الرئيسية / اكاديميا / مُهرّبو التاّريخ! الرقص فوق جثّة الثقافة في الجزائر: معارك بوجدرة التي لا تنتهي

مُهرّبو التاّريخ! الرقص فوق جثّة الثقافة في الجزائر: معارك بوجدرة التي لا تنتهي

لونيس بن علي ( ناقد أدبي / الجزائر )


هناك حاجة دائمة إلى معارك ثقافية داخل الحياة الثقافية، لأنّ مفهوم المعركة يعني امتحان لأفكارنا ومواقفنا أمام معضلات تنبثق في أي لحظة، وهي أيضا مساحة لممارسة إمكانية التفكير من خلال الحفر في الراهن، وخلخلة المسلمات التي أصبحت تنظّم رؤانا الثقافية. ما يبرر الحاجة إلى المعركة الثقافية هو حاجتنا إلى الرمي بالأسئلة على سطح الواقع الآسن. يبقى أنّ الرهان هو في مدى امتلاكنا لأدوات إدارة هذه المعارك الثقافية، هل نحن مؤهلين لإدارة هذه المعارك؟
في تاريخنا الثقافي، كثرت المعارك الثقافية، وفي الأغلب تحوم هذه المعارك بين فريقين: فريق يدافع عن صوت الماضي، وفريق يدافع عن صوت الحداثة. تقريبا، لم تخرج المعارك الثقافية من دائرة هذا النقاش، وفي كل مرة، يسقط الضحايا في هذه المعركة.
كتب الناقد المغربي سعيد يقطين، يقول: (( إن مختلف المعارك التي يعرفها الوطن العربي وليدة التفكير في السيطرة، والهيمنة على الآخر. وفي كل مرة يجد الآخر فيها نفسه، عاجزا عن البقاء تحت تلك الهيمنة، يلجأ إلى سلوك المسلك الذي يسير عليه غيره، فنجد أنفسنا في الدوامة نفسها: إعادة إنتاج المواقع. وحين تهيمن هذه الذهنية، فهي تخلق نقيضها. وتتناسل المعارك. فكيف نغير الذهنية المواقعية ليصبح للأفكار موقعها في الصراع؟ هذا هو السؤال)).
ما يجعل المعارك الثقافية عندنا مجرد حروب عبثية تنتهي بالإقصاء أو بالتهديد بالقتل، أننا عجزنا عن تجاوز ما سماه سعيد يقطين بالذهنية المواقعية، والذي يقصد به أن الأشخاص يتخذون مواقع الأفكار، فبدل أن نناقش الأفكار ونحفر فيها ونقلبها على أوجهها، اخترنا مناقشة الأشخاص ونهشهم، ومعاداتهم باسم الاختلاف. الذين يناقشون الأشخاص يحولون المعركة الثقافية إلى تمهيد مخاتل لإراقة دمه.
المثقف الذي تحوّل إلى حارس التاريخ:
هل أراد رشيد بوجدرة، وهو يؤلّف كتابَه ” مُهرِّبو التّاريخ “، أن يصفّي حسابه مع ثلّة من الكتّاب الجزائريين، أم أنّه بصدد ممارسة نقد للمشهد الثقافي في الجزائر؟ أم أنّ المسألة هي أبعد من هذا وذاك؟
الإنطباع الأوّل الذي سجّلته، وقد يسجّله أيّ قارئ، وأنا أنهي من قراءة الكتاب، أنّ بوجدرة كان بصدد تدمير أساطير غيره، إذ نلمح روح الأبوية المجروحة فيه – إذا ما أخذنا بمفاهيم بوجدرة نفسه – لأجل حماية أسطورته الشخصية؛ فالأب دائم الإحساس بالتهديد أو بالخطر.
وما دفعني إلى صياغة انطباع كهذا – والذي قد يكون متسرعا إلى حد ما -، هو حرص بوجدرة طيلة الكتاب على الحديث عن سعيه إلى الدفاع عن التاريخ الحقيقي (؟ )، ضد ما سماه هو بمهربي التاريخ الذين امتهنوا وظيفة تحريف التاريخ الوطني إرضاء لفرنسا.
ندرك منذ البداية، أنّ التاريخ هو اللفظة المفتاح، لكنها أيضا تلك المساحة الرمزية للمعركة التي فتح بوجدرة النار على كامل جبهاتها. فلم يكن بوجدرة واضحا قدر الكفاية ليحدِّد لنا معنى التاريخ الحقيقي الذي يدافع عنه، فقد ترك القارئ في حالة من الالتباس.


يظهر لنا بوجدرة طيلة الكتاب، انطلاقا من هذا المعطى، مثقفا غاضبا غيورا على التاريخ الحقيقي (؟ ). وإن كنت شخصيا لم أجد إجابة عن سؤال طرحته وأنا منغمس في صفحات الكتاب: عن أي تاريخ حقيقي تتحدث يا بوجدرة؟ أم كنت تقصد – وهذا ما لا أستبعده شخصيا – التاريخ الرسمي، كما كتبه النظام السياسي في الجزائر؟
فإذا تأملنا موقفه من النظام وجدناه ملتبسا جدا، فمرة يظهر لنا بوصفه المثقف الذي رفض مساومات السلطة له بأن يكون وزيرا للثقافة في مرحلة ما، فهو، يقول بمسحة ملحمية: ” لم أكن يوما للبيع “، ومن جهة أخرى يدافع عن النظام من نظريات الضلوع في الجرائم الدموية في سنوات الإرهاب، رافضا نظرية ” من يقتل من؟ “.
ناهيك عن الكلمة العاطفية جدا والمؤثّرة، التي كتبها بخصوص مساندة أخ الرئيس له يوم الوقفة التضامنية معه التي نادى بها مجموعة من المثقفين ضد قناة النهار. وهو الحضور الذي أربك النخب المتجمهرة ضد مؤسسة إعلامية تحمل حسا عدائيا نادرا إزاء النخب. كان بوجدرة آخر من يمكن أن تربكه تلك الزيارة التضامنية غير المتوقعة.
بوجدرة هنا، لم يكن واضحا تماما، بل أكاد أجزم بأنّه كان يقفز برشاقة بين موقف المعارض والمتصالح مع النظام دون الشعور بتأنيب ما. طبعا من حقه أن يخاف على مصالحه.
التحليل النفسي للعصاب الثقافي:
ما شدّني في الكتاب، والذي اعتبرته مفتاحا أساسيا لفهم استراتيجية بوجدرة هو وصفه لبعض الكتّاب الجزائريين بالمرضى العصابيين، وبأنّه بصدد تشخيص أمراضهم النفسية وفضحها.
الكتاب، يقول بوجدرة في الصفحة 12 هو تصوير عيادي بالأشعة لهؤلاء المرضى العصابيين؛ يتحول بوجدرة – إذن – إلى طبيب نفساني بصدد تشخيص أعراض مرضية مزمنة وخطيرة يعاني منها بعض الكتّاب الجزائريين، ومن بين هؤلاء الكتّاب: فريال فرعون، بوعلام صنصال، ياسمينة خضراء، كمال داود، سليم باشي، وسيلة تامزالي… إلخ دون أن ينسى بعض الصحف مثل الخبر والوطن الناطقة بالفرنسية، وقنوات تلفازية على رأسها قناة الشروق تي في التي لم تسلم من مشرطه الحاد ( أعلم أن الطبيب النفساني لا يحمل مشرطا، لكنها ضرورة استعارية فقط ). بوجدرة الطبيب، كان غاضبا أيضا من مرضاه، ولم يكن رحيما بهم كذلك.
نفهم أنّ بوجدرة وظف أدوات التحليل النفسي لتشخيص الأعراض المرضية لهذه النخب التي تشكّل خطرا على التاريخ الوطني، ولا أحد ينكر علاقته الحميمية بالتحليل النفسي، وبأمراض النفس، وبعقد الجسد، وبأعطاب العصابيين، فأدبه يعجّ بهؤلاء العصابين، بل أظن جازما أنّ لا أحد من الروائيين يمكن أن يجاريه في هذا التخصص.
العصابية كما يشرحها بوجدرة ضمنيا في كتابه الغاضب هي اختلاق الأوهام التاريخية لأجل تزييف التاريخ الوطني، والافتراء على الذاكرة الوطنية، والعصابيون هم الذين يساهمون في صناعة صورة سلبية عن الجزائر تغذي المخيلات الأوروبية – الفرنسة تحديدا – عنّا. المثقف إذن يمكن تصنيفه بسهولة في خانة العصابي المريض، في حين لم نجد أنّ بوجدرة أدان السلطة في المساهمة أيضا في تحريف التاريخ وفي تشويه الحاضر!
وفي هذا، التجأ بوجدرة في الغالب إلى بناء موقفه الانتقادي على آراء الكتّاب، وليس على نصوصهم – مثلما هو الحال بالنسبة لموقفه من كمال داود – أو الاكتفاء بنص واحد فقط في حالة بوعلام صنصال وروايته القرية الألمانية – طبعا اكتفى بإصدار أحكامه دون اللجوء إلى مناقشة عميقة لأعمالهم الروائية بالأدلة النصية، الأمر الذي كان غائبا على نحو ملفت، ما أعطى بعدا شخصيا إلى حد كبير لمواقفه تلك.
صحيح أنّ الكتاب هو سجالي أكثر مما هو تحليلي، لكن كان يمكن له على الأقل أن يفتح بعض صفحات من كتبهم لأجل عرض أدلته. طبعا، لا ندعي هنا، أنّ بعض مواقف بوجدرة كانت مجانبة للحقيقة، فموقفه من فريال فرعون كان واضحا جدا، فهي كاتبة ألفت رواية تمجد ذكرى والدها الحركي، وهذا النوع من الكتابات لا يمكن أن تكون بريئة.
المثقف الغاضب:
قال بوجدرة في بداية الكتاب أنّ دافعه الأساسي لتأليفه هذا الكتاب هو شعوره المرير بالعار، وهو يرى أنّ تاريخ الجزائر عرضة للتشويه من قبل مجموعة من الكتّاب الجزائريين المُقيمين بفرنسا – كمال داود غير مقيم بفرنسا فهو مازال يعيش بمدينته وهران رغم العروض الكثيرة التي يتلقاها للهجرة – فكرامته لا تسمح بأن يصمت أمام هذا الاعتداء في حق الذاكرة الوطنية.
ولانختلف مع بوجدرة، أنّ الذاكرة الوطنية هي خط أحمر، لكن، لا يمكن النظر إليها بوصفها مقدسا. فلابد أن تظهر وجهات نظر مختلفة، حتى يحدث هذا السجال الذي من شأنه ان يفرز الحقيقة من الكذب التاريخي. ثمّ أنّ ليس كل التاريخ الوطني هو تاريخ طهراني، فلنكن عقلانيين ولو لمرة واحدة.
نعم، نحن ضد عودة ذلك الصوت الذي يحمل الكثير من الحنين للاستعمار، لكن هو صوت قد يكشف عن عناصر ما من تاريخنا، ثم هو جزء من هذا التاريخ شئنا أم أبينا. والحنين إلى الاستعمار، قد يكون سببا للكشف عن أشكال أخرى من الحنين، لاسيما تلك التي أصبحت بتسميات جديدة، مثل المصالح الاقتصادية، وشراء الشقق هناك… وتهريب مال الشعب إلى غير ذلك من المظاهر، التي لم يتطرق لها بوجدرة الغاضب.
كانت البداية، كما يقول، مع كتاب الروائية الجزائرية فريال فرعون التي بعنوان ( ملك الزيبان)، والكاتبة هي حفيدة المدعو عبد العزيز بن قنة، والذي كان أحد أقطاب الحركى في منطقة بسكرة، وشهد عليه التاريخ بولائه المطلق لفرنسا، وبعنصريته المقيتة اتجاه أبناء جلدته.
ما أثار حفيظة بوجدرة، هو زيارة فريال فرعون للجزائر لأجل تقديم كتابها، بدعوة رسمية، الأمر الذي اعتبره تواطؤا من قبل وزارة الثقافة، ومن قبل بعض الأطراف في الحكم، ناهيك عن بعض القنوات الإعلامية. كان على بوجدرة أن يحفر أكثر، ويجيب عن السؤال الضمني الذي طرحه: لماذا حظيت فريال فرعون باستقبال شبه رسمي؟ أم أنّ الإجابة لا تعنيه تماما؟ إنه السؤال الأساسي سيد بوجدرة؟ فالغضب لوحده لا يكفي.

حضور مثل هذه الشخصية يمثل بالنسبة لبوجدرة اعتداء على الذاكرة التاريخية للجزائر، وتغاضيا عن جرائم الحركى؛ فصدور الكتاب، ثم الاستقبال الذي حظي به أثار في داخله، ثورة وازعاجا عارمين، ما دفعه إلى التفكير في مشروع كتاب، الذي أراده صرخة مدوية وغاضبة في وجه المتسللين إلى التاريخ.
يبدو أنّ بوجدرة يصيغ لنا مفهوم المثقف الغاضب، الذي يحارب لوحده جحافل اللصوص الذين ينهبون التاريخ الجمعي، لأجل محو جرائم الماضي. بالنسبة له، المثقف كائن تاريخي، وهو معني بالمعارك الثقافية التي يكون التاريخ مسرحا لها، فليس مفصولا تماما عن التاريخ. لكن، ومن المفارقة أنّه لم ينتبه إلى دور النظام السياسي في الجزائر في الاستحواذ على التاريخ، وتوظيفه بما يخدم توجهاته أو استقراره. أليس حريا بهذا المثقف الغاضب أن يقيم حربه على النظام والسلطة بدل ملاحقة عدد من الكتّاب كانوا يعبّرون عن مواقفهم الذاتية من التاريخ؟
يتدارك بوجدرة، لأجل ان يوضّح الفرق بين النقد وبين جلد الذات؛ فقد يقول قائل أنّ من حقّ الكتّاب انتقاد تاريخهم الوطني، والخيارات السياسية التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم، لكن يختلف النقد عن جلد الذات في الأهداف. بالنسبة لبوجدرة، فإنّ الكتّاب الروائيين الذين تحدث عنهم في هذا الكتاب لم يمارسوا نقدا، بل كانوا أبعد أن يمارسوه، فقد طغت عليهم حالة جلد الذات لأجل إرضاء الآخر الفرنسي، وتجربة بوعلام صنصال تؤكّد كيف يتحول جلد الذات إلى عامل إرضاء للنخب الفرنسية اليمينية، التي وجدت في كتاباته أيقونة للشجاعة، وأيضا للتسامح مع التاريخ، فهو بحسب بوجدرة كاتب بنى أدبه على فكرة الحنين إلى الاستعمار. أما في حالة ياسمينة خضراء، فقد وجد أنّ روايته ( ما يدينه النهار لليل) تبلور فكرة خطيرة وهي أنّ المُستعمَر هو يتيم مستعمِره [!] هل هو نقد أم مُحاكمة؟
صعب أن نعتبر ما كتبه بوجدرة نقدا بالمعنى الحقيقي للنقد، طبعا إذا اتفقنا بأنّ النقد هو الذي يكون على النصوص بالدرجة الأولى، قبل أيّ شيء آخر. ما الذي نقده بوجدرة إذن؟ النصوص غائبة، أي لم يقدم لنا بوجدرة تحليلات في روايات الكتّاب الذين انتقدهم. باستثناء الحديث السريع عن رواية من رواياتهم، وفي الأغلب يلتجيء إلى الحكم على مواقف أبداها بعضهم، مثل موقفه من كمال داود، بسبب لامبالاته إزاء القضية الفلسطينية، في حصة بالقناة الثانية الفرنسية. أما رواية ميرسو تحقيق مضاد فلم يقل عنها أي شيء. بل بلغ الأمر إلى اتهام كمال داود بالإرهاب، وبأنه كان في شبابه عضوا في الجماعة الإسلامية المسلحة في الصفحة 86 من الكتاب [!] طبعا، لستُ هنا بصدد الدفاع عن كمال داود، بل عن حقي في معرفة كيف قرأ بوجدرة رواية كمال، فهو الضليع في قراءة الروايات والكتابة عنها، ولطالما استمتعتُ كثيرا بمقالاته العميقة حول الروايات العالمية. هذا ما كنتُ أقصده بقراءة النصوص.
في حديثه عن الروائي بوعلام صنصال، والذي كان صديقا مقربا له، انتهى بوجدرة إلى إدانته بسبب روايته ” القرية الألمانية”، وهي الرواية التي لقت ترحيبا كبيرا في فرنسا، وتُرجمت إلى لغات كثيرة، بما فيها اللغة العبرية، وهي الرواية التي أدانت جيش التحرير الوطني بأنه كان جيشا نازيا، وكان من قادته بعض الضباط النازيين الذين لجأوا إلى الجزائر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، هروبا من الملاحقات والمحاكمات، فاستفاد الجيش الجزائري من خبراتهم في الحروب.
يقول بوجدرة أنّ أدب صنصال يندرج ضمن أدب جلد الذات، و هو يرسم صورة سوداوية عن التاريخ الوطني وعن حاضر الجزائر ( رواية قسم البرابرة نموذجا آخر)، وهذا النوع من الكتابة يحظى باهتمام كبير في الوسط الثقافي الأوروبي، لا سيما الجناح اليميني، وليس غريبا، أن يكون صنصال صديقا لأسماء ثقافية فرنسية صهيونية أمثال: هنري بيرنارد ليفي، آلان فينكيلفلكروت، وأندري غلوكسمان، وإريك زيمور ( من أصول جزائرية مدينة سطيف تحديدا ). ثم يتطرق بوجدرة إلى زيارة صنصال لإسرائيل، واستقباله بوصفه أيقونة لثقافة التسامح، وللنزعة الإنسانية. اظنّ أن إدانة بوجدرة لصنصال كانت في محلها، لاسيما بعد أن صار أدبه مطلوبا من قبل اليمين المتطرف، وبعد زيارته للكيان الصهيوني يكون صنصال قد قضى على صورته. وإذا كان صنصال لا يعرف من تكون إسرائيل، فهذه مشكلة حقيقية.
ثمّ انتقل بوجدرة للحديث عن الروائي ياسمينة خضراء، بعد أن قرأ روايته ( ما يدين النهار لليل )، وهي الرواية التي وجد فيها بوجدرة حنينا إلى الفترة الاستعمارية، لأنّها صوّرت واقعا تاريخيا يقوم على فكرة التسامح بين الجزائري والفرنسي، وانتهى بوجدرة إلى خلاصة مفادها أنّ ياسمينة خضراء بنى روايته على فكرة أنّ المستعمَر يتيم مستعمِره [!] ( ص: 30 ) لكن كان رد ياسمينة خضراء قويا، مدافعا عن رواياته وعن سمعته كذلك، مذكرا بوجدرة، أنه يوم كان محمد بلمسهول يقارع الموت في الجبال سنوات الإرهاب كان بوجدرة يتمتع بالأمن في أحضان باريس، فليس هو من سيعلمه معنى الوطنية أو الوفاء للوطن. يعني نفهم من كل هذا، أن النقاش ابتعد عن دائرة الأدب، ودخل دائرة أخرى هي الدائرة الشخصية، والمفاضلة في درجة الولاء للوطن، من هو أكثر وطنية من الآخر. مثلما انتقلت مع كمال داود، إلى دائرة القضاء [!] الرواية نفسها حُوّلت إل فيلم سينمائي من إخراج أحد الأقدام السوداء في الجزائر وهو ألكسندر آركادي، وهو ذو ميولات صهيونية [!]، والغريب أنّ وزارة الثقافة الجزائرية مولت جزءا من هذا الفيلم.
ثمّ انتقل إلى كمال داود، فكتب بوجدرة ما يلي: (( أن تقترف كتابا مثل ميرسو تحقيق مضاد، في عزّ مئوية كامو! هو تزييف للتاريخ. هو ممارسة التهريب الثقافي )) (ص53)
لكن ما لم أفهمه تماما في موقف بوجدرة: هل عداءه لكمال داود هو بسبب روايته ( ميرسو تحقيق مضاد )، أم بسبب مواقفه التي عبّر عنها في قناة فرنسية، لاسيما حينما قال أنّ فلسطين قضية لا تعنيه؟؟ الحقيقة أنّ بوجدرة لم يقل شيئا عن الرواية، بل تجنبها قدر الإمكان، بالقدر الذي خصصه للحديث عن كامو الاستعماري، وعن كمال الذي لا تعنيه آلام الفلسطينيين. لا يهمني شخصيا أن أبدو متعاطفا مع داود، فموقفي منه قد عبّرتُ عنه في مقالات كتبتها عن الرواية، بل ما أثارني هو سبب تجنب بوجدرة الحديث عن الرواية بالذات؟ ألم يكن حريا به على الأقل – كما أشرت إلى هذا في أكثر من موضع في هذا المقال – النبش داخل الرواية لأجل معرفة مواطن الخلل في رؤية كمال للتاريخ الوطني، ولقضايا اللغة والدين؟
نفس الموقف صاغه حول سليم باشي، لم يتحدث بوجدرة عن رواياته، بل أشار فقط إلى روايته الجديدة التي وصفها بالغريبة متنا وعنوانا ( الرب، الله، أنا والآخرون) التي صدرت عقب أحداث نيس الدموية. سليم باشي بالنسبة لبوجدرة هو كاتب معادي للجزائر ومعادي للإسلام [!] وكعادة بوجدرة كان حريصا على اقتناص جُمل من حوارات كتَّابه – الأعداء، فسليم باشي وصف النظام الجزائري بأنه نظام شمولي.
هنا انتقل بوجدرة إلى موقع آخر هو الدفاع عن النظام الجزائري بتنزيهه من الشمولية، ومبرِّره أنه لو كان النظام شموليا لما تمكن من نشر رواياته الإباحية والملحدة على حد تعبيره (ص 64)، بل لو كان النظام شموليا لما تمكّن سليم باشي من قضاء إجازته الصيفية في شواطئ سرايدي! ما طبيعة هذا النظام؟ يقول بوجدرة أن النظام الجزائري هو نظام مهوس بالسلطة، يعاني من مرض مزمن هو الرشوة.
ومن جهة أخرى، سليم باشي لا يكتب دون مقابل، إنه كاتب تحت الطلب. ولأنه أتقن مهمته في تشويه صورة الجزائر، فقد عيَّنته فرنسا مديرا لمركزها الثقافي في إيرلندا الشمالية. عكسه هو، الذي رفض حقيبة وزارة الثقافة، لأنه لم يكن للبيع!
ينتقل بوجدرة للحديث عن واقع الإعلام في الجزائر، وقد تأسّف على مستوى بعض الجرائد التي كانت رائدة في حرية التعبير، ورائدة في نشر الثقافة، مثل جريدة الوطن الناطقة بالفرنسية، وهي الجريدة التي حظرت، بأمر فوقي، نشر أي شيء لبوجدرة أو عن بوجدرة. ومثل جريدة الخبر التي حوّلت – كما يقول- ملحقها الثقافي إلى ملحق لمواد التجميل يستهدف شريحة المراهقات ( ص74 ). أما تلفزيونيا، فقد تأسف للمستوى الذي بلغته قناة الشروق تي في، التي أصبحت أيقونة لنشر الفكر التديني، الممزوج بالشعوذة. مدافعا في نفس الوقت عن البرامج الدينية التي كانت تبثها القناة الوطنية، التي كانت تدعو إلى دين عقلاني ووسطي ومتفتح.
إنّ المشهد الثقافي، كما يراه بوجدرة هو مشهد بائس؛ فمعرض الكتاب الدولي، يسيره أشباه الأميين ( ص 76 ) لم يساهموا في ترقية ثقافة الكتاب في الجزائر، بدليل أنّ الوضع ظلّ على حاله منذ سنوات، وهو يتساءل عن سبب إقبال الجزائريين على اقتناء الكتب: هل لقراءتها فعلا، أم لتزيين صالوناتهم؟
وتزداد صورة البؤس قتامة، لما يستعرض بوجدرة ميلاد موجة أدبية في فرنسا، هي على عكس موجة مهربي التاريخ، ويقصد بها جيل من الروائيين الفرنسيين، الذي يتمتع بإمكانيات إبداعية رهيبة، وبمستوى جمالي عالي، وبجرأة كبيرة في الكتابة عن التاريخ المشترك بين الجزائر وفرنسا، بل كانت لهم الشجاعة للكتابة عن الصورة المشرقة لحرب الجزائر، لأجل إدانة الاستعمار الفرنسي، وقد خص بالذكر: لوران موفيني وروايته ( الرجال)، وجيروم فيراري وراويته ( حيث تركت روحي)، وأليكسي جيني صاحب رواية ( فن الحرب الفرنسي)، وجوزيف أوندراس وروايته ( إخوتنا المجروحين) وهو الشاب الذي رفض تسلم جائزة الغونكور لأسباب التزامية.
يضع بوجدرة المشهد في حالة تناظر بين كتّاب من الجزائر وكتّاب من فرنسا، تتقاطع الأسئلة وتختلف الإجابات والرؤى. طرف يحرّف التاريخ وطرف يرمي بالأسئلة الحارقة في وجه التاريخ الاستعماري!
كخاتمة لهذا المقال، يمكن أن نخلص إلى مجموعة من الملاحظات، أولها أنّ بوجدرة قد دخل في مرحلة الإحساس بالخطر القادم من جيل جديد من كتّاب الرواية في الجزائر، فهو معروف بلغته الأبوية حين يتعلق الأمر بموقفه من روايات الجيل الجديد. ثانيا، لم يسقط بوجدرة في لغة تعميمية، بل كان واضجا منذ البداية، وهو يذكر الكتّاب الذين سيتعرضون للتوبيخ من طرفه. ثالثا، الأمراض التي تحدث عنها بوجدرة، هي للأسف تنخر جسد الثقافة في الجزائر، وإن كان للأسف قد تجنّب الحديث عن أمراض أخرى. رابعا: لم يدن بوجدرة السلطة السياسية، ودورها في انهيار المشهد الثقافي الجزائري، والتي ساهمت في تربية نخب تقتات على نهش لحوم بعضها البعض، وفي نظري أنها كانت أفضل طريقة لاذت إليها السلطة لأجل إلهاء هذه النخب عن القضايا الحقيقية، وعلى رأسها تنمية المواطنة الغائبة في هذا المجتمع.