الرئيسية / الرئيسية / ليس الامر صعبا

ليس الامر صعبا

نسيبة عطاء الله

 

 

 

 

 

الآن بعد أن استنفرتُ كلّ وسائلي واستنزفتُ كلّ لغتي، صار من الشّرف أن أصمت. كان بإمكاني أن أقول الكثير، وأكتب المزيد وأصرخ جدّا وأطرق بشدّة لكن لم يعد للكلمات ذاك المجد في أن تعيد معشوقا، ولم يعد الصّبر يحملُ نهاية الانتصار في أن تنال أخيرا.. ولم يعد الألم من عِرق اللّذة، ولم تعد اللّغة مركب نجاة ولا الليل قطار رسائل. الصورة خلف نافذتي جعلتني أشعر بأنّي أعيش داخل إطار، والإطار كذبة نصنعها لنصدّق أملنا في أن تمشي أكثر لقطة بقينا عالقين عندها، إلينا، لكنّنا نشيخ في داخل الكذبة، بينما تظّل هي يافعة، وحده الكون في الخارج يبقى مستمرا بثبات.
هذا ليس خِطاب يأس، ليس خطاب استسلام، ليس استقالة ولا نهاية. لكن ألقيتُ يدي فجأةً على الجُزءِ المهجورِ من الغرفةِ، فالتقطتني العناكب. اكتشفت أن الحياة تطال حتّى الأشياء التي نخفيها بعيدا عنها. ما يضرّني لو تركتها تمتدّ إليّ؟ لماذا كنتُ دوما خائفة من ذلك؟ أ لأنّكَ الموتُ في الحكاية؟ أم لأنّكَ الحكايةُ ذاتُها؟..
ما أعرفه أنّه خلف كل حبّ لم نرد له أن يستمر كذبةٌ ما. المدهش أنّ الحب هو الكذبة نفسها. والموجع أن أكتبكَ بعينيكَ أملا في أنّك تقرأ وتمرّ بدل الإعجاب بقُبلة أو ابتسامة، أو تنهيدة، لكن هذا ما يحدث في حسن ظنّي فقط.
عمري، عمري يهربُ منيّ.. يتسرّب من بين الوقت ويفرّ إلى الذّكريات المظلمة ليُضاء!..بينما عمرُكَ يسدّ ثقوب كلّ اللواتي يفتحن صدعا على الفراغِ ليسرقن طريقك.. وأسامحك كأنّ الله لم يخلق هذا القلب إلّا ليجُسّ خطواتِك. لقد تضخمّت حواسي، صارت اسلحة فتّاكة، صرتُ أسمعُ حتّى هسيس الآلهة وأنا أُنعِمُ في الرّيحِ التّي عبرت رئتيكَ وانتشرت في العالم، صرت أرى أقوى من زرقاء اليمامة وأنا أفتّشُها ذرّة ذرّة بحثا عن صورةٍ تجمعنا معا مرّت في خاطرك وأنتَ تزفُر الهواء منهما، صرتُ أشمُّ حتّى الخلايا الميتّة من التجمُّد في القطب الشّمالي بينما أحاول استنشاقك من تلك السّماء، تلك السّماء التي فوقي وفوقك، اراها وتراها، لكن لا نلتقي كأنّ أوّلها أنا وآخرها أنت. ومن المرارة أسأل: ألن تقوم القيامة بعد؟
لا أفهمُ نفسي حين أسيح بهذا العُنف، بهذا الغضب وأتمنّى لو أنّ البياض أرضٌ مليئة بالأشجار لأقتلعها، لو أنّ في طريق حروفي أشياء جميلة لأحطّمها فليس عدلا أن أتحطّم وحدي، وأكتب وحدي، ويقرأ الآخرون ما أكتبه لك أنت وحدك؟!
ليس عدلا ألّا أتوّقف عن الكتابة بهذا الانفجار بينما لا تستطيع أن تكتب لأجلي كلمة واحدة تعيد المياه إلى عروقي التي صارت مأوى الرّمال والحجارة.
أريد أن أعود إلى الحياة الكئيبة قبلك، تلك الحياة العاقر من أدنى وردة، لا أريد حدائق الموتِ التي رسّختها بي كالجبال ثم اختفيت كطائرة ورقيّة، لم أخبرك أنّي أحب أللعب لتملأ عالمي بالمراجيح ثم تفرّ كقارب، لم أخبرك أنّي أكره الماء لتنساب فيه بمفردك، هل كان سيغرق لو أخذتني معك؟ لم تخبرني أيضا أنّك ستبحر إلى العدم.. أنا كم أحبّ العدم!
أريد ألّا أكتب بعد الآن، لأنّي اشتقتُ إليكَ بشكل سيجعلني أنحني، أترنّح، أتهاوى وأزحف وهذا مهين جدّا أمام ألعابي التي تبقى دوما شامخة حتى حين أتعمّد إسقاطها لتُشبهني، أنا لم أعد قادرة على أن أحبّك وأنتظرك وأكون كاتبة في الوقت ذاته؟! ولم أعد أقدر على أن أنقض عهودي مع نفسي، على المزيد من التناقضات، على المزيد من اللّا أنا والمزيد من الأسئلة والمزيد من الأغاني الحزينة، والمزيد من خفقات قلبي الضّعيفة وأنفاسي المسلولة. إذا كان ثمّة طريقة لأصبح جبلا وأتحمّل بقائي فوق الأرض فهي أن تأتي وتجمَعني.
ليس الأمرُ صعبا فُكَّ الحظر عنيّ فقط!
.