الرئيسية / قراءات ثلاث في الوضع السياسي على ضوء الانتخابات التشريعية

قراءات ثلاث في الوضع السياسي على ضوء الانتخابات التشريعية

4 جوان 2012

اختلفت قراءات الجزائريين لنتائج الانتخابات التشريعية في الجزائر وبناء على تلك القراءات المختلفة تباينت المواقف أكثر بخصوص مصير الوضع السياسي في الجزائر. ويمكن أن نجمل هذه القراءات في القراءة العقلانية والتفسير المؤسساتي ونظرية المؤامرة.

القراءة العقلانية: استئناف مسار الإصلاحات هو الحل
تنطلق القراءة العقلانية من فرضية أساسية وهي أن الواقع السياسي الجزائري عقلاني تماما ولفهمه ينبغي أن نتحلى بالعقلانية التامة ونتجرد من مواقفنا المسبقة ورغباتنا الشخصية وأوهامنا ونعتمد على أدوات علمية في التحليل والمحاكمة المنطقية للأحداث اعتمادا على أدوات منهجية صارمة. تبدأ القراءة بتشخيص الوضع وإدراجه في السياق العام لتطور الجزائر المعاصرة ثم تحديد القوى الفاعلة في الوقت الراهن وتحليل الأعراض الظاهرة لإدراك العوامل الخفية الفاعلة.
حسب هذه القراءة تكون التشريعيات مرحلة مهمة في مسار الإصلاحات التي بادر بها الرئيس منذ سنة وتوفرت لها شروط جيدة قياسا إلى الانتخابات السابقة. والمشكلة لا تتعلق بالمسار الانتخابي نفسه الذي زكاه الملاحظون الدوليون والهيئات الوطنية في الداخل بل تتعلق بمسار الإصلاحات الذي يترتب على نتيجة هذه الانتخابات :استئناف مسار الإصلاح أو التخلي عنها.
ذلك أن نتيجة الانتخابات لم تعد تتلاءم مع استئناف مسار الإصلاحات. فنسبة الامتناع العالية وفوز حزب أو حزبين بالأغلبية في البرلمان أصبح يمثل كارثة على مصير الإصلاحات السياسية التي كان ينبغي أن يضطلع بها البرلمان نفسه حيث كان بعض الشركاء يطمع في أن يتولى المهمة التأسيسية ويصدر دستورا جديدا قد يصل الأمر فيه إلى تغيير النظام نفسه بوسائل دستورية. لكن مصداقية البرلمان أصبحت في الميزان بسبب عدم توازن تمثيل القوى السياسية في البرلمان فضلا عن نسبة الامتناع عن التصويت. يترتب عن ذلك أن استئناف الإصلاح يتطلب عودة الرئيس إلى المبادرة من باب آخر باقتراح لجنة تشرف على إعداد الدستور من خارج الأغلبية البرلمانية وبعد استيافء العمل المطلوب يتم عرض المشروع على الاستفتاء ثم يعاد انتخاب كل الهيئات المترتبة على الدستور الجديد ويكون ذلك قبل انتهاء العهدة الرئاسية الحالية. ويترتب عن ذلك أيضا تشكيل حكومة من خارج الأغلبية البرلمانية تشرف على الانتخابات المحلية وتحضر للاستفتاء على الدستور. قد تكون حكومة كفاءات لا حكومة ائتلاف أو تحالفات لتفادي تسييس العملية أو تحريفها عن مسارها الصحيح. وقد تبنت بعض الهيئات الرسمية مواقف قريبة من هذا الطرح.
يتميز هذا الطرح بتفاؤله وبساطته التي تكاد تصل إلى حد السذاجة ومع ذلك فواقع الحال لا يكذبه: كل الأعراض الظاهرة تؤيد هذا. لكن كيف نفسر أن تتعارض نتيجة الانتخابات مع مسار الإصلاح الذي وجدت من أجله؟ هل حدث خلل ما في العملية أم أن ذلك كان مدبرا؟ تقف العقلانية عند وصف المنطق الداخلي لنتائج العملية ولا يمكنها أن تقدم تفسيرا للعوامل الخارجية المؤثرة في العوامل الانتخابية: مثل تأثير دعوة الداعين إلى المقاطعة أو تأثير نداء الرئيس للمشاركة المكثفة في الانتخابات فكلاهما ساهم في حدوث النتيجة الحالية. فذلك أمر عادي في الوضع الديمقراطي. وهذا كاف لقبول تلك النتائج قاعدة لاستئناف مسار الإصلاح السياسي الذي وجدت من اجله حتى لا يقع خلل ما قد يؤدي إلى أن تفلت الأمور عن التحكم. فاستئناف مسار الإصلاح ضروري من اجل استمرار منطق السير العقلاني للأمور أما الخروج عن مسار الإصلاحات أو تعطيله فهو استدعاء للعوامل غير العقلانية للتدخل بوسائلها الاستثنائية القصوى. تلك هي المخاطر التي تترتب عن الجمود الحالي إذا طال: الشعور بالحاجة إلى أسلوب آخر في التغيير بدلا من الاستمرار في الإصلاح. فهل هناك قوى تعمل على الجمود للدفع بالأمور نحو التغيير بالعنف؟

التفسير المؤسساتي: تشكيل هيئة جديدة مستقلة تشرف على الإصلاح
القراءة الثانية تتوخى التفسير المؤسساتي وهي تبدأ من حيث توقفت القراءة الأولى. فما الذي حدث حتى ظهرت النتائج بهذا الشكل؟ تقاطعت إستراتيجيتان في ظرف مؤسساتي محدد فكانت هذه النتيجة هي أفضل ما يمكن في الظرف الحالي: أما الإستراتيجيتان فهما إستراتيجية الإصلاح السياسي في مقابل الإستراتيجية الانتخابية. وأما الظرف المؤسساتي فيتمثل في انفراط عقد الائتلاف الرئاسي عشية الانتخابات وتحول اللاعبين من صف الحكم الذي يجب إصلاحه إلى صف المعارض القائم بالإصلاح مما ترتب عنه تعطيل مسار الإصلاح في المرحلة الأولى، حين كانت أحزاب الائتلاف تعمل على تعطيل الإصلاح للاستفادة من امتيازات السلطة، كما ترتب عنه إفشال مسار الانتخابات في المرحلة الثانية (حين بدأت أحزاب الائتلاف وغيرها تقدم نفسها على أنها قادرة على تقديم البديل لما كانت تقوم به من قبل) ففشلت الحملة الانتخابية قبل أن تبدأ مما استدعى دخول لاعبين مؤسساتيين جدد أولهما: وزارة الداخلية بأن دفعت بعدد كبير من الأحزاب إلى الساحة فتشوش المشهد السياسي أولا ثم تشتت الوعاء الانتخابي ثانيا مما ترتب عنه فشل الحملة الانتخابية وعزوف الناخبين مما استدعى تدخل الرئيس بثقله، وهو اللاعب الثاني المتدخل يعد فشب الحملة، فأدى ذلك إلى تحريف توجهات الناخبين(أفرادا ومؤسسات) كما ترتب عنه أيضا ضياع عدد كبير من الأصوات عند عتبة الانتخابات (نسبة الخمسة بالمائة الضرورية للدخول في احتساب الأصوات) فظهرت الأحزاب التي كانت تعطل مسار الانتخابات كما لو كانت هي المستفيد الوحيد من المسار الانتخابي بعد أن كانت هي المستفيد الوحيد من امتيازات السلطة. وترتب عن ذلك نتيجتان خطيرتا: أولاهما أن الأغلبية البرلمانية ليست أغلبية لحزب بل أغلبية للرئيس وهو أمر إشكالي في حد ذاته وثانيهما رفض النتائج من اغلب الفاعلين السياسيين بمن فيهم المشاركون في المسارين( الإصلاح والانتخابات) فما بالك بغيرهما من الأحزاب وبعموم الجمهور والمواطنين والرأي العام رغم أن العملية جرت في ظروف عادية ولم تشبها شوائب خطيرة(لذلك لم تستقم الاتهامات بالتزوير رغم أن ظاهر النتائج يرجح ذلك).
يترتب عن هذا التفسير المؤسساتي استنتاج أساسي وهو أن المسار المؤسساتي للإصلاح لم يكن فعالا لسبب بسيط هو أن عملية الإصلاح أسندت إلى الفاعلين المساهمين في الفساد الذي يتعين إصلاحه فكان منطقيا أن يعمل أولئك على تعطيل مسار الإصلاح السياسي والانحراف به عن هدفه وتحويله إلى فرصة لتعزيز مواقعهم في السلطة. ولذلك كانت النصوص المجسدة للإصلاحات (الدستور قانون الانتخابات – الإعلام – المرأة) هي نفسها أدوات لتجسيد الفساد وتقنينه. والنتيجة هي أن المسار المؤسساتي الحالي بكامله فقد شرعيته بما فيها البرلمان الجديد. ولذلك فإن الأمر يقتضي تجاوز المؤسسات الحالية برمتها: تعيين حكومة من خارج الأغلبية البرلمانية واستئناف الإصلاح من خارج الإطار الذي تم اتباعه لحد الآن: تشكيل هيئة جديدة مستقلة تشرف على الإصلاح وتسيره بمعزل عن القوى السياسية الفاعلة المتحكمة في المؤسسات وأن يتم ذلك بتعديل الدستور وعرضه على الاستفتاء المباشر بدلا من تكليف البرلمان بإعداده والمصادقة عليه. وتكون المؤسسة المحورية في هذا هي الرئاسة لا الحكومة التي ينبغي أن يقتصر دورها على تسيير العادي والحفاظ على استمرارية البرامج التنموية في ظل انطلاق الحملة للرئاسيات إلى جانب استكمال الإصلاحات. وهما مساران معقدان ويتبادلان التأثير في ما بينهما سلبا وإيجابا.

نظرية المؤامرة: ضرورة القيام بخطوات جريئة للخروج من الوضع
القراءة الثالثة قراءة تعتمد المنهج القائل بوجود مؤامرة كبرى مخطط لها ومحبوكة بشكل محكم. وهذه قراءة تشترك فيها السلطة والأحزاب ويتبناها قطاع واسع من الرأي العام. وقد بدأت هذه الفكرة من قبل الداعين للمشاركة في الانتخابات بتجنيد المواطنين عن طريق بث الخوف والفزع مما يجري في الجوار العربي لكنها أخذت أبعادا أخرى لاحقا. تتمثل هذه المؤامرة في وجود قوى متربصة بالبلاد وتعمل على توريطها في الفوضى من اجل تسويغ التدخل الأجنبي في شؤون البلاد والاستحواذ على خيراتها بعد تحطيم المؤسسات وتخريب البنية التحتية وتركيع البلاد باستخدام قوى سياسية وطنية تعمل على تبرير التدخل واستخدام وسائل عسكرية لتدمير القوة العسكرية الوطنية مما يسمح بفرض حلول على المنطقة فشلت القوى الأجنبية في فرضها عن طريق التفاوض. وقد صدرت تصريحات دولية وتصريحات عن سياسيين جزائريين أولتها بما يرجح هذا التفسير.
غير أن نظرية المؤامرة لم تقف عند هذا الحد بل تجاوزت ذلك إلى تفسير الأحداث الداخلية أيضا: فالإصلاحات المعلنة ليست سوى مناورة كبرى لتفادي الانفجار السياسي الذي كان يمكن أن يحدث في إطار ما يجري ضمن (الربيع العربي) ولم تكن إستراتيجية خروج من الأزمة بقدر ما هي آلية لتسيير الأزمة أو للتسيير بواسطة الأزمة (وكلها درجات في نظرية المؤامرة). كما أن مسار الانتخابات هو أيضا سلسلة من المؤامرات حسل هذا الطرح: تسجيل الناخبين وفتح المجال السياسي في ظل إغلاق المجال الإعلامي واستقدام المراقبين كلها مؤشرات تثبت أن المؤامرة أوسع مما يتصوره العقل أو يصله الخيال فكانت النتيجة المنطقية هي أن تكون نتائج الانتخابات أكبر مما يحتمله الجزائريون هذه المرة: عودة النظام الأحادي في أبهى حلة وبأسلم طريقة وعلى مرآى ومسمع من الملاحظين الدوليين. وبعض الأحزاب تتهم بعضها الآخر بالتآمر مع النظام ضد منافسيها بل غن بعض المناضلين يتهمون أحزابهم بالتآمر ضد مصلحة الحزب نفسه. ويمعن بعض أنصار نظرية المؤامرة في التحليل فيوردون مؤشرات على أن هناك مؤامرة علمية تمت بدهاء كامل من داخل النظام القصد منها إحداث تغييرات جذرية يمكن أن تؤدي إلى قلب الأوضاع رأسا على عقب: ضرب مصداقية المؤسسات السياسية في الصميم ليمكن فيما بعد تقديم بدائل مهما كانت تفتقر إلى الشرعية الدستورية أو القانونية فهي أكثر مصداقية من كل ما تم حتى الآن: تبرير الانقلاب على الحكومة بل على مؤسسة الرئاسة نفسها باعتبارها مسؤولة عن فشل مسار الإصلاحات السياسية وعلى الرئيس باعتباره تورط في قلب الموازين لصالح احد الأحزاب. أو ضرب مصداقية هذا الحزب نفسه باعتباره شريكا في الورطة وهذا تمهيدا لتحضير حزب آخر لتقديم بديله في الرئاسيات المقبلة. فضحية المؤامرة بهذه المعنى هو الحزب الفائز ورئيسه. فمن يكون الفائز البديل إذن؟ هذا ما ستكشف عنه أحداث الأيام القليلة القادمة: لقاءات الحزبين الأخوين اللدودين وما يترتب عنهما من قرارات فضلا عن تعيين الحكومة وتبين مصير الإصلاحات. فالقرارات والأحداث المقبلة ستفسر ما حدث وتسلط الضوء على ما يتم الترتيب له مستقبلا وفقا لهذه القراءة. فالمؤامرة لم تكتمل فصولا. وما يأتي يكون دائما اخطر مما مضى. ويبدو أن هذه النظرية هي الأكثر شعبية مما يبين عمق الأزمة التي تمر بها البلاد مما يتطلب القيام بخطوات جريئة لإنقاذ الوضع.
قراءات ثلاثة لوضع متأزم يقبل أكثر من قراءة ويحتمل أكثر من تفسير. لكن الأكيد أن مثل هذه الأوضاع المتأزمة تتضمن من المخاطر بقدر ما تتضمن من إمكانيات التطور فالأزمة حمالة أوجه: لحظة انهيارات خطيرة ولكنها أيضا فرصة للتغيير.

وفي المحصلة نجد هناك اتفاقا على أن الأحداث السياسية تأخذ مغزاها من السياق الذي تجري فيه في منحى تصاعدي مطرد. إذ لا تعود الأوضاع إلى نفس المستوى الذي انطلقت منه بل تتصاعد وتستقر عند مستوى جديد في انتظار عوامل تغيير أو عوامل تطور جديدة.
وفي حالتنا فإن نتائج الصندوق هذه المرة مثلا لا تعني عودة الأغلبية البرلمانية للحزب الذي كان يحوز على حصة أقل بل تعني شيئا آخر تماما. فالأغلبية التي حصل عليها الحزب حصلت بفضل طرف من خارج الحزب وبالتالي فإن مصداقية الحزب نفسه أصبحت في الميزان. انهارت قيمته السياسية وارتفعت قيمة الأحزاب الأخرى. والدليل أنه بإمكان الرئيس أن يعين حكومة من خارج الأغلبية الحزبية المنتصرة دون أن يحدث أي احتجاج أو اختلال في موازين القوى السياسية. فهذه الواقعة إذن ليست لها دلالة واحدة ولا يمكن أن تؤدي إلى نفس المقدمات السابقة بل هي مقدمات لشيء سيحدث نرجو أن يكون خيرا.

د.عاشور فني