الرئيسية / الرئيسية / قصة قصيدة: بختة المرأة التي كانت تسابق القصيدة إلى شاعرها

قصة قصيدة: بختة المرأة التي كانت تسابق القصيدة إلى شاعرها

عاشور فني

عبد القادر الخالدي شاعر كبير عرف بقصائده الكثيرة التي تغنى بها الفنانون في مواضع الحب والعواطف ولكن أيضا في مواضيع الحياة الاخرى. اكتسب شهرة وخبرة وبرع في الغزل وشارك في إحياء الحفلات والأعراس وذاع صيته في ربوع الوطن. وفي 1945 أحيى حفلا كبيرا بمدينة تيارت وهناك رأته بختة وتعلقت به. كان في أوج شهرته وعنفوانه وكانت في عز شبابها وجمالها. وقعت بينهما اتصالات واتفقا على اللقاء لكن لم تتم الأمور كما كانا يتوقعان.

======

سافر الشاعر إلى أشغاله وبقيت الجميلة في المدينة مدة وانهمك هو في أشغاله لكنه كان كلما خلا إلى نفسه ليكتب قصيدة وجد بختة أول ما يتبادر إلى ذهنه. طال الزمن وحاول نسيانها بشتى الوسائل ولكن بلا فائدة:

جيت نشرب باش ننساك م العذاب

صبت الحب راه مذوب في الشراب

جيت نقرا باش نبرا م الغرام

صبت اسمك عنوان الكتاب

واللي ينسى الغرام كذاب

بعد مدة كان يجلس في مقهى معروف يرتاده الفنانون والشيوخ وشرع في كتابة قصيدة جديدة عن بختة. وصفها بانها ذات عنق طويل كعنق الغزالة الشاردة. حسنها تجاوز حسن جميع الغيد أي طويلات العنق. ثم وصف الغزالة: شاردة بين الوهاد يطاردها الصيادون ويحاصرونها من كل ناحية. لكنها غزالة تعلمت فنون التملص ولا تنتظر حتى تقع في الفخ. استعارة الصياد والغزالة تتكرر دائما في الشعر العربي وفي الشعر الملحون:

بختة عنق العرّاض * زينها ما كسبوه غياد

مطرودة في لوهاد * ضيقوا بيها حيحاية

ما ترجاش الصياد * قارية علم الحكوية

ثم انتقل إلى الحلم متمنيا لقاء بختة. وصف يوم اللقاء بانه يوم سعادته وانه يلتقي بالشعاع الملتهب وان بختة نور عينيه اللتين يرى بهما وانها تتملكه كالجنية وفوق ذلك يحب ان تناديه (ياخويا):

ذاك اليوم سعادي * لقيت فيه شعاع القادي

بختة نور ثمادي * المالكتني كالجنية

يرغبها مرادي * منين تلغي يا خويا

كان مندمجا في القصيدة بكل جوارحه غائبا عمن يحيط به من الناس. لم يعد يدري إن كان في مكان عام أم في في بيته. في أية مدينة هو الآن؟ معسكر أم وهران ؟ هل هذا مقهى أم عرس؟ منذ ان بدا يكتب عن حبه أصبحت القصيدة هي بيته الحقيقي. هي داخله العميق الذي يراه الناس مكتوبا على الورق ومسموعا في الأعراس. كل شطر من القصيدة يضاف إلى شطر فيكون البيت. الشعر حقا بيت الشاعر العاشق.

فجأة رأى سائق الكاليش الذي تعود على نقله وعلى وجهه علامات البشر والسرور.  أخبره السائق أن بختة نزلت في محطة القطار وهي الآن بالكاليش تنتظره. لم يتوقف عن الكتابة لكنه تخيل ما يمكن أن يجري. الاستعارة تواصل الاشتغال في ذهنه والواقع يتحرك امامه. القصيدة تنتقل من النص إلى الحياة الفعلية. هكذا تصبح الحياة شعرا والشعر حياة.

====

بختة بعد أن سافر الشاعر بقيت مدة تنتظر إشارة منه لكن طال انتظارها. لم تتحمل البعد لكن عزة نفسها كانت تمنعها من أن تبدي إشارة من جهتها. في أثناء ذلك علمت بان الشاعر يتنقل بين معسكر ووهران وبعض مدن الجزائر لإقامة حفلات. تغنى ببعض الأغاني تتضمن اسمها. وصلتها مقاطع رائعة يتناقلها الناس في الأعراس. لم يكن أحد يدري من تكون بختة التي يتغنى بها الشاعر. هذا سررها وحدها. سر تحمله وتعيشه حياة عميقة لكنها تتحمل تبعاته. من يدري بها؟ من يدرك ما يعتمل في نفسها؟ وحتى الذين نقلوا إليها الشعر لم يكونوا يدرون أن لها علاقة بالأمر. كان الشعر سببا كافيا لأن تغفر له كل شيء وأن تشعر بامتنان كبير وتدرك صدقه وتعذر انشغاله. من كان يحمل مثل قلبه يجوز له كل شيء.هل تراها في مستوى القصيدة وفي مستوى الشعر الذي كانت هي سببا فيه.كان حبها اختيارا. فهل ترك لها الشعر خيارا؟

قررت الرحيل إلى شاعرها. في وهران أو في معسكر. هناك قطار يتنقل بين مدن الغرب الجزائري وينزل حتى تيارت. هيأت نفسها وتزينت وذهبت إلى محطة القطار. لم يطل سفرها كثيرا فقد انشغلت بهواجسها عما يجري أمامها. لم تكن المرة الأولى التي تسافر فيها بالقطار لكن لهذه السفرة طعم خاص. وصلت إلى المحطة وفي الحين تعرف عليها سائق الكاليش الذي كان حملها مرة من قبل. سألته عن الشاعر الخالدي فلم يتردد لحظة فهو السائق المتمرس بالمدينة وأحيائها وشخصياتها وعناوينهم. أخبرها أنه مقيم بالعنوان الفلاني ويجلس في المقهى الفلاني واستغرق في التفاصيل. اختصرت عليه الموضوع. طلبت منه أن يوصلها إليه ويخبره بحضورها. كان كلامها حازما. لم يعد هو قائد الكاليش بل كانت بختة هي التي تقرر. واصل السائق في صمت. في شارع واسع توقف الكاليش ونزل السائق وبقيت هي في الكاليش. في هذه اللحظة نزلت الجميلة على قلب الشاعر مع قصيدته :

جاني راجل بشار * صابته بختة في لاقار

رسلته جاء للدّار * عاد لي لخبار خفية

اهلكني يا لنظار * بعد كان مهدن مايا

انتقل الشاعر مع السائق الذي تركهما معا. يصف الشعر المشهد بكل أمانة:

نجبرها في الكليش * راكبة كي امير الجيش

رقبتها بالطرنيش * راصية و الوجه مرآيا

منها وليت دليش * ما بقات زعامة فيا

فاجأه الموقف واضطرب عليه الأمر. لم يتعود على مثل هذا الموقف: جمالها وزينتها من جهة شجاعتها بل جرأتها واستعدادها. كانت تمارس حقها وتريد نصيبها من الجمال الذي ألهمته إياه.لم تعد مجرد ملهمة ولا موضوعا للقصائد. إنها هي القصيدة.

وبعد أن ذهب السائق غيرت بختة معطيات الموقف نهائيا. مدت له يدها اليمنى في إشارة واضحة للثقة التي تكنها له. بعدها سارا معا في الشارع أمام جموع الناس. كانت المدينة تتخذ شكلا جديدا تماما. بختة غيرت قصائده وأشعاره. والآن الحياة نفسها تتغير بحضور بختة نفسها في حياته. تصف القصيدة بعد ذلك مجريات اللقاء وكيف قضيا مدة من الوقت في بهجة وسرور يليقان بمعسكري وقبلية كما يقول الخالدي في القصيدة. القصيدة تتولى توجيه دفة الحياة وتقود الشاعر والجميلة في مسالك الإبداع والجمال.

كتب بعدها عبد القادر الخالدي قصائد كثيرة في بختة وغناها كثير من الفنانين في الجزائر. لكن لطولها يكتفون منها ببضعة أبيات. وقد أثبتنا هنا القصيدة كاملة. وفي التعليق الأول رابط لأغنية بلاوي الهواري الذي أداها بشكل سليم لغويا. لكنها شاعت أكثر مع أداء خالد.

قراءة ممتعة
 
قصيدة بختة للشاعر عبد القادر الخالدي كاملة
 
يامعظم يومًا جات * منيتي صابغة النجلات
بختة زينة لـــنعات * و الوجاب الهوارية
فاتت نجمة لوقات * في الطبع ذا المازوزية
 
بختة عنق العرّاض * زينها ما كسبوه غياد
مطرودة في لوهاد * ضيقوا بيها حيحاية
ما ترجاش الصياد * قارية علم الحكوية
 
بختة عارم لحداب * دايرة كي جازية ذياب
تسلب كحلة لهذاب * بالسمايم و العقلية
مقواني يالحباب * نتمحن و الحق معايا
 
ذاك اليوم سعادي * لقيت فيه شعاع القادي
بختة نور ثمادي * المالكتني كالجنية
يرغبها مرادي * منين تلغي يا خويا
 
يرغبها مرادي * منين تلغى لي يا سيدي
دبلة قلبي وحدي * و كيتي من بختة كية
حسنوا عون الخالدي * يا اللي شفتوا في الدنيا
 
جاني راجل بشار * صابته بختة في لاقار
رسلته جاء للدّار * عاد لي لخبار خفية
اهلكني يا لنظار * بعد كان مهمدن مايا
 
جاني في نص النهار * صابني مهموم و مضرار
من المحنة و التفكار * ضايقة لوطان عليا
شارب من الشوق مرار * خاطري عند اللي بيا
 
حين سمعت خبرها * طاش عقلي و مشى ليها
من تشواقي فيها * فرحت كاللي صبت سعاية
سرقتني محنتها * زيلفطت قلبي و حجاية
 
نجبرها في الكليش * راكبة كي امير الجيش
رقبتها بالطرنيش * راصية و الوجه مرآيا
منها و ليت دليش * ما بقات زعامة فيا
 
صادتني كا البهتة * منين شفت غزالي بختة
تضوي كالياقوتة * مخالفة شهرة زوخية
قطعت في النهتية * منين مدت لي اليمنية
 
اتسالمنا بالشوق * والمحبة قدام السوق
سلام طويل حموق * ما عبينا بالدونية
المعشوقة و المعشوق * من يلوموهم عكلية
 
هوّدنا للنّـوتير * ما سمع بنا حدّ الغير
انا و ضيّ المنير * دارقين على الفرّاية
في ساعة ساعة خير * و فيت مرغوبي و منايا
 
ظلينا كان و صار * و المحبة تجلب لسرار
الهدرة بالتعزار * و القلوب بلا غشية
و انا كيفاش ندير * معسكري و أنت قبلية
 
قالت نور عياني * شعاع نور البدر السّاني
راني يا محّاني * على يدك تصرف فيا
انتايا سلطاني * و خادمك بختة جارية
 
سبع وقات سهارى * بلا شراب مدام سكارى
ما مليت النظرة * و لا حديث المعناوي
تسرقني بالخزرة * منين يلقوها عينيا
 
مزين سهرات الليل * و القصبة و الخودات تميل
و مطافل في التاويل * حافظين شروط الجرية
ذي خلة ذاك خليل * ذا نمر ذاك لبنية
 
مزين حل التفسير * و الحزام و تفقاد الديّر
مزين حكّ الشّبير * فوق سرتيّة جراية
شهبة و الجلد حرير * تنقلب كالروحانية
 
زهو الدّنيا لبنات * و الخمر و زريع الطاسات
و مخالية القصبات * بينهم طفلة شرهية
كي بختة من خلاّت * خاطري في ضيق عشية
 
معظم يوم الفرقة * هداتني بختة في ضيقة
الهم بلا شفقة * حازني من كلّ ثنية
حرقت قلبي حرقة * منين ركبت في الطوّاية
 
كي بقتني بالخير * ناض في قلبي هز غزير
و هداتني مثل البصير * محيّر باقي في وطية
راهي في ذاك الدّير * بين قبلة و التّلية
 
ما طابت لي همدة * جوارحي شاشو للصدة
شوار المنقودة * تاج من ينوفو بالعنفية
نشوف المقدودة * ظريفة الساق الهمّية
 
نغدى أنا و السامعين * غايتي عز المظلومين
سجّرته راس العين * ولد قاسوم الحشمية
جعله ربي للمومنين * رحمة للبلدية
 
الاّ و لت للفتان * يهجم كالصيّد الحقدان
ما يرضى بالفديان * عوض في طوع اللي بيا
و يلاّ ولت للشحان * ما تكوده حتى حية
 
نغدو شور الخولة * بختة عين واد قزولة
دبلة قلبي دبلة * و خوضت مايا و هوايا
نباتو في هالة * مهرسين افام العديا
ولد في إحدى القرى بمعسكر في 20 أبريل 1896م تعلم في بلدته ونال الشهادة الابتدائية لكنه لم يسمح له بمواصلة  الدراسة في المدارس الاستعمارية فاتجه الى الجامع وحفظ القرآن الكريم وأصول الفقه ثم اطلع على الشعر العربي والشعر الملحون وحضر مجالس الشعراء ثم جرى تجنيده  فسافر إلى الجزائر العاصمة وأقام بالحراش مدة وتعرف على بعض الفنانين الكبار واشتخل في نظام الشرطة مدة من الزمان وبعد بعض الملابسات غادر الخدمة النظامية وعاد إلى وهران حيث أقام هناك عند بعض  الوقت واكتسب شهرة وخبرة وبرع في الغزل وشارك في إحياء الحفلات والعراس وذاع صيته في ربوع الوطن.