الرئيسية / اكاديميا / نظام الميديا قراطية: ممارسة السلطة بديلا عن ممارسة السياسة

نظام الميديا قراطية: ممارسة السلطة بديلا عن ممارسة السياسة

عاشور فني

 

 

 

بعد تغييب الشعب وتغييب الوعي السياسي الوطني الذي حلت محله أصناف أخرى من الوعي الفئوي والجهوي والمصلحي والعشائري والعائلي والفرداني والمذهبي نشأت “ثقافة” سياسية جديدة لدى السياسيين أنفسهم تقوم على كثرة الحركة اليومية لاحتلال الساحة الإعلامية والتأثير في العمل التقني لقطاعات النشاط الاجتماعي والاقتصادي. صار الرئيس يناقش المهندس قي تخصصه على شاشة التلفزيون والوزير يناقش المدير في عمله بحضور الصحافة ويشهد الرأي العام على صرامته. بل وصل الأمر إلى أن يتخذ وزير قرارات مهمة على شاشة التلفزيون: نتذكر قول وزير الصحة يوما لمدير: أنت مفصول. على شاشة التلفزيون. كان بإمكانه أن يتخذ القرار بناء على تقرير مؤسس في مكتبه بالوزارة. الرئيس نفسه اتهم أحد الوزراء بأنه خلال عشرة سنوات لم يفعل شيئا أساسيا وعد به. ومع ذلك ظل وزيرا.  لم يغادر الحكومة إلا حين انفجرت قضايا الفساد. كل ذلك على شاشة التلفزيون.أمام الملأ. صارت ممارسة السلطة على شاشة التلفزيون بديلا للممارسة السياسية. 

 

نظام الميدياقراطية

 الحكم عبر وسائل الإعلام والمعارضة أيضا. تلك هي الميدياقراطية. الأحزاب السياسية ترفع لهجتها المعارضة أمام شاشة التلفزيون. يوحي ذلك بنشاط سياسي قوي. لكن حضور المناضلين أو المواطنين في القاعة يوحي بفراغ رهيب. لا أحد يهتم بالخطابات. حياة الناس تجري في واد آخر تماما. رغم أن تلك الأحزاب تطلب الإذن للقيام بتجمع مع المناضلين من الإدارة المحلية دون أن تحتج على تقييد نشاط السياسيين. بل لا تعتبر ذلك قيدا على الإطلاق. المنتخبون يقلعون عن أي نشاط بمجرد انتهاء الحملة الانتخابية ويتحولون إلى ممثلين للسلطة التنفيذية. لا يعتبر النواب أنهم يمثلون سلطة مستقلة تسمى السلطة التشريعية لها وظيفة مستقلة عن السلطة التنفيذية. وظيفة إصدار القوانين. السلطة التنفيذية هي التي تبارد بمشاريع القوانين. لا يبادر النواب والمجموعات البرلمانية التي تشكلها الأحزاب بقانون ولا برقابة على النشاط الحكومي ولا الاتصال بالناخبين الذين شرفوهم في دوائرهم. أصبحت الانتخابات هي “النشاط السياسي” الوحيد الذي يحرك هذه التنظيمات المسماة جمعيات سياسية. أما العمل السياسي اليومي فلم يعد أحد يعرف له معنى: الاطلاع على الأوضاع ومحاورة المواطنين وتقييم عمل المؤسسات وإعداد البرامج ومناقشتها مع قواعد الحزب وبناء انتماء حزبي خاص يختلف عن بقية الأحزاب التي ينبغي أن تكون مختلفة. إطلاق مبادرات سياسية ذات معنى بالنسبة للمواطن وللوطن. كل هذا لم يعد واضحا في ما يسمى بالنشاط السياسي. النشاط التنظيمي للأحزاب حل محل النشاط السياسي. بل إن بعض الأحزاب –خاصة أحزاب السلطة- تخلت عن برامجها أصلا من أجل شيء نظري يسمى برنامج الرئيس. كل ذلك من أجل الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها أو التقرب منها… كل هذا أصبح الآن من الماضي.

 

من كرسي الحكم إلى حكم الكرسي

هاهو النشاط السياسي يدخل طورا جديدا: اتخاذ القرارات التي تمس هيكلة مؤسسات الدولة على موائد شرب القهوة وتناول البقلاوة… مع غياب تام للنقاش العام. بل غياب المعلومات عما يجري فعليا وفي أي اتجاه ولأي غرض. قمة الوضوح في قمة التعتيم… قرارات من صلب صلاحيات الرئيس يمكن أن تؤثر في حياة المؤسسات وحياة الناس تجري في سياق غير معقول: بعد غياب الرئيس بسبب المرض عدة شهور وعدم انعقاد مجلس الوزراء وانفجار قضايا الفساد على نطاق واسع وصدور بلاغ للتوقيف عبر الشرطة الدولية في حق أعضاء في الحكومة يتم تعديل الأجهزة وتوزيع الصلاحيات وتبديل الأشخاص دون توضيح مصير الملفات: قمة العبث؟أم قمة الحكمة؟

يظهر الرئيس بالملابس المنزلية… ليتخذ قرارات تتطلب استعدادا عسكريا لأنها تمس أوضاعا إستراتيجية. كل ذلك على شاشة التلفزيون. هكذا صارت ممارسة السلطة من على الكرسي على شاشة التلفزيون بديلا لممارسة السياسة في الحياة.

أردت توضيح الانزياح الذي يقع بالتدريج في المفاهيم: حين تصبح ممارسة سلطة قانونية أو إدارية بيروقراطية رديفا لمعنى الفعل السياسي الذي يتجاوز ذلك. حين يكون منصب وزير مجرد ترقية لموظفين في القطاع كما وقع في التعديلات الحكومية المتتالية على رأس عدة وزارات (المالية -الموارد المائية – الميزانية – البريد وتكنولوجيات الاتصال-) أو ترقية لموظفي وزارة الداخلية في الإدارة المحلية (4 ولاة في التعديل الأول ثم تنزيل بعضهم إلى رتبة والٍ في التعديل الموالي). هذا التوجه يعني أن الإدارة تمارس الحكم مع تغييب الطبقة السياسية. مفهوم ممارسة السلطة يتقلص هنا إلى درجة (تصريف أعمال الهياكل الوزارية) ولا علاقة لذلك بالسياسة بمعناها المتعارف عليه. هذا هو الخطر الداهم على الدولة. السلطة تدمر الدولة.

القرارات التنظيمية تعطى لها معاني سياسية في غياب أصحاب المصلحة أي الشعب. تلك هي طبيعة النظام الاستبدادي الذي يلغي المشاركة الشعبية ولا يقبل اقتسام السلطة حتى مع الأطراف الشريكة في الحكم. والشواهد كثيرة تكفي لتوضيح ذلك. لكن يبدو أن الجزائريين يحبذون حاكما متسلطا (يسقّم لبلاد) أي يصلح الدولة ويشعرهم بالأمان الأبوي بديلا عن حاكم ديمقراطي يفتح الممارسة السياسية للجميع في سياق الدول المدنية.

 

قرن من الإصلاحات السياسية يفضي إلى غياب السياسة

هذه القرارات التي تسرب الآن مخيفة. تكون التعديلات في الجيش والأجهزة استجابة للتطورات الإستراتيجية. شخصيا أرجو ذلك. ولكن أن تجري هذه التعديلات بعد تفجير قضايا الفساد وأن ترافق ذلك أو تتلوه التسريبات والتسريبات المضادة والتشويش الذي تبعها والقضايا التي ارتبطت بها. كل ذلك لا يترك مجالا للاطمئنان. رغم أن في هذه التعديلات في النظام أمورا إيجابية جدا كان يمكن أن تؤدي إلى الفصل بين العمل الأمني والعسكري أولا ثم بينهما وبين العمل السياسي والثقافي والإعلامي وتفضي إلى نزع عسكرة الحياة السياسية والثقافية والإعلامية والتأسيس للحياة المدنية الحقيقية فإنها تنطوي على مخاطر جمة في غياب المشاركة الشعبية وفي سياق الاستقطاب في قمة هرم الدولة. المؤسسات الحديثة تعتمد على الاتصال المباشر لا على التسريبات والتسريبات المضادة. يتطلب ذلك ثقافة دولة جديدة بأجهزة جديدة. لذلك أتمنى شخصيا أن يعين ناطق رسمي أو يكلف أحد المسؤولين بالحديث عن هذه التغييرات ويتم ربطها بالإصلاح السياسي. ربع قرن من الإصلاحات السياسية يفضي إلى غياب السياسة أصلا وبقاء السلطة وحدها في الساحة في غياب الطبقة السياسية والشعب والمؤسسات… في حين أصبحت الدولة مجسدة في أشخاص. هذا ما وقع في دول الجوار: سقوط المستبد يفضي إلى سقوط الدولة. لم يقع ذلك في الجزائر حتى الآن. ذلك ما ينبغي تجنبه.

Mediacratie