العقلية عند العرب ، تصور الشمس بالمؤنث مجازا والقمر مذكرا . كون الشمس مصدرالخصب والنماء عند العرب وبدون ضوء لا تنبت النباتات . وهذا الخصب تتميز به الأنثى، أما القمر فيحرس الناس في الليل ، والحراسة ذكورية أكثر منها أنوثة . وهذه القيم الدلالية العميقة أوجدتها اللغة التي هي أهم مقومات الهوية . بينما الشمس ، عند الغربيين مذكر Le soleil والقمر مؤنث La lune .

• تعيد اللغة تشكيل العالم : في هذه الميزة الأخيرة ، تكلم د. مصابيح عن دور اللغة في تشكيل العالم وفهمه وتأثيرها على الفكر. وتكلم عن الأشكال الأخرى من اللغة مثل لغة الإشارة ، الصوت ، البكاء الذي من خلاله يمارس الطفل ذاته ويقول أنا موجود ، أتوني بالحليب .
وبصفته مختصا في البرمجة اللغوية العصبية ( التنمية البشرية ) ، تطرق د. العربي طاير مصابيح إلى هذه الجزئية في نهاية محاضرته وبين دورها في صناعة هوية الناس وسلطة اللغة من خلال رؤاهم ومشاعرهم ( التفاؤل و التشاؤم) وتأثيرها النفسي والاجتماعي .وختمها بالحديث عن بعض المفاهيم عند الغرب والعرب . فمفهوم الحياة ، عند الغرب مرتبط بالحرية . وعند العرب المسلمين يحكمه الالتزام . فالغربيون يتصورون المرأة ، منذ العهد القديم إلى الآن ، على أنها جسم وقيمتها تتمثل في جسدها . فإذا فقدته ، فقدت وجودها . ففي إبرازه تكون إنسان . وهذه هي الصورة الواقعية إلى جانب وجود الحجاب عند الراهبات . أما المسلمون ، فهم ملتزمين بنص وحضارتهم حضارة نص . أما الغربيون ، فحضارتهم حضارة شخص . كما أن قضية القرابة تختلف عند العرب والغرب الذي لديه : أخت الأم وأخت الأب La tante ، أخو الأب وأخو الأم L’oncle . وعند العرب : العم والعمة ، الخال والخالة .

يعيش العربي بالصحراء فيستعمل كلمة الثلج لإطفاء الحرارة ، ” أثلج هذا الأمر صدري ” . والغربي يعيش في البرد ، فيستعمل كلمة الشمس للدفء ، (Il m’a chauffé le cœur ) . فهذا الشعور بالفرح يعبر عنه بكلمات متناقضة . وهذا يعني بأن اللغة ليست محايدة .
وفي الأخير ، قال المحاضر بأن مداخلته هذه تشير إلى جملة من الإشكالات ولا تعطي حلولا وأننا بحاجة إلى التصالح مع ذواتنا من خلال فهم قدراتنا الموجودة في هويتنا ، ديننا الإسلامي ، حضارتنا ، تاريخنا وجغرافيتنا لبناء مشروع حضاري كبير ينقذنا وينقذ العالم .

تبع هذه المحاضرة مناقشة هادئة وثرية بتدخلات الحضور التي انصبت حول أهمية اللغة العربية في تغير الإنسان من الداخل ، المجتمع المثلي ، انفتاح اللغة العربية على اللغات الأخرى ودورها في تشكيل الهوية .
وطرح تدخل أ. غماري طيبي ، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين تمونشنت ، قضية علاقة اللغات بالهوية بالجزائر ، الذي أعتبرها مخبرا حقيقيا ومثاليا لفهم مختلف الصراعات ولا يكفي علم اللغة والأدب لفهم هذه العلاقة ، بل يجب استعمال أدوات علمية أخرى . فمن الناحية التاريخية ، وقبل الاحتلال الفرنسي ، كانت بالجزائر حالة لغوية واحدة مرتبطة ارتباطا قويا باللغة والدين ، لأن اللغة كانت تعلم في المدارس ( الإطار الديني ) . وعندما دخلت فرنسا الجزائر أول ما فعلته هو فك هذا الارتباط بتأسيس مؤسسات جديدة تستعمل اللغة الفرنسية . وبالتالي أوجدت لغة ثانية . فأصبح للجزائر لغتين ، أضاف لهما الاحتلال لغة ثالثة هي اللغة الأمازيغية ، فأصبح لها ثلاث لغات وثلاث هويات تتصارع حتى اليوم .واستمر هذا الواقع بعد الاستقلال وجاء اختيار التعريب الذي فشل لأن الجزائر دعمت للأسف وظيفة اللغة الفرنسية في أهم المؤسسات الأساسية وأصبحت قوية : في الاقتصاد ( 70% ) ، الصحة ( 99%) ، السياسة ( 50% ) ، العائلة ( مختلطة) . حتى اللغة الأمازيغية ، التي رسمها النضال الأمازيغي ، فشلت . فلم تكن لها وظيفة في المؤسسات ماعدا التعليم بنسبة ضئيلة . ونحن نحتاج ، لفهم العلاقة بين اللغة والهوية ، قال المتدخل في نهاية كلامه ، إلى وسائل وتدابير منهجية لتكون لنا لغة تصنع المجتمع .

ختم هذا اللقاء بأخذ صورة تذكارية جماعية مع د. العربي طاير مصابيح .