الرئيسية / ما بعد الهايكو: قراءة أخرى في تجربة عاشور فني الشعرية

ما بعد الهايكو: قراءة أخرى في تجربة عاشور فني الشعرية

الدكتور السعيد بو طاجين

السعيد بوتاجين
الظاهر أن فني عاشور لا يبرأ من البحث عن الأشكال والكلمات والموضوعات والتعبيرات، وهو داء مبارك يلازمه منذ ثلاثين سنة، ولن أبالغ إن قلت إن ذاته مركز، الذات والمحيط والتفاصيل والمكان وما يختلج في النفس والذاكرة، ولذا تصبح قراءاته مندمجة تماما في النسيج العام وفي شلال المعاني المبتكرة، دون أي ارتباك للبنية والرؤية، ما يجعل هذه المرجعيات، على كثرتها، جزءا طبيعيا من النص، ومن ثم تغييب المنقول بجعله امتدادا طبيعيا للتجربة الخاصة.

وأنا أعيد قراءة ديوان زهرة الدنيا وجدتني أكتشف من جديد مهاراته السردية وحقوله المعجمية وموضوعاته ”الصغيرة” وكيفيات تشكل النص، بتؤدة وبفطنة وبحنكة وشاعرية توقظ الحسّ والمدارك قاطبة.

 

أرى أن عفوية فني عاشور جوهرية في كل قصائده، إنه يصدر عن معايشة وقناعة، وقد أهّله هذا الزاد المقدس، الذي يمتد إلى قريته أمّ الحليّ، إلى إدراك قيمة المنبت والامتداد وما يمكن أن تكونه الأصول والمتغيرات:

/تعلمت أن أحمل رأسي على كتفي/ وأمشي على قدميّ / وأرحل خلف هضابك / وأسبابك اخترقتني / فألفيت نفسي غريبا / أطارد وجهي وراء ضبابك / فضمّي أنامل أمّي على جبهتي / أغرقيني بأية أغنية / شرّديني على أيّ تل / بأثر الحلي / لأمسك ناصيتي بيديّ / وأرى قسماتي وجها لوجه / وأفهم سرّ الكآبة / وأكتب وجهي على جبهتي بأنامل أمّي / ليبرأ مني جنون الكتابة         ./

رأيت، مؤخرا، ”أمّ الحلي” وأنا في رحلة برفقة الشاعر قاصدين مدينة العلمة، على اليمين يقف جبل ”براو” مثل إله إغريقي فقد وجهته وناسه، وتحت الجبل تمتد التلال والدور التي تبحث عن شكلها القديم الذي غيبته الحضارة البدائية وصالونات المدن التي لا خير فيها.

لابدّ أن الشاعر قدم من هذه الأشكال النورانية التي كانت تجيئها لفصول كاملة، الضباب والسنبلة والتلال والكروان والهضاب والحجل والساقية والندى والورد والحقل والبحيرة والشجيرات والجبل والنجمة والقبّرة والعصافير والدنيا، ذلك الأثاث البهي الذي أصبح ذكرى.

في كل القصائد، أو في أغلبها، تتوزع هذه العلامات التي لها وفرة من الحنين إلى التراب، وإلى المعاني القديمة التي ساخت بفعل القراءات الزائفة، أو الفهم الخاطئ للشعر.

لاحظت في طريقنا من العاصمة إلى العلمة أن فني عاشور من ذلك النوع الذي يتقن الحديث عن هوية القصيدة، قولا وممارسة، كما يتحدث عن واقع النص الشعري وأفقه بصفاء نادر. ليس التجديد أو الحداثة، من منظوره، إلاّ عودة مستمرة على الذات، مهما كانت هجرات القصيدة إلى المعارف الأخرى، أو إلى الكتابات المستوردة، ثمة حدود للقصيدة، وهناك الأنا، ما يمكن أن يدخل في التمييز والمفاضلة، أو في تكريس التجربة الشخصية، ولو كانت ”محلية جدا”، بالمفهوم الاستعلائي الرّائج.

قد نعثر في قصائد فني عاشور على ظلال مظفر النواب وبودلير ومحمود درويش والسياب وإيلوار والخرافات والأساطير وبعض الزاد المكثف، بيد أن هناك تناغما كبيرا بينه وبين كتاباته ومحيطه وقريته الهادئة، كما شعره الذي ينقل المأساة كرذاذ الزهر، وكما هذا القلم الذي ورد في ديوان: الربيع الذي جاء قبل الأوان:

/لي مآرب لا تنتهي فيه …/ أرفعه راية / وأحدده غاية / ثم أجعله آية الوطن / وأقوم به / وأهش على الزمن / وأحركه فإذا هو يسعى / ويأتي العجب / وعلى قلمي أن يجدد تلك الشعوب التي هدرت نفسها هكذا / ويلمّ بقايا العرب / وعلى قلمي أن يسدد كل الديون / وأن يسترد الذي ضاع من كل شيء / ويخبر عمن ذهب …/

من الصعب الكشف عن المقابسات والإحالات، لأنها تنصهر في البيت وفي المقطع لتغدو منهما، شيئا ذاتيا وعلامات تقتات من علامات في حلقية منطقية ومثيرة، وفي سيرورة سردية تتسم ببساطةمتناهية، متجاوزة الغث والتصنع والصخب الزائد الذي نعثر عليه أحيانا في نصوص تعتدي على حرمة الشعر، هنا وهناك.

إذا كانت هناك بساطة فلسفية في عالم الفكر، فإنها تتخذ قصائد فني عاشور مأوى لها، وقد يتعذر على النقد، بكل أنواعه، الإمساك بشاعرية هذا المنحى الفلسفي الذي ينبت في الحي والدالية وشجرة النخيل وذرة الرمل، كل الأشياء تنبض في انسجام، وكل الكائنات، وقد يحيلك الشاعر، بشكل ضمني، على السيد طاغور، أو على الفيلسوف الصيني مي-تي، دون أن يصرّح بذلك، أو على أسماء كثيرة..

الأمر ذاته ينسحب على المنحى السياسي، هناك نقد ”لذيذ” في هيئة زاهد، بلا فائض جعجعة، ماعدا تكريس المتخيل، أو دفعه إلى مداه باستثمار كل الممكنات الشعرية:

/ قهوة فاسدة / دسها نادل لا يحب الزبائن / وعلى المائدة / ملك في عباءة خائن / نسيته عروسته مرة واحدة / في المنام / فطلّق كل المدائن ./

سنعثر على هذه المقاطع موزعة في الدواوين الأربعة: زهرة الدنيا، الربيع الذي جاء قبل الأوان، رجل من غبار، وهناك بين غيابين يحدث أن نلتقي.

/كتم القلب أوجاعه زمنا / ثم أجهش في حيدره / المباني عالية / والأماني منكسرة / والملاعب واسعة / وأنا …/خلسة أتزوج في المقبرة ./

قصائد فني عاشور حكايات قصيرة قوامها السرد والاقتصاد، ويجب التأكيد على اللفظ الأخير لمعرفة جوهر كتابية، الإيجاز الذي يفيد الإعجاز، دون الإخلال بالشفرات المزدوجة وبالمعاني التي تمتلئ تدريجيا، كما في القصص القصيرة جدا. ولئن اقتصد فلغاية جمالية ودلالية تستنبط من القراءة السياقية، ومن التوليف بين النصوص مجتمعة.

ولعل هذا الإيجاز هو الذي قاده إلى الهايكو، كمغامرة أخرى كان يجب أن يصل إليها في يوم ما بالنظر إلى طبيعة نصوصه الأخيرة، باستثناء بعض ما ورد في زهرة الدنيا.

العبور إلى الهايكو

ذاك ما كان متوقعا تماما: إيجاز الإيجاز، وقد وضع الشاعر مقدمة راقية لديوان هناك بين غيابين يحدث أن نلتقي، ويمكن اعتبار هذه المقدمة قراءة نقدية نبيهة للحداثة العربية برمتها، وهي في الوقت ذاته، تنبيه إلى جذور الحداثة وفلسفتها وتشكلاتها.

”إن تلك الأفكار الشائعة في لغة النقاد والشعراء حول ”التجربة” ودورها في الكتابة الشعرية وعن اقتصاد اللغة الشعرية، وعن الحد الأدنى من اللغة في القصيدة، وعن قوة الهشاشة ولغة انكسار الوجود وعن آنية الحضور، وتجليات الأبدي في ما هو آني عابر، تلك الأفكار المتداولة إنما تمثل مبادئ أولية في كتابة أقصر قصيدة مكتملة في آداب العالم: قصيدة الهايكو”.

لقد عاد الشاعر الياباني إلى المصدر الشرقي للحداثة الغربية، وإلى أستاذ التصويرية، الشاعر الياباني شيكي ماساؤوكا، تلميذ الأستاذ الأكبر باشو ماتسيو، مستفيدا أحيانا من إزرا بوند وبول إيلوار.. وغيرهما.

إن تغيير المرجع هو شكل من أشكال تأثيث الرؤية بمنابع جديدة ومختلفة عن الموروث، سواء كان عربيا أو غربيا. أما تجربة الهايكو، فتتمثل في إعادة الاعتبار للذات في علاقتها بالأزلي، باللحظة والطبيعة والمجرّد والملموس، بعيدا عن التكلّف اللغوي والوصف الفضفاض:

/ ومغمض العينين / سأصل إلى جهة ما / والضياء في القلب ./

تلك هي قصيدة الهايكو، سبعة عشر مقطعا وثلاثة أسطر وتكثيف لا منتاه، أما الفكرة فمكتملة، منتهية رغم ما يسميها من إيجاز ومحو للقافية وكثير من القواعد الشعرية، وقد تتعارض وذائقة القارئ لأنها مختلفة تماما عن الجماليات المتواترة.

هل كانت هذه المحطة ضرورية؟ أتصوّر أن قصائد فني عاشور كانت تتجاور مع الهايكو في كثير من تقنياتها، وفي رؤاها كذلك، ثم في الجانب الفلسفي الذي اتكأت عليه، دون إغفال قضايا اللغة والصورة والوصف والذات، أما في الديوان الأخير فقد انتقل إلى الهايكو، كما جاء في الكتابات اليابانية. ما يستدعي تناول الكتاب في دراسات مستقلة، لأنه تقاطع مع إرث شعري آخر، وبتميز.

المؤكد أننا أمام كتابة أعادت النظر في التمثلات والصيغ، وفي القصيدة الشعرية برمّتها، لكان الشاعر أراد تحيين قوله القديم: / كان لابد لي أن أكون / شبحا في مكان قصي / لا تراني العيون / وأرى كل شيء / وأنزل ما كان أو سيكون / في كتاب نبيّ / أفتح القلب كي يقرأ الآخرون / وتنقلب الصفحات عليّ ./ ثم.. ألا تجعلنا هذه اللآلئ نقف إلى جانب تودوروف في قوله: نحن متخصصين ونقادا، وأساتذة، لسنا، في أغلب الأحيان: سوى أقزام تعتلي أكتاف العمالقة.

سيظل فني عاشور موهبة حقيقية لها حضورها اللافت، إنه يكتب بالورد والروح والعلامات التي لا نعرف كيف نتعامل معها بليونة، وبصدق، وهنا تكمن عبقريته الغريبة. مع التأكيد في خاتمة هذه الملاحظات أني مررت قرب القصائد دون أن أبصرها جيدا، لأن ذلك يتطلب عدة آليات وآلاف العيون التي يجب أن تزهر مع كل نص.

السعيد بوطاجين

لقراءة المقال من المصدر

http://www.djazairnews.info/trace/37-trace/41508-2012-07-16-16-57-22.html