الرئيسية / اكاديميا / ماذا تعني الدولة المدنية؟

ماذا تعني الدولة المدنية؟

عمر أزراج

 

 

في الأيام القليلة الماضية، دعا عددٌ من الكتاب والإعلاميين الجزائريين، في مقالاتهم المنشورة على صفحات الجرائد اليومية، إلى أهمية بناء ركائز الدولة المدنية في بلادنا وذلك لتعزيز الحريات، وحقوق الإنسان، والتداول على الحكم سلميا ضمن الإطار الديمقراطي طبعا.

وبهذا الخصوص، فإنه ينبغي علينا منذ البداية القيام بتحديد مدلول “الدولة المدنية” حتى تتضح لنا الرؤية، ولكي نميز هذا النمط من الدولة عن الدولة المركزية الشمولية التعسفية، سواء كانت بقيادة الحزب الواحد والإيديولوجية الواحدة، أو بقيادة طبقة مسيطرة على الرأسمال المادي والثقافي والسياسي في آن معاً، ولكي نميزها أيضا عن الدولة التي تتحكم فيها “العصبية” المؤسسة على القرابة، أو الجهوية، أو الإثنية الضيقة، أو على الولاء، والتي أطنب عبد الرحمن بن خلدون في شرح بنيتها وهويتها وسلوكها. 

وفي الحقيقة، فإن بعض المفكرين، وأغلبهم من الضفة الأخرى للمتوسط، وذلك في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بشكل خاص، يعتبرون أن وضع أسس الدولة المدنية مشروطٌ تاريخيا بتشييد “الوطنية المدنية” التي  تعرّف غالبا بأنها نمط من النزعة الوطنية التي لا توجد فيها “الكراهية للأجانب” وأنها تلك التي “تحترم قيم الحرية، والتسامح، والمساواة، والحقوق الفردية”. من أجل بلورة مفهوم “الوطنية المدنية” فقد رأى بعض من هؤلاء المفكرين أن طبيعة هذه الوطنية المدنية يحددها مبدئيا دفاعها عن “قيم الهوية الوطنية” التي يحتاج إليها الأفراد “لكي يعيشوا حياة مستقلة ذات معنى”.

ويعني هذا، أن هؤلاء المفكرين لا يفصلون أبدا بين الهوية المدنية للدولة وبين الوطنية المدنية “حيث أنه في ظل هذا النوع من الدولة لا يُصنّف ويُعامل الأفراد كمجرد أشخاص، بل إنهم يُرسّمون قانونيا كمواطنين” وبذلك تكون هذه الدولة هي دولة المواطنين والمواطنات بغض النظر عن النسب العرقي، والاثني، والطبقي وهلم جرا. وأكثر من ذلك فإنه في ظل كل هذا، تكتسب الدولة شرعيتها من مشاركة مواطنيها ومواطناتها في انتخاب واختيار ممثليهم في جميع المؤسسات الحيوية التي تصنع القانون وتطبقه، وتمارس فيها قيادة النشاط السياسي والاجتماعي والثقافي والتربوي دون أن يعني ذلك إقصاء المواطنين من المشاركة الفاعلة في كل تجسيد هذه العمليات ونتائجها، والتعبير الحر عن الرأي وممارسة النقد كوسيلة للرقابة البناءة ،لأن وجود أي إقصاء لهم يعني مباشرة انتفاء الوطنية المدنية والدولة المدنية وإلغاء  الشرعية السياسية.

وفي الحقيقة، فإن هذا المفهوم الليبرالي للدولة المدنية يفرز عدة تناقضات سواء على صعيد النظرية أو على صعيد الممارسة، وفي مقدمتها أن المجتمعات الرأسمالية المتطورة في أوروبا والغرب عموما نجد فيها مشكلة كبيرة تعرقل تحقق الدولة المدنية الديمقراطية، وتتمثل هذه المشكلة في الخرق الذي يمارسه نسقُ المجتمع الطبقي لأركان ما يدعى بالدولة المدنية، مثل مبدأ المساواة الذي يلغى وجوده داخل النظام الطبقي الذي يقسم المواطنين إلى طبقات: سيدة غنية تستحوذ على وسائل الإنتاج والرأسمال وعلى علاقات الإنتاج وبالتالي على الهيمنة أو السيطرة السياسية، وإلى طبقات متوسطة، وعمالية، وما دون الطبقة العمالية الأكثر فقرا وهامشية فضلا عن شرائح الملوّنين والمهاجرين شبه المنبوذين اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.

من هنا ندرك أن مفهوم الدولة المدنية يدل على خصائص مثل مجموع المؤسسات المدعوة عموما بالمؤسسات الخاصة، مثل وسائل الإعلام التابعة للقطاع الخاص، والنقابات والجمعيات التطوعية، والأحزاب عندما لا تكون في السلطة التنفيذية أي في الحكومة، والمؤسسات الدينية غير التابعة للحكومة منها.

 إذا كانت الليبرالية، في طبعتها الغربية، لم توفر حتى يومنا هذا أركان وشروط التحرر الحقيقي المتمثل في تطبيق المساواة الاقتصادية التي تتزامن معها، أو تنتج عنها الفوارق الثقافية والنفسية والتراتبية الاجتماعية، وتنتج عنها التراتبية السياسية والحكم النخبوي، فما هو النهج المختلف الذي سيثري الشخصية التاريخية القاعدية بكل أبعادها النفسية، والبنية العاطفية والذهنية للشعب الجزائري، والذي سيمكّننا من بناء الإنسان المدني الذي هو صانع مشروع الدولة المدنية ذات الهوية المدنية والوطنية المدنية؟ ثم هل من الممكن تأسيس هذا النمط من الدولة بدون تأسيس المجتمع المدني أولاً؟ وما هو المجتمع المدني تحديدا؟                                                          

من بين أطرف ما قرأت هو ما أتذكره كما ورد في ملاحظة الراحل مصطفى الأشرف التي برزت في كتابه: “الجزائر: أمة ومجتمع” والتي سجل فيها أن الخطأ الذي وقعت فيه الجزائر بعد الاستقلال مباشرة هو منح الأسبقية لطور الدولة على حساب طور المجتمع المدني. لاشك أن الأشرف لم يطور أي مناقشة حول هذا الموضوع الذي تركه معلقا، حيث لم يقل لنا كيف يُبنى طور المجتمع؟ وما هي هويته؟ كما أنه لم يحدّثنا عن الفرق بين مفهوم الحكومة ومفهوم الدولة. إنه جراء هذا نجده يخلط بين مفهوم الدولة وبين مفهوم الحكومة أو النظام الحاكم، علما أن الحكومة يمكن أن تحتوي المجتمع المدني ولكنها لا تتضمنه ككيان له استقلاليته وفرادته وفعاليته الخاصة به، أما الدولة فتتضمن، حتما، المجتمع المدني الذي لا يمكن تصور وجودها بدونه وبدون العناصر الأخرى المشكِّلة لها مثل السكان وهويتهم الثقافية والتاريخية، والجغرافيا المحدِّدة للبلاد، والسيادة الوطنية والتراث الروحي والتاريخي والثقافي، والمشروع الوطني المستقبلي الواضح والمحدد المعالم، وكذلك التخلص من كافة أشكال التبعية القسرية للخارج الخ. 

من هنا ندرك أن مفهوم الدولة المدنية يدل على خصائص مثل مجموع المؤسسات المدعوة عموما بالمؤسسات الخاصة، مثل وسائل الإعلام التابعة للقطاع الخاص، والنقابات والجمعيات التطوعية، والأحزاب عندما لا تكون في السلطة التنفيذية أي في الحكومة، والمؤسسات الدينية غير التابعة للحكومة منها. أما المؤسسات والأجهزة التابعة للحكومة أو للنظام الحاكم مثل جهاز القضاء، والمؤسسات القمعية مثل الشرطة والقوات العسكرية، فهي ليست مدنية ولا تنتمي لماهية المجتمع المدني إلا إذا كانت وظيفتها مكرسة فقط لخدمة ما هو مدني.

لاشك  أنّ الدولة الحديثة والمعاصرة، في أي من بلدان العالم، لها بوليسها وجيشها وجهازها القضائي وسجونها، ولكن مدنيتها تقاس بقدر وظيفتها غير القمعية. على أساس ما تقدّم من رؤوس أقلام فإن المرء يجد نفسه أمام السؤال التالي وهو: هل بنية الدولة الجزائرية بنية مدنية؟ أم أنها “موزاييك” ليس له بنية وهوية محددتان، وأنّ الغالب عليه هو النزعة التوفيقية التي تجمع بين المتناقضات التي لا تصنع التركيبة المنسجمة؟ 

رابط المقال