الرئيسية / الرئيسية / مقاطع من رواية “أشياء ليست سرية جدا”

مقاطع من رواية “أشياء ليست سرية جدا”

هند اوراس

 

 

 

 

 

لكم أسعدني رجل يقدّ لي نهارا وشارعا وطريقا ووقتا خارج الخدمة، لكم أدهشني … وبنصف ابتسامة علّقني على حبل قيده، أجّلني للموعد اللاحق… لكم أربكني، بربع التفاتة باغتني حضوره، بشراهة الكلمات إلتهمت وجهه… رجل لتوّه يكتب مقدّمة مثيرة لامرأة لم تبلغ ذروة الفرح ولم تخبر حلاوة المواعيد الخاطفة على مشارف الحرائق.
يفاجئني كورطة، يفرغني من وحدتي…لم يمسك بيدي لكنه غيّر مفاتيح قلبي لفرط الصّدأ وأقفل أبواب الكآبة.
يصمت، ولشدّة صمتي أثرثر، يكتسحني كعاصفة، يقتلع قلبي كباب، يهدم أسواري المهترئة، يتجمّع في ذاكرتي كإله، أنفرط أمامه كعقد… لكم زلزلني…
غاب لساعة أم تعمّد الغياب؟ هل ترانا بدأنا اللعب؟
شاسع… كيف لي أغطّيه؟ كيف لي أحتويه؟ فأنا مفرغة ورصيدي قليل.
عدت إلى بيتي طارئة كيومي هذا. نافضة غبار الشارع وأشياءه المزعجة، تصفّحت وجهي في المرآة وإذا بصوت هادئ ينبعث من عمق المطبخ، التفتّ على عجل إنّه أحمد. بادرني بالسلام حضنني كتمثال بعد أن كنت قد خلعت قلبي وذاكرة يومي الجديد مثلما خلعت معطفي …
لم أتفاجأ لم أندهش، لم أغتبط، لم أقفز فرحا، لم يخفق قلبي، لم يتحرّك بيتي مثلما كان يفعل من قبل حين عودة أحمد من السفر، أشفقت عليه، أشفقت على حالي وعلى الجدران والأبواب والنوافذ والأولاد، فيبدو أنني خارج الخدمة.
الحب زلزلني،قنّعني…
غريب حقا هو الإنسان حين يكتشف حقيقته، حين يعثر على أشيائه المفقودة تبهت ممتلكاته تتغيّر اهتماماته، تتزاحم فيه الأسئلة كل سؤال يعطي جوابا يمارس سطوة، يكرّس إلغاء.
هو أحمد الذي لم ير من فتنة يومي هذا غير امرأة تتكرّر في الغياب، تتأنّق في الرتابة، هو الغائب هو المستتر. لكم تمنيت لو أودعني يوما حقيبة رجولته، لو كبّلني برائحة عطره لو أضرمني بين شفاهه ويديه وأسكنني قلب أحلامه، لكم تمنيت لو… أطلق سراح حواسّه لتحاصرني لتأسرني، لكم تمنيت لو… أدهشني، أربكني، بعثرني… لو…أحبّني…
وكمن يحاول الهروب من تهمة قد تلحق به بادرته بالسؤال: “لم لم تتصل وتخبرني بموعد قدومك؟ “فردّ ببرود وثقة:”الأمر لا يستحق فأنا أعلم أنك بانتظاري دائما” قطعت هذا الحوار البارد بادّعاء، واندمجت في طقس البيت المزدحم بالفوضى، أطفأ سيجارته مثلما أطفأ أنوثتي التي لم يتجرّأ يوما على إشعالها واقتحم غرفة نومي ليلقي بجثّته المتعبة على سريره المنفرد.
رحت ألملم أشياءه المبعثرة، حقيبة بها ثياب تحتاج الغسيل، كتب،كثير من الكتب قد أجد لها مكانا في المكتبة، أحذية تصلح زادا لقمامة، وعلبة أنيقة لم أجرؤ على فتحها وضعتها في درج الخزانة.
محفظته التي تحوي أوراقه الثبوتية، أنفاسه لا يمكنها إلا أن تلزم مكانها بخصوصية أشيائها فوق المكتب. تمنيت لو عثرت على محفظة ذاكرته وفتحتها، لكنت فتّشتها وتصفّحت أوراقها السرية، هو الغامض أبدا، هو المندسّ في أفكاره هو الغائب في حضوره هو الحاضر في غيابه.
علاء تشّمّم رائحته فبادرني بالسؤال: “السيارة بالخارج هل أتى بابا؟ “وأجيب” والدك ينام بالغرفة لا تزعجه”
وكنت المنزعجة الوحيدة بعد أن خلعت ذاكرتي الجديدة وارتديت القناع… مجيئه صادر بهجتي بحمّى اكتسحتني بهذيان لذيذ.
غطّ في نوم عميق وغططت في ورطة البيت والأولاد والهاتف والفوضى…
رنّ هاتفه اسيقظ على عجل مخطوفا يلفّه شحوب غريب وهرع ليواصل مكالمته خارجا.
بعد دقائق عاد يناديني باسمي الأوّل متسائلا عن وضعي الأخير: كيف أنت الآن حوريتي؟ فأجبته:”المرض يزداد استفحالا “قلت المرض وكنت أقصد الحب، جالسا على مقعد في بهو البيت ووجهه النحيل معصور ومنكمش يحاول إخفاء أمر ما بابتسامة مزيّفة لا تنبئ عن حقيقة.
بالعاصمة يكتب اسمه يلمّعه، يحفظ للبحر أسماء تخطّها الأمواج والزرقة، بمد وجزر يلتحف سماء تتلوّن على مزاج الطبيعة، يحلم بالسفن كبيرة الحجم والحمولة العابرة للقارّات وصولا إلى مدائن الأنوار والفن والحرية،كم يعشق الحرية ،ولشدّة ما أحبّ البحرغدر بالتّراب وبالخالدية، لكم أحبّته الخالدية…
ليلتي جامدة… ولا أملك من إغرائها غير ضمّة أو ضمّتين، لمسة أو لمستين باردتين مفرغتين لا تشيان بشيء على الإطلاق، وحديث مسهب في السياسة والزملاء والزميلات في العمل، عن الجريدة وشارعها ديدوش مراد، عن البحر وعن كتابه الجديد” البحر وأنا” حتى هذا العنوان المغري سيصدم قارئه الذي قد يتوقّع أنّه سيقبل على وجبة حب دسمة تنسيه أعباء يومه المثقل بالواجب وبنشرات أخبار تكرّر على مرآه ومسمعه بؤسه ومأساة وطن تتلفه عقول متخمة بالشحم وبأفكار النهب والسلب، لكنّه بعد صفحة أو صفحتين من مقدمة تشي بحديث مطوّل وعميق في السياسة لا غير وشيء من التاريخ سينسحب، سيبحث عن شيء آخر يلهيه عن همّ راتب لا يكفيه لأسبوع أو أقل. الجزائريون قتلتهم سياسة المنافقين والمتواطنين والمتواطئين.

لبلدة:الخالدية
و 11 ديسمبر2010،
كانت الصبيحة باردة، وزخّات المطر منعشة. كان الشارع مبتلاّ تكسوه المعاطف الشّتوية ورائحة بنات صغيرات وفتيان متوجهين إلى المدارس، كانت الريح تعبث بالشجيرات وبالأغصان وبواجهات المحلاّت، كانت الأرصفة مكتظّة بالآمال والطموحات..
كان الاندفاع المتوهّج، اللهاث والقفز على الممكن والمستحيل من كل شيء وفي كل شيء.
كان المحل يعجّ بالزبائن ورجل نحيف طويل القامة يقف خلف الكونتوار يلبّي طلباتهم.
بنظرة غير بريئة بادرني بالسؤال:
ـ هل من خدمة سيدتي؟ وبابتسامة مدسوسة سألته:
ـ خط الأنتريت من فضلك هل هو في الخدمة؟ التفت بارتباك ماسحا وجهه بكفّه مدّعيا عدم السماع
ـ عفوا ماذا قلت؟
ـ النت من فضلك.
ـ آه فهمت، الخط مقطوع، أنا آسف سيدتي.
ثم استدرك قائلا:
ـ إذا كان الأمر طارئا سأتّصل بمصلحة البريد يمكنهم المساعدة. وكأيّ رجل خالدي مأخوذ بلفتة امرأة أصرّ على إطالة عمر الحوار.
وبخبث أنثى مشدودة إلى رجل طارئ أجبت:
ـ لا عليك سيدي سأعود غدا، يمكنني الانتظار. بكلمات مفخّخة بادرني:
ـ لا بأس نحن هنا كل يوم، أبواب المحل والقلب دائما مفتوحة.
انصرفت مخلّفة رائحة عطر باريسي وأسئلة، وموعدا.
كمراهقة خفق قلبي، سلّم مفاتيحه للصدفة، وعلى ناصية الاحتمال توقّف، ارتكبت الحماقة كأيّ امرأة وانسحبت من عقلي للحظات مأخوذة بجمال فستان قد لا يكون على مقاسي.
بحماقة أخرى تساءلت”هل تراني دخلت اللعبة؟
غادرت المحلّ ملتحفة صورته، صوته، حضوره بتقمّص بارع للدور الجديد. بعد أن سجلت رقم هاتفه .
يوم جميل…يوم طارئ…
تغيّر لون الشارع الشاحب.
صرت أرفع رأسي تارة إلى السماء الغائمة التي سخت بزخّات مطر أنعشت روحي، وتارة إلى الحصوات المتناثرة على الأرض أعبث بها وأرميها بقدميّ بعيدا، أمشي بعيون حالمة، محلّقة في أبعد سماء.
” هل أنا مجنونة حقا؟ تساءلت.

صلّحت تفاصيل وجهي بشيء من البودرة، تصفّحت جسدي، رتّبته، نسّقت بين سروال الجينز والمعطف البني والحذاء عالي الكعب الذي أفضّل، وضعت أحمر شفاه خفيف ولمسة عطر.
وقفت أمام مرآة البهو، تأمّلتني، صار يمكنني الانصراف، وفيما تخجل النساء الخالديات من الخروج في كامل زينتهن أخجل من دخول محل عارية من أنوثتي.
قطعت الشارع على وقع عيون متلصّصة وصهيل ريح غبارية صادرت أحاسيسي، لم يكن الطريق إليه مملا لكن الوجوه التي طوقتني بالأقفال أصابتني بالكآبة، كان وجه الشارع باردا،شيئا فشيئا صار مصفرا باهتا،غير أن شيئا بداخلي يرفض ذاك التواطؤ الفظيع للطبيعة والناس، امتطيت شغفي الطارئ ذاك واتّجهت نحو المحل لأزرع فيه أولى ألغامي.
على مساحة الارتباك مشيت، خلقت لخطواتي مبرّرا.
دخلت المحل مدجّجة بلغة تبالغ في التأنّق ووجه يبالغ في التقنّع خلف طبقة من البودرة وتوابعها، ألقيت السلام لا أحد …غير طقطقة مفاتيح تأتي من تحت الكونتوار ورأس يطل مباركا الصباح برد التحية …لم أشعر بشيء داخل صدري يحدث فرقعة، ليس هو… يا إلهي لم أجده…
وقبل أن أبادر بالكلام سألني الرجل :”هل أنت من يحتاج النت؟” أجبته:”أي نعم”
ـ تفضّلي سيدتي الخط شغّال.
لم يسعدني الخبر بقدر ما أسعدني تذكّره الموعد، تذكّرني وحضر غيابا .
استعدت أنفاسي المنسحبة منّي عنوة، تسلّلت خلف الكونتوار جلست إلى النت وصرت أبحث وأحمّل، كانت تكفيني لمسة أصابعه على لوحة المفاتيح وعطر أنفاسه في المحل لأعيش عمرا كاملا دون أن أشرب ولا قطرة ماء واحدة…

جلست إلى النت، أجل هذا ما فعلت وصار كل من يلج المحل يرميني بنظرة ريبة متسائلا في صمت ترى ما الذي أتى بهذه الشبهة إلى هذا المكان؟
في الخالدية النساء لا يرتدن غير محلات مكتوب في أعلى واجهاتها “للنساء فقط”وانا واحدة ممن يكسرن، التكسير تلك مهمّتي، بكل ما أملك من مواهب، بمجازفة، مع علمي المسبق أن هناك خسائر جانبية، قد أفقد يدا أو رجلا أو عينا قد أصير كسيحة أو عمياء أو قد أخرج سالمة فهذه حربي المعلنة على قاعدة “للنساء فقط”…
بعد ساعة بالضبط وصل، كنت خلف الكونتوار ووقف أمامي قائلا: “ها قد أتيت” وقفت وصافحت روحه قبل يده وقلت “مرحبا بك في محلك لقد سبقتك” رد بصوت خفيض “فلتفعلي دائما”. صار يدور مرتبكا كمعتوه، يلتقط الأشياء المرتّبة سلفا. متقمّصا دور الحكيم يشعل سيجارة غير آبه بي لكأني به يقول “يمكنك الانصراف في اي لحظة فأنا مستعد لذلك”.
بكبرياء مستتر يموّه.
في الحقيقة، كان يريد مزيدا من الحضور، كثيرا من الكلام…