الرئيسية / الرئيسية / مفاتيح تقريبية لخزانة الأسرار — (من مقدمة الكتاب)

مفاتيح تقريبية لخزانة الأسرار — (من مقدمة الكتاب)

بقلم/ د. وسيلة بوسيس


جامعة جيجل – الجزائر

اصدر الأستاذ فصل الأحمر قرابة العشرين كتابا إلى غاية اليوم، و قد أبدى استغرابا كبيرا من أنني لم اخط له أية مقدمة لأي من هذه الكتب الكثيرة، وقد أصر على أن أخط له هذه الأسطر عتبة لكتابه السيرذاتي هذا.
كانت فكرتي انه ربما يحسن أن يخط هذه المقدمة غيري بسبب قربي من الموضوع وكوني جزءا من هذه السيرة. ولكنه أصر. وسيعرف كل من دخل سيرته الذاتية وخرج آمنا كم أنه عنيد صلب الرأي متصلب الإرادة.
اين تقع الذات بالنسبة إلى النص يا ترى؟
العلاقة بين الكتابة والذات قوية وضرورية ولا تحتاج إلى بيان بليغ. الكتابة حفر مستمر في ارض الذات، هي استنطاق لمكنونات ذاتية مترسبة في الذاكرة؛ ذلك المشجب الذي يعلق عليه الكتاب كل ما لديهم.
الكاتب الفاقد للذاكرة فاقد للكلمات. فاقد للأسلوب. فاقد لنفسه وكفى…
يبقى أن الكتاب الكبار يعكفون على استنطاق المناطق الصامتة المتمترسة بين متاح تجارب الناس والمستعصي على اللغة من التجارب .. يعكفون على المسار الهام الذي هو التخلص من العتمة التي نصاب بها ونحن ننخرط اجتماعيا.
السيرة الذاتية خروج منمق من الذات الاجتماعية صوب فردية نصفها يشبه الجنون والنصف الأكبر يكنى بالعبقرية.
يغلب على الكتاب الكبار الظهور ظهورا سافرا في أعمالهم كما هي حال لوي فيردينان دو سيلين؛ الذي يذكر في بعض رواياته نفسه وزوجته ومدرسته وقطّه أيضا. وكثير من الكتاب عدا سيلين يفعلون هذا… تجربة حياة تتحول إلى مصير مجتمعي أو حتى كوني… وقد استوقفتني مؤخرا تجربة ماتياس إينار ورحلاته التي تحولت شيئا فشيئا إلى مجموعة أعمال كللتها روايته “بوصلة” في عمل أوركيسترالي جميل تضيع فيه المسافة بين الخاص والعمومي. كما استوقفتني مرارا حالة مالك حداد الذي يمضي كتبه ومالك حداد الذي وصف نفسه ذات حوار بأنه الكاتب العمومي لأمه.
ماذا يريد كاتب سيرته الذاتية أن يقول لنا؟
أحداث؟ يوميات؟ وقائع؟ أشياء هامة وأخرى أقل أهمية؟ كشف الأسرار؟
لا أعتقد ان ذلك هو ما ينهش كتاب السير الذاتية من الداخل. فكلنا نتقاسم هذه الأشياء. ولنا جميعا ما يعادل ما لهؤلاء الكتاب…أما السر فهو عماد من أعمدة الحياة وليس هنالك أدنى تحد في اللعب على تحدي الصراحة المطلقة.
ذهاب الأسرار من العالم يؤدي إلى فساد الحياة التام. فهل نطمع في كتب تفسد الحياة؟ قطعا لا.
جان بول سارتر كان يصف السير الذاتية بأنها “كوميديا للكبار فقط”…والكوميديا بالمعنى الذي أراده أولا دانتي أليغييري وثانيا اونوري دي بالزاك… أما كلمة الكبار فبالمعنى الذي يحيل على الحميميات المحرجة التي في أفلام الكبار… والكبار فقط.
هل يمكن أن نعتبر ضرورة استمرار بروتوكولات الأسرار حول الحميميات التي تفصل عالم الطفولة بمباهجه الديمقراطية عن عالم الكبار بلذاذاته الطبقية غير المتاحة للجميع – مع شرط الإيحاء بخرق حاجز السر – نوعا من الكوميديا؟ … الغالب أن ذلك هو فعلا ما يحدث.
ما الذي ننتظره بالذات من هذه الكتب التي يولع بها القراء يا ترى؟
ننتظر وجه نظر خاصة. عينان ثالثة ورابعة تشاركاننا لعبة النظر صوب الأشياء. ننتظر إنسانا كبيرا نال قبول الناس يقول ما يشغلنا، يهدئ من روع ما يريعنا، يهون ما يخيفنا، يزين ما يتعبنا في الحياة…
ننتظر رفيقا حليما رحيما يجعل الأشياء أقل عسرا، يذكرنا بأننا نستطيع ان نضحك من أشياء تربينا على عدها مخيفة أو مقرفة أو محرجة.
السيرة الذاتية ترفع رايتين لا ثالثة لهما: الأولى هي أن “الأشياء السعيدة أكثر بهجة حينما نتقاسمها”، والثانية هي انها “إذا عمت خفت”.
في التأصيل التأريخي، سنجد دوما المطلب الأرسطي (أم أنه أمر صارم؟): “اعرف نفسك”. ربما يكون هذا مؤشرا مناسبا لندرك حدود السيرة الذاتية … وربما يغرينا فيلسوف آخر هو الفرنسي مونتين ، في الواقع ، فنحن نرى فيه مفكراً حريصًا على نقل أفكاره حول تجاربه الشخصية حول المشكلات الدينية والفلسفية والسياسية الرئيسية التي تهمه (وتهمنا)… هو القائل بطريقة رائعة لسياق السيرة الذاتية ” إن كل إنسان يحمل كامل مسؤولية الحالة الإنسانية على عاتقه” ، إذ يتعرف الإنسان l’humain على نفسه ويجد نفسه في أفكار رجل واحد l’homme… فيصبح الفرد دالا على النوع كله.


يمكننا أيضا في المسار التأصيلي أن نقتبس وجهة نظر جان جاك روسو في الاعترافات ، فهو يسعى لتشكيل مشروع “لم يكن له مثال على الإطلاق، ولن تكون لمن يأتي من بعد إمكانية تكراره” ، مشروع البحث عن نفسه مع هذا الشعور السائد بسوء فهمه ، والسعي بالتالي إلى خطابات التبرير (j’écris pour m’expliquer)…مع السند القوي الذي نرى بأنه يفيدنا هنا في سياق السيرة الذاتية الأدبية التي هي دعوة إلى البهجة بالحياة أكثر من كونها عملا شبيها بما حدث لروسو الذي تظهر عليه كل علامات المسيحي المثقل بالذنب الذي يدخل غرفة الاعتراف. فهو يقول “أنا لم أفعل أي شيء يسيء إليك ، ولا استطيع فعل أي شيء يضيف لبنة أخرى إلى هيكل الخير “…
إن التبرير والتلاعب بالحقيقة لأجل تحسين الصورة أو ادعاء الصراحة لأجل تثبيت الباطل مشاريع لا طائل منها… وتبقى الحقيقة الأدبية التي كان أمبيرطو إيكو يلهج بها دوما خير صيغة ممكنة للحقيقة على كوكب الأرض… هو الذي قال ذات يوم سوف نختلف دوما حول التواريخ والوقائع، وحول مبررات الحروب وظروف السلم بين الأمم…ولكننا لن نختلف إلى يوم الدين في حقيقة أن “العميل 007 هو جيمس بوند وليس عميلا آخر”.
شخصيا تروقني طريقة فيصل الأحمر في تدوين سيرته، هي طريقة تذكر باختيار شاتوبريان في مذكراته “من وراء القبر” ، مذكرات وذكريات تصور لنا مشاهد ذاتية مذهلة لسبب واحد هو محاولة “تقديم ما هو جميل إلى العالم فقط”. إنه يستهدف الأجيال القادمة ويحاول إدامة ذكرى رجل وفنان وسياسي استثنائي. وبالتالي ، فإن الدوافع التي تدفع الرجال إلى كتابة سيرتهم الذاتية متعددة ، ولكن الكاتب الفنان يواجه خطر تشويه حقيقة الماضي ، والواقع انه غالبا ما يكون هناك إسقاط لرغبات اللاوعي في طريقة استرجاع الذكريات التي يمكن تغييرها ببساطة بفعل عمل ذاكرة أكثر أو أقل إخلاصًا. عدم وجود الموضوعية والمسافة الزمنية يمنع أحيانا الواقع المكتوب من أن يكون انعكاسًا للأحداث الماضية. وهذا جوهر عمل اللاوعي.
لذلك يجب علينا أن ندرك الصعوبات والقيود المفروضة على السيرة الذاتية في مشروعها لتبرير الذات ، وعرضها أمام الجموع، وبالتالي اللجوء الذي لا غنى للطريقة الروائية من اجل التخفف من واجبات المؤرخين الذين سيشيبون مع مشروع التصحيح الممكن والواجب لأخطاء السير الذاتية.
يبدو لي أن العمل العلمي على السير سيدور في المستقبل حول البحث عن الوضع النظري المنطقي لتفسير وقائع متناثرة أصيبت بالترابط العشوائي والاختلاط المرح والتعود على الخلل كنظام لا مفر منه لما نسميه بطريقة ميتافيزيقية: الحياة.
إذا تأملنا سيرة فيصل الأحمر بهذا المنظور سنعرفها بكل بساطة بأنها تحولات اسم. اسم ولقب وربما كنية تتعرض لسلسلة من التحولات العميقة حتى تنعدم المسافة بين الفرد المتكلم والجماعة التي لا بد منها كوسط ضروري لحصول ذلك التحول…
إلى من نصغي في هذه السيرة؟
المدون العائلي الذي لا مكان له في الجزء المسمى “حكايات المجانين”؟
نكاد هنا نشعر بالمساس بأحد المرتكزات الأساسية لميثاق السيرة الذاتية حسبما يقره “فيليب لوجون” الذي هو شرط التعري التام مع التزام الصدق فيما يخص سرد تفاصيل الذات في إطار ما هو متاح من قبل سيدة المقامات جميعا: الذاكرة… فمن الغريب أن نمر بتعرية الغير بدلا من تعرية الذات…سيقول لنا فلاسفة اللغة هو نظام الاستعارة: تبتعد اللغة عن الحقيقة لتجعلها أكثر جلاء.
هي سيرة فرد بصيغة جماعية، أو هي سيرة حكاية بصوت فردي متفرد. فإذا أردنا التقاط صورة لفيصل الأحمر من هذه السيرة فإن الأسلوب المتفرد الذي يجعل الشاعر داخله هو الجانب الغالب في كاتب متعدد الوجوه يبلي البلاء الحسن في الفلسفة والرواية وفي فن المقالة…الأسلوب الذي قد بتعرف عليه القارئ وسط آلاف الكتاب بسهولة تامة.
وحسنا نفعل لأننا أبناء مرحلة تجعل الحادثة اللغوية والواقعة الأسلوبية أهم ما يحدث في الأدب عموما وفي السير الذاتية أيضا. نحن أبناء مفترق القرنين العشرين والحادي والعشرين لا مهرب لنا من الرؤية التي أبدع في توضيحها كتاب مثل فيتغنشتاين وميشال فوكو والتي مفادها ان حقائقنا وقائع لغوية وحوادث خطابية تخفي دوما تلاعبا (كوميديا) لا بد من الحذر منه. الأول قال باللعب الكلامية، والثاني قال بالاستراتيجيات الخابية الخفية.
من هذه الزاوية يمكننا أن نستمر في استعارة العيون التي سلطها فوكو على مفهوم المؤلف والتي من شأنها إضاءة آثار “المؤلف” Auteur ، وتحديد مواقع تواجده في النص. فقد تساءل فوكو: من هو المؤلف أو ما معنى كلمة مؤلف؟… إذ «يمثل مجيء مقولة المؤلف إلى الوجود لحظة “إضفاء الطابع الفردي” الحاسمة في تاريخ الأفكار، والمعرفة والأدب والفلسفة والعلوم، وحتى في أيامنا هذه، حين نتصور تاريخ مفهوم ما، أو نوع أدبي أو مدرسة فلسفية، تبدو مثل هذه المقولات هشة وثانوية وقطعا متراكمة، وذلك إذا ما قورنت بوحدة المؤلف والعمل، تلك الوحدة الأساسية الصلبة» (من مقالته الشهيرة : من المؤلف؟ 1968)…