الرئيسية / اكاديميا / عمار بلحسن: تفكير الجزائر

عمار بلحسن: تفكير الجزائر

محمد بن زيان

عمار اشتغل على ما يتصل بالموضوع الثقافي من حقل اشتغاله السوسيولوجي ومن خصوصيته كمبدع واشتغاله على ما هو ثقافي ساقه إلى تفكيرالجزائر بكل مفرداتها وعناصر تكونها ومعطيات سيرورتها وصيرورتها وحيثيات تحولاتها وتغيراتها.
.. يكتب في التمهيد ل “كشف الغمة”: (فأنا أحد المثقفين المعربين المزدوجين الذين تكونوا من حضن اليسار الجامعي في السبعينيات، كتبوا وأبدعوا وأحبوا الثقافة والجزائر بتواضع ولم ينسوا القيم وطبقوا ما قال الله عز وجل في كتابه “.. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم…”. ولكن أقلامهم لم تعرف تعارضات بين إيمانهم العميق الصامت والعقلانية فقد غمست قبل أن تعرف النظريات الكبرى للتاريخ والثقافة والمجتمع وتشهد تفكك المنظومات الفكرية والأيديولوجية وإفلاس أنظمة البيروقراطية في حبر اللوح المجفف لتراث الإسلام والعربية والحضارة الإسلامية واندفعت بحب للمعرفة البشرية ورمت بقلبها وذاتها في عقلانية وحداثة العالم وهي في عز النضج لترى واقعها، بدون نزعة سلفية وتغريبية، تغتال العقل وتبطل النظر وتقمع الاجتهاد والإبداع وتهرب للأمام مدافعة عن حداثة لا تعيشها وتراها إلا كعيش إدماج وهمي مدعٍ في تبعية فكرية ومعرفية، ناكرة هوية مفتوحة نيرة شكّل الدين والعقلانية نبراسها عبر الزمن ولا تشكل حاجزا في وجه التقدم والدخول في وجه التقدم والدخول في العصور الحديثة والتاريخ أو تنكسر إلى الخلف مستسلمة في نزعة ميتة تقدس التراث وخطاب الأسلاف آمنة في حضن تاريخ نير، توارى إلى غير رجعة حاملا عظمة بائدة”. هذا القول يعرض التوجه الذي توج به عمار مشواره القصير والمشحون بما يؤشر لثراء وأفق مفتوح بالتجدد المستمر والاجتهاد المتواصل والاستيعاب المدقق والحكيم، حكمة تظل هي المنشودة فكما يقول التوحيدي (علم بلا حكمة بلاء وحكمة بلا عمل هباء).


في مطلع الثمانينيات، عرفت الجزائر نقاشات أثارتها الأحداث التي عرفتها من الربيع القبائلي إلى أحداث أكتوبر، والأحداث التي عرفها العالم والتي حملت مقدمات ما ستختتم به الثمانينيات أي تبدد المعسكر الشرقي وبداية ما تبلور منذ التسعينيات ولا زال متحولا لحد الآن. في هذا السياق بكل ملابساته تبلور طرح عمار وتفكيراته. وعن النقاشات التي عرفتها البلاد إثر طرح ملف السياسة الثقافية للنقاش في إحدى دورات اللجنة المركزية للحزب الواحد آنذاك والتي اشتغل على بعضها كتب في مقدمة كتابه “أنتلجنسيا أم مثقفون في الجزائر” (وربما يكون افتتاحا لنهايات تصور شعبوي تاريخي، غذى وما يزال يغذي تغييب وتضبيب القوى المنتجة الجزائرية اليدوية الذهنية في وحدة شمولية هلامية شاسعة وكلية، لا تعرف التناقضات أو التفريقات والتحديدات. الحق، إن طرح مسألة “المثقف الجزائري” في نهاية عشرينية مفعمة بالتحولات السريعة… يظهر على الأقل بالنسبة لي كحصيلة دالة. حصيلة تفكير نقدي، هو إعادة نظر ومساءلة، الهدف منها، ليس فقط تعيين مكانة ودور المثقف في المجتمع، بل وإعادة موضعته كذات وكمجموعة اجتماعية مستقبلية في سياق ديناميكية التناقضات والعلاقات الاجتماعية المتنوعة وتعبيراتها الثقافية التراثية والحاضرة، وطنيا وكونيا. إننا هنا، أمام محاولات تفكير المثقف حول ذاته وشخصيته وعمله، أمام خطابات فكرية تتساءل عن “منتجيها” وشروط تكونهم، وظروف إنتاجهم، وتحديدات نشاطهم. ابتداء من 1980 طفا المكبوت واسترجع أولويته في الجزائر: ظهور الثقافة والمثقفين كميدان للصراع والجدلية الاجتماعية).
شكلت طروحات غرامشي قاعدة التعاطي مع موضوع المسألة الثقافية والمثقفين، وذلك نظرا لأهمية ما طرحه غرامشي من أفكار حول المثقفين التي تعتبر، كما يقول بلحسن: (ربما المساهمة الوحيدة التي يعترف بها الجميع، من اليمين إلى اليسار وبدون استثناء..). في طروحات غرامشي ما يبلور حقيقة ومعنى كينونة المثقف فهو يقول: (الوعي الذاتي النقدي، يعني تاريخيا وسياسيا خلق نخبة من المثقفين، فالكتلة البشرية لا تتميز ولا تصير مستقلة من تلقاء ذاتها، من دون أن تنظم نفسها بالمعنى الواسع، ولا تنظيم بدون مثقفين وبدون منظمين وبدون قادة).
وفي كراسات السجن يقول غرامشي: (كل الناس مثقفون، لكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع)، ويوضح: (عندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين فإننا في الحقيقة نشير فقط إلى الوظيفة الاجتماعية المباشرة).
ولكن طرح غرامشي في السياق الجزائري ملتبس بإشكال شغل ويشغل الباحثين والمثقفين ومنهم المرحوم عبد القادر جغلول، الذي شكل الحوار الذي أدلى به للصحفي محمد بلحي، محور النقاشات التي ضمها كتاب بلحسن “أنتلجنسيا أم مثقفون في الجزائر؟” وفي الحوار المشار إليه قال: (أما بالنسبة للتفرقة التي يقوم بها الفيلسوف الإيطالي غرامشي بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي، فإنها تبدو لي غير قابلة للتطبيق على واقع البيئة والوسط الثقافي الجزائري الحالي. فالمثقفون التقليديون يتناقص عددهم من يوم لآخر، أما العضويون فإنهم لا يوجدون مطلقا، نظرا لتشكل النسيج الثقافي العام وتحوله وتغيره).
عمار اشتغل على ما يتصل بالموضوع الثقافي من حقل اشتغاله السوسيولوجي ومن خصوصيته كمبدع واشتغاله على ما هو ثقافي ساقه إلى تفكيرالجزائر بكل مفرداتها وعناصر تكونها ومعطيات سيرورتها وصيرورتها وحيثيات تحولاتها وتغيراتها. والعودة إلى النصوص التي كتبها عمار في فترة قصيرة لكنها مكثفة، تبلور تطورا رؤيويا وتطورا في الآليات الموظفة فمن كتابه “الأدب والأيديولوجيا” إلى “كشف الغمة” حمل عمار رؤية مفتوحة في قراءتها الدينامية للواقع بإحداثياته المتشعبة وبجذوره وخلفياته، رؤية تجسد مكابدة عمار لمعاناة التحقق كمثقف بدوره النقدي والمنخرط في الديناميكية الاجتماعية كفاعل وهذه المكابدة تمثلها إسهاماته المتواصلة حتى قبل رحيله بأيام في المنابر الإعلامية، إسهامات حققت التواصل بين الأكاديمي والإعلامي ومثلت خروجا من الدائرة الأكاديمية المغلقة وارتقاء بالنقاش الإعلامي لصياغة الفضاء العمومي الذي تحدث عنه هابرماس كشرط للديمقراطية ولصياغة المواطنة.
وحملت أطروحات عمار أفكارا صارت بعد رحيله من محاور الاهتمام المرتبط بالأحداث المستجدة وإفرازات التطور الهائل في تكنولوجيات الإعلام والاتصال وما أعقب نهاية الحرب الباردة ودخول العالم في سياق تحولات تصوغها شعارات النهايات والمابعديات، فعمار تحدث عما تجدد عند علي حرب وغيره ممن تحدثوا عن النخب والمثقفين.
كتب عمار مفتتحا دراسته (الكتابة والمنبر الغائب: المجلات الثقافية في الجزائر) بالعبارات التالية:
(يبدو العالم الثقافي الجزائري رماديا، أشبه بصحراء سائدة، لا ينبت فيها إلا بعض نباتات الصبار التي تختزن ماءها ونسغها مؤونة منذ سنوات تعتاش منه، في انتظار غيث مستحيل، كأرض تمص مخزونها متدهورة نحو التصحر النهائي، تذوي براعمها، ويجف ضرعها وزرعها، لتترك اليابس يعيش في دبالها بلا هوادة) “7”. وذكر إن استهلاله هذا ليس شعريا إنه (إعادة جذر كلمة “ثقافة” إلى رحمها الأصلي، الفلاحة، وتكوين صورة للفكر وللإبداع في معادل رمزي وبلاغي داخل جزائر تعيش منعطفا خطيرا: إما النجاح في قيادة مجتمع على أعتاب الحداثة والديمقراطية، أو السقوط في هوة التفتت، والفوضى والتاريخ الأليم) كتب هذا بفترة قبل دخول البلاد في المسار الذي تلون بالدم.
واصل عمار ما دشنه باحثون كجغلول ولشرف من اشتغال على الملابسات التاريخية للمسارات الثقافية الجزائرية وعاد للفترة الكولونيالية فدرس الأدب والمسألة الوطنية، واشتغل على المسألة الثقافية بكل تفاصيلها، متوقفا عند الحيثيات التاريخية، مسجلا كما كتب في افتتاحية العدد الرابع من مجلة التبيين الصادر في فترة كانت مشحونة بمناخ مشحون بما أرهص لما عشناه في التسعينيات: (لا، ليست هذه الأزمة الأولى، إن بلدناالجزائر، وهو من أجمل بلدان البحر المتوسط قاطبة، يضرب بجذوره في عمق تاريخي وجغرافي، اختلطت في فضاءاته شيم الحرية بالعنف، النظام بالفوضى، المخزن بالسيبا، الدولة بالقبيلة.. عرف دائما تطورات وقفزات عنيفة، ويبدو تاريخه سلسلة من الأزمات، تعكس مخزونات وطاقات نفسية وثقافية واجتماعية عظيمة ورهيبة داخل الإنسان والمجتمع. يظهر الإنسان الجزائري في منظور علم النفس التاريخي كائنا يتطور عبر المواجهات والمجابهات العنيفة، من الرجال الأحرار الأمازيغ، حتى ثورة نوفمبر التحريرية انعجنت عناصر الشخصية القاعدية كمركب وجودي يختزن جدلية المقاومة والنفي والشهادة، يحتمل رؤية درامية وعنيفة للتاريخ والزمن والكينونة..) ويسجل بأن الجزائري في الفترة التي كتب فيها مقاله يبدو (كائنا مرميا في معمعة الحداثة والعصر، يغذيه حدس البطولة، وإرادة الكينونة، وإثبات الذات في عالم شرس المصالح والرهانات، بدون استراتيجية أو استشراف علمي ومعرفي للواقع والمستقبل).
عمار تأمل وفكر ورصد المعيش، لم يغرق في العموميات النظرية وبلور في نصه الأخير الذي كتبه وهو يصارع المرض وعنونه بعنوان للمقريزي “كشف الغمة” ما يسكنه ويشغله حتى وهو في محنته فكتب عن بؤس الحياة الجزائرية في المظاهر والبنايات، ووصف الحالة التي كتب فيها: (بكل ما ترك لي المرض المستعصي من صفاء وبكل ما بقي في الجسد من نفس وفي القلب من حب وفي العقل من عقلانية، وفي عزلة صوفية)، ويقول: (كتبت ما كتبت، قاصدا تنبيه الغافل، واستنطاق الصامت وكشف الغمة، غمة الروحالجزائرية في مأزقها، أزمتها، محنتها).
مع عمار تم تحقيق انفتاح النقاش السوسيولوجي على الواقع المتحول وفي إطار أوسع من الاشتغال المفاهيمي الصرف وأوسع من الاشتغال في الفضاء المحصور أكاديميا.
ففي (كشف الغمة) كتب عمار بلغة هي متصلة بلغة كتب بها يوميات الوجع، أي لغة شفافة تمزج بين خلفيته الأدبية والسوسيولجية وحالة هي أقرب للتصوف، كتب عن جزائر تتعرض لتبلور ما تراكم في رحم المراحل المتعاقبة عبر التاريخ وسبق لعمار تناولها في دراساته ومقالاته.
للموضوع إحالات

انقر هنا لقراءة الموضوع من مصدره