الرئيسية / الرئيسية / في مثل هذا اليوم منذ ثمانية وأربعين(48) سنة: وفاة جمال عبد الناصر

في مثل هذا اليوم منذ ثمانية وأربعين(48) سنة: وفاة جمال عبد الناصر

عاشور فني

 

 

يوم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر(28 سبتمبر 1970) صادف أول يوم لي في المدرسة. كانت مدرسة حرة أسساها أهل القرية على أنقاض زاوية الشهي

 عبد الحميد حمادوش. مديرها سي القريشي هو أحد تلاميذ الشيخ ومعلموها جلهم فلسطينيون. كان أبناء القرى يتعلمون القرآن في بداية حياتهم ثم يلتحقون بالمتوسطة بعد امتحانقصير في اللغة والحساب. سبقني كثير من ابناء القرية إلى الإكمالية لأن الوالد رحمه الله كان يفضل ان أكمل حفظ القرآن ولا يقبل لي دراسة (قال بال والذيب بوكعوالة) على حد تهكمهات أهل القرى بالمدارس آنذاك. كنت فرحا جدا أنني استطعت أخير أن أحصل على إذن الوالد بالالتحاق برفاقي. لم أنم جيدا تلك الليلة.  في الصباح الباكر انطلقت مع أخي لحسن. كان يسبقني بسنة. قطعنا مسافة أربع كيلومترات ونصف لنصل قبل الثامنة. لم يدلونا الأقسام. بقينا في الساحة مدة طويلة. تعرفنا على بعض أبناء القرية في الساحة.

فاجؤونا بخبر الوفاة وإعلان الحداد . الحداد اعلن عبر كامل التراب الوطني في الجزائر. خطب  فينا احد المعلمين وهو يغالب الدموع (اسمه ماجد عوض) ثم سرحونا ذلك اليوم.  كان طعم العودة من المدرسة إلى البيت ممزوجا بدموع المعلمين وحيرة الأطفال. ووجوم الأولياء. في الطريق إلى البيت لم نصدق ما شاهدنا: المعلم يبكي.

كان لعبد الناصر صيت في كل العالم الكبير وفي قريتي أيضا. وكان الناس قريبي عهد بحرب التحرير. قيل يومها بخشوع: الأسطول الأمريكي بالبحر المتوسط أعلن دقيقة صمت. كان ذلك دليلا على مكانته في العالم باعتبار الولايات المتحدة كانت عدوه الأول. الحق ما شهدت به الأعداء. وكان يقال: لم يبق للعرب بعده إلا بومدين. كانا بطلين شعبيين حقيقيين. وكانت تردد أغنية عنهما في القرية نسمعها في الأعراس: يرددها الرجال بأصوات  ثنائية في حركات جماعية تسمى (التسباح ) أو (الترداس):

 

 يا جمال  وليد الناصر …… بالك من اليهود وما تامنشي

يجيك بومدين وليد دزاير….. موالف بالحروب وما يسلمشي

 

يا بومدين ياولد الحلال…. سجل في الكارني وابعث المال

سجل في الكارني وابعث المال … لأولاد الشهداء عادوا رجل

 جمال عبد الناصر والهواري بومدين. كانا قريبين من البسطاء ومن الأطفال في المدارس ومن الأولياء في المنازل ومن الفلاحين في الحقول ومن العمال في الورشة. كان لهما قدرة على صنع المثل وبث الطاقة في نفوس الجميع. يتحدث الناس لغة واحدة حيث سرت. هناك شيء ما يوجه خطوات الجميع: الأمل في مستقبل أفضل. كان ذلك اليوم بداية حلم صغير هو حلمي الشخصي في الالتحاق بالمدرسة. لكنه  نهاية حلم كبير.

تشويه صورة عبد الناصر لاحقا له مصدران: القوى الخليجية المتحالفة مع الغرب والإخوان المسلمون في مصر الذين عارضوا حكمه فهم صنيعة الإنجليز وحلفاؤهم. فلتفسير سبب تشويه صورة عبد الناصر لدى العرب يمكن العودة إلى التاريخ القريب. بعد ارتفاع اسعار النفط  على إثر حرب 1973 اصبحت الزعامة العربية لآل سعود. وهؤلاء كانوا خصومه لأنه شجع الثورة العربية ضد الملكية في اليمن ونشات جمهورية في الجنوب وقاد آل سعود ثورة مضادة في الشمال وانقسمت اليمن بسبب العداوة بين مصر  والسعودية انقسم العرب بين ثوريين ورجعيين. بين مؤيدين للثورة في فلسطين وضدها. لم تشارك السعودية ولا بلدان الخليج في أية حرب لتحرير فلسطين لكنها استفادت من الحرب بارتفاع أسعار النفط التي سمحت لتلك البلدان بأن تسبح في اموال لا طاقة لها بتثميرها بمفردها فتحالفت مع الرأسماليات الغربية.

كان عبد الناصر وبومدين يعتبران الدول الراسمالية قوى إمبريالية واستعمارا جديدا.. لم تتوحد اليمنيتان إلا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات وانهيار القوة العسكرية المصرية بفعل القيود التي فرضتها اتفاقية كامب ديفيد على مصر  سنة 1978.وعندها كان آل سعود قد احكموا قبضتهم بالمعونات المالية على مصر في عهد السادات ومبارك. قادوا حملة اليمن الشمالي (الموالي للسعودية) ضد اليمن الجنوبي. قادوا حملة السلفية ضد كل ما هو وطني وقومي في البلدان العربية. تحالفوا مع الولايات المتحدة وبريطانيا التي تحالف عبد الناصر ضدهما مع السوفيات فاتهم لذلك بالشيوعية وهو منها براء. الذين شوهوا عبد الناصر لدى العرب شوهوا بومدين  أيضا. لكننا في الجزائر نفرق بين بومدين ومن جاء بعده. كذلك يفرق المصريون بين عبد الناصر ومن جاء بعده. ميدان التحرير  شهد عودة صور عبد الناصر وذلك له دلالة عميقة. من اقترب من احلام الناس حمله الناس في قلوبهم.

تعود اليوم ذكرى وفاة عبد الناصر والشعوب العربية تصارع القوى الدولية والعربية المتسلطة المتكالبة على تحركها من أجل التحرر … تبدلت الأوضاع وتغيرت الهواجس والأحلام . تغير الوعي وتغيرت الخطابات. وتغير العالم.  لكن أحلام البسطاء تظل على الدوام: الحرية والعدل والتعليم والعمل و الحياة الكريمة.