الرئيسية / اكاديميا / رواية “ثابت الظلمة” لأمل بوشارب- صراع الخيارات والأنماط السردية

رواية “ثابت الظلمة” لأمل بوشارب- صراع الخيارات والأنماط السردية

د. محمد الأمين بحري

جامعة محمد خيضر-بسكرة

أولا- أسئلة المبنى:

إذا قرر الكاتب أن يؤسس نصه على فكرة جوهرية فعليه أن يحسب حساب ما يرتبط بها من عناصر العمل وتأثيثه، وملاءمة تلك العدة البنائية والتخييلية للنمط الروائي الذي يسوق فيه الفكرة والمعمار معاً.
انطلاقاً من هذا التخطيط تؤسس أمل بوشارب روايتها، على فكرة المخطوط الغامض، وفق نمطين سرديين حاولت الروائية ظفر حبالهما وخلق انسجام وتناغم بين لونيهما المختلفين وهما: نمط الرواية البوليسية الحديثة (رواية الأسرار)، أما النمط الثاني الذي يؤثث محتوى النص فهو الرواية المعرفية، القائمة على جملة من المعارف والنظريات العلمية والابتكارات والمقولات الفكرية، وما يرتبط منها بالمعلومات والوثائق والشواهد والمعالم والوقائع التاريخية الشاهدة في حياة المتلقي. مما يعطي إيهاما مكثفاً بواقعية ما يحدث في المغامرة السردية التي تجمع النمطين السرديين المتظافرين.
ولعل أول إشكالية يصدفها القارئ في صياغتها هو أنها صيغت ضمن نمطين روائيين يحوز كل منهما عدته ومتطلباته المختلفة عن الآخر، ومضاعفاته وإكراهاته أيضاً، ولا يوجد إكراه هنا أخطر على العمل من تصادم متطلبات هذا النوع (من حيث التأثيث على الأقل) مع ذاك. فهل نجت الروائية من هذه الأحبولة في تأسيس معمارها السردي؟ وأين أنقذت رحلة مغامرتها وأين شق عليها المسير؟
ثانياً- بنك الألغاز، في رواية الأسرار البوليسية (البنية التشويقية).
تحمل رواية السرار البوليسية التي تحكم مفاصل هذا العمل إلى قارئها بنكاً ثريا من الألغاز المتعددة الأشكال لعل أهمها:
– لغز مرتبطة بمخطوط غامض ومجهول التشفير، مصدره الصحراء الجزائرية وهو مخطوط مدون -من طرف أسلاف الطوارق الأولين- بلغة تماهق، والذي يقع في أيدي شبكات ومنظمات صائدي لكنوز السرية وباروناتها العالمية.
– ولغز ثان مرتبط بنشاط هؤلاء البارونات وسياسة عملهم أي بشخصيات روائية تمثل صائدي الكنوز المقدسة، على اختلاف أقنعتهم المؤسساتية المافيوية. (وكان لهذه الشخصيات عظيم الفضل على تدفق سيل من العقد التشويقية للرواية)
– ولغز ثالث مرتبط بالفضاء المكاني وهو خارطة الكنوز الغامضة التي تقع في الصحراء الجزائرية (منطقة الأهقار)، وما يلفها من كائنات ووقائع غريبة وأخرى مفبركة تحدد عند اندلاعها مصائر المغامرة السردية وتحسم مسارها.
– ولغز رابع مهيمن على النص والعنوان وهو عالم الظلمة الذي دوخت ثقوبه السوداء علماء الفلك، والفيزياء، وهو عالم الأسرار المناقضة لمنطق العقل، الذي لا تملكه سوى الشعوب الغامضة، الموجودة في الصحارى، بل إن الرواية تتحدث عن شعب غامض يعيش في صحراء الأهقار هو شعب [قل السوف] قبيلة تمتزج الأقاويل في انتمائها الميتافيزيقي بين أهل الخفاء وأهل الفضاء.
– واللغز الخامس الذي تحاول الرواية الولوج إليه هو تلك الظلمة (الرمزية) التي يتحالف في صنعها رباعي الفساد في الجزائر [الفساد السياسي، والفساد الاقتصادي، والفساد الإداري الفساد الثقافي]. وهو حلف مظلم آخر عقد العزم على تدمير أي بصيص من النور ممكن في هذه البلاد التي تغرق في لجج من ظلامات بعضها فوق بعض، لتكون الظلمة بكل أبعادها العلمية والجهلية، الواقعية و الرمزية هي الثابت الذي يلف أسرار المغامرة في رواية ثابت الظلمة.
هذه الألغاز الملفوفة في الظلمات هي ما طبعت النص بطابع رواية الأسرار المظلمة بكل أبعادها الخيالية والعلمية، أما الشق البوليسي المعاصر فيها فهو قيام حبكتها على السرد الجاسوسي، سواء في كيفية تنكر وتخطيط بارونات ومنظمات وشخصيات صائدي الكنوز، أو كيفية ترصدهم من طرف السلطات الجزائرية والصحافة الأمنية والمجموعات الإرهابية المصطنعة. ومنصات التواصل الاجتماعي.
وقد طعّمت الروائية هذه المنابع السردية الإشكالية (المتمثلة في ألغاز روايتها)، بمكون معرفي وتوثيقي طالما رافق الرواية الجاسوسية العالمية الحديثة، ويصادفة القارئ في كل منجز معاصر في هذا النمط على شاكلة أعمال: دان براون أو بول أوستر أو ستيفن كينغ. على سبيل التمثيل لا الحصر. فهل كان هذا التطعيم السردي المعرفي في صلب النمط البوليسي، وطريقة حقنه صحية لهذا النص؟


ثالثاُ- الإشكال المعرفي وأسلوبية الرواية.
لقد احتشدت الرواية بترسانة معرفية غزيرة ومتعددة المراجع الثقافية، وهو خيار سردي سيواجه من الناحية الأسلوبية إشكالاً في توزيع هذا الكم المعرفي بين ثنايا الأحداث الحاكمة في النص، ولعل ذلك ما دفع الروائية في الفاتحة النصية للرواية إلى وضع تصريح توجيهي للقراء تقول فيه بأن: [جميع الحكايات الأسطورية، القصص الشعبية، الشروحات العلمية، والتقارير الإخبارية المشار إليها في الصحف والمجلات الأجنبية، وكذا عناوين المؤلفات الواردة في هذا الكتاب حقيقية، إلا أن هذه الرواية خيالية..]. وهذا إقرار واضح بالتوجه المعرفي والمعلوماتي والتوثيقي الذي زجت به الكاتبة في نصها. وكشف عن خزانته المعرفية والثقافية للنص.
رغم أن توزيع بنك المعلومات والمعارف على الأحداث والشخصيات التي تقاسمته وفق مستواها وطبيعتها، ودورها، إلا أن طريقة تسريد هذا الكم المعلوماتي الثقيل والمتعدد المشارب، جعلت أغلب معلومات النص تقع خارج المغامرة [أي زائدة وناشزة]، وقد انجرت عن عملية هذا الشحن المعرفي والتوثيقي عدة إشكالات:
– الإشكال الأول ليس نوعية المعلمات بل كميتها من الوثائق المدرجة التي جعلت أغلبها فائضاً عن أدوار الشخصيات، ومرمياً على قارعة الأحداث دون وظيفة سردية.
– والإشكال الثاني الذي حيد المعلومات المستدعاة عن مجرى السرد هو: الشروحات الكثيرة التي جعلت الرواية في كثير من الأحيان تبدو بحثاً علمياً أو تقريراً إخبارياً، وهو الشق الذي يتعارض مع خفة ورشاقة النمط الجاسوسي والتلغيزي والبوليسي الذي تنكتب فيه الرواية.
– والأشكال الثالث هو أن شرح الخزانة المعرفية للنص كان بلسان الراوي (الذات الثانية للكاتب التي كانت تروي من خلف الشخصيات)، ونادراً ما كان طرف الشخصيات. مما جعل الكم المعلوماتي مستقل نسبياً عن مجرى الأحداث أو بالأحرى موازياً له. وهو نفس الإشكال الذي المطروح من قبل في روايتها الجاسوسية والأسرارية الأولى “سكرات نجمة”. لكن بفارقين جوهريين أولهما: زيادة حجم الوثائق والمعلومات في هذا النص، والثاني: تكفل الراوي بشروحاتها، وهنا مكمن الخلل.
فحين يشرع الراوي في شرح المعلومة أو الخبر، فإن السرد والوصف والحوار بين الشخصيات يتوقف، وكلما طال الشرح ازداد ثقل وتعطل المجرى الدرامي لسيرورة الأحداث وانقطع تواصل الخط بما قبله وما بعده.
ونسبة الشروحات للراوي أعاق كثيراُ تداول الخطاب بين الشخصيات (كما فعلت الروائية في روايتها الأولى سكرات نجمة). لأن مصدر الخطاب يكون داخلياً حين يصدر عن الشخصيات، فيسهم في بنائها الفكري ورسم صورتها لدى القارئ، وليس خارجياً من طرف الراوي الذي هو المبعوث الشخصي للكاتب ليروي النص للقراء؟
– والإشكال الرابع- أن ذلك الشرح جاء في المتن وليس توضيحاً في الهامش (بما أنه مضافاً إلى المعلومة ولا يدخل في سردها وتخييلها). على الرغم من توفر إمكانات سردية أخرى أقل كلفة وأخف على النص والقارئ، كأن تكون تلك الشروحات في الهامش (بما أنها مستقلة عن الفعل والحدث) فيتخلص النص من ثقل ورودها بين ثنايا المسالك السردية الوعرة التي زادتها تلك الشروحات الكثيرة وعورة وتعقيداً وثقلاً.
خاصة وأن شرح المعلومة أو الوثيقة في الهامش لا يدخل تقنياً في نسيج أو المبنى المخيالي للنص، بل في هوامشه وحواشيه، فلا يقف أحدهما في طريق الآخر، ولا يخرج النص عن مدار التخييل السردي، وهذا أمر معهود في السرد مهما كان حجمه ونوعه.
لكن الروائية اختارت أن يكون الراوي هو الذي يتدخل بنفسه ويوقف عجلة السرد ويشرع في شرح خارجي لمعلومات بدت على لسانه زائدة وثقيلة ومعطلة لسيرورة السرد والحوار والوصف، (رغم قيمتها المعرفية)، ومعطلة لتواصل الحبل الدرامي للأحداث، وهو خيار أسلوبي، وفني، يحق للقارئ أن يتساءل عنه حينما يصادفه إشكال في التلقي.
رابعاً- انقسام الشخصيات بانقسام جبهات السرد:
لقد تحكمت رواية المخطوط في الشخصيات المعنية به: فما ارتبط بالمخطوط كان رئيسياً وما ابتعد عنه صار هامشياً وسقط متاع. وهكذا انقسمت الرواية إلى روايتين لا علاقة مباشرة بينهما.. رواية من ركبت شخصياتها سفينة المخطوط، ورواية اعتصمت بجبل قصصي خارجه، وكل رواية لها علاقة خاصة بعالمها الذي لا يدخل في أية علاقة معرفية مع الآخر مع أن الرواية معرفية كما سبق ووضحنا.
لنجد أن القصة الجاسوسية المتعلقة بأسرار المخطوط السري الموجود في منطقة الأهقار بتمنراست، والمكتوب لغة تماهق الغامضة. يرتبط بمؤسسات وبارونات صيادي الكنوز في العالم، وتندرج تحت قصة المخطوط جملة من الشخصيات هي:
– جان لوكا فيرو: فيزيائي إيطالي، وهو مبعوث الوكالة الأوربية للفضاء [إيزا]. وهو من وقع بيده المخطوط التارقي الغامض المرتبط بالكنوز السرية المستهدفة في منطقة الأهقار.
– هنريك فورتسنبورغ، كهل ألماني صاحب شركة (إف-إي-سي). فيوتشر إينرجي، كوربوريشن. وهو صائد كنوز سرية عالمي يستهدف نفس الكنز الصحراوي مع شريكه وخصمه في الوقت ذاته جانلوكا فيرو.
– مهدي- عون أمن وساعي بالمركز الدولي للأبحاث الأيركيولوجية بتمنراست.
– نزيم خنخان أو خنخان جونيور ابن وزير سابق (خنخان الأب) فاسد يتنقل بين وزارات الطاقة والثقافة ويتدخل لمنح مشاريع ضخمة لأصدقاء أجانب مقابل عمولات وامتيازات وهدايا شخص.ية يولع بها. ويبيع بها مشاريع البلد. بمقابل شبه مجاني: “والواقع أن خنخان الصغير قد بدأ يرث شيئا فشيئاً نفوذ والده وقدرته العجيبة على حلب البقرة عن بعد”. وهو صاحب الصفقة المشبوهة لتسليم كنز الاهقار السري لمؤسستي هنريك وجان لوكا. دون أن يقدر قيمته وخطورته الاستراتيجية والأمنية
– يحي فرقاني- موظف بالسفارة الجزائرية بواشنطن. وشريك نزيم في بيع المشاريع الوطنية وقبض الريع.
بين هؤلاء تدور قصة المخطوط الغامض المرتبط بكنوز الأهقار السرية، في صفقة بين الشخصيتين الأوربيتين الأولتين (جانلوكا وهنريك) والمسؤولين النافذين الفاسدين بالجزائر (نزيم خنخان ويحي فرقاني).
وهي شخصيات ترتبط جميعاً بالمخطوط السري للأهقار، ومخطوطين مساعدين لكتابين لأفلاطون، هما: محاورتا “تيماوس” و”كريتياس” الشارحين لكنوز مدينة أطلانطس الضائعة، وكنوز الصحراء الجزائرية الغامضة. وكنوزأخرى حول العالم.
ويمكن أن نسميها هنا شخصيات المخطوط والكنز. نظراً لارتباط وجودها بهاذين المعلمين السرديين اللذين حددا نوع الرواية.
وهناك فريق آخر من الشخصيات منفصل عن المخطوط والكنز، ويمكننا تسميتها بالشخصيات الدعائية، المرتبطة أكثر بوسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ولا ترتبط بالشخصيات الأولى إلا بالدعاية أو مكالمات هاتفية نادرة. مما جعلها تؤسس لعلاقاتها ضمن رواية ثانوية في مقابل فريق الرواية الرئيسية لشخصيات المخطوط والكنز.
من أبرز الشخصيات الدعائية المرتبطة بالإعلام والشبكات التواصل نجد
– الحاج علاوة زغدودي، وهو مدير مؤسسة الحق الإعلامية وجريدة الحق إحدى أوسع الصحف الصفراء انتشاراً، وترويجاً للضجات الإعلامية. وهو الذي يملك خيطاً من التواصلات الهاتفية مع المسؤولين الفاسدين من فريق المخطوط والكنز. وتحت غطاء مؤسسته نجد بقية الشخصيات الثانوية، منهم:
– السعيد شكيكن عامل بمؤسسة الحق الإعلامية،
– الصحفة رتيبة (رتاج، في الفيسبوك) صحفية بجريدة الحق. ولها خط فيسبوكي يربطها بمهدي عون الأمن ب والساعي بالمركز الدولي للأبحاث الأيركيولوجية بتمنراست.
– رومايصة خرنوني متشاعرة من رواد الفيسبوك، وعدوة رتيبة افتراضياً.
– ميلود: مصور بجريدة الحق
وتبني شخصيات هذا الفريق الدعائي فيما بينها رواية موازية للأولى ولا ترتبط بها إلى بخطين دعائيين الأول هاتفي بين الحاج علاوة من الفريق الثاني مع يحي فرقاني موظف السفارة الجزائرية بنيويورك من الفريق الأول. والخط الثاني بين رتيبة من الفريق الثاني بمهدي من الفريق الأول. لكنهما رابطان شخصيان وليسا عمليان مؤثران في أحداث النص.
لذ فقد بقيت قصتي الفريقين منفصلة حتى النهاية بسبب المدخلات التوثيقية الكثيرة الي فصلت بينهما، وأبرزها:
– الاعتماد على تقنية الكولاج (اللصق النمطي)، لتفاصيل حياة الشخصيات بشكل متوال دون مراعاة العلاقة بينها (ص106)، مما جعل مقاطع النص وفقرات شذرات متجاورة وليست فقرات متسلسلة ضمن خط نامٍ.
– نقل صفحات كثيرة وطويلة من الوثائق الملحقة بالنص على نحو فصم العلاقة بين ما قبلها وما بعدها من أحداث، (قطع الحبل الدرامي) مثل قراءة هنريك لكتاب تيمايوس لأفلاطون التي نقلت منها الكاتبة نسخاً لصقاً ثلاث صفحات ونصف.
– نقل 12 صفحة كاملة من المنشورات الفيسبوكية المتتالية من ص 85 حتى ص 96، كان يقرأها يحي فرقاني موظف السفارة الجزائرية بنيويورك من حاسوبه.
وغيرها من الملصقات السردية التي شوشت سيرورة الأحداث وقطعتها شذراً.
هذا فضلاً عن خلق فجوات سردية عدة نتيجة الغوص في علاقات شخصية بين شخصيات ثانوية وأخرى هامشية لا مغزى من ورائها ولا مبرر لوجودها بين الأحداث سوى إضافة إضافية مجانية للرواية، وإبطاء حركية السرد الثقيلة بالأساس منذ بداية النص: مثل الدخول المفاجيء في معترك تصفية حسابات داخل الوسط الثقافي، بخلفيات ضيقة وتفاصيل تافهة ومرضية، بين الصحفية رتيبة والشخصية المتشاعرة رميصاء خرنوني مما خلق فجوات طمست الموضوع والأحداث الهامة التي كان يتابعها القارئ قبل هذا الفاصل المجاني.(ص256)،
بل إن هناك شخصيات بأكملها تبدو مجانية التدخل والانحشار بين الشخصيات الفاعلة في النص، مثل شخصية المصور ميلود بجريدة الحق الذي يبدو مقحماً ولم أجد له موضعاً يبرر وجوده وقصته التي لم تبدأ ولم تكتمل، حتى أن الروائية نسيت في خضم إنهاء مصائر الشخصيات أن تلتفت إليه وتمنحه نهاية ماً فبقي معلق النهاية كما البداية.
والحق أن القارئ في مثل هذه الحالات يجد نفسه في غنى عن الاحتفاظ أو متابعة تلك الشوائب والزوائد المقحمات التي بقيت أمامه دون تبرير،و تشوش نسق القراءة في ذهنه، إن لم يقم الكاتب بتشذيب نصه من الزوائد فإن القار سيفعلل ذلك، وفق معطى ثقافته، من أجل بربط ما انفصل من أحداث وما انقطع من حبل السرد ببعضه حتى تتناسق في ذهنه وتكتمل فكرته عن النص من جهة، ومحاولة إكمال تصوره لرؤية الكاتب من جهة ثانية. ولعل الكاتبة تركت كل ذلك، وفعلته متعمدة لتتقاسم مهمة بناء النص وتشكيل رؤاه وعوالمه مع قارئها الذي تحفز ثقافته بتلك الخزانة المعرفية الثرية. وهو شراكة بين الكاتب والقارئ تسمح لهذا الأخير أن يسد فجوات النص بما أنه نص مخاتل من الأسرار والألغاز والمطاردة.
وحالما يفعل القارئ ذلك تتجلى رواية ثابت الظلمة لأمل بوشارب مغامرة تخييلية رائقة متعددة الأبعاد تخييلياً وواقعياً ومعرفياً وفنياً ونقدياً للوضع الراهن وللتاريخ، وبلغة تغيب فيها الأخطاء أو تكاد، لصالح وضوح الصورة والمشهد، فلا يحس القارئ بوجود اللغة أصلاً وهو يشاهد لقطات النص وينتقل عبر فضاءاته المترامية الطرافن وينتقل بين مشاهده المترحكة. أما الانكسارات السردية والحشو المعرفي والمقحمات والشروحات التي أثقلت عجلة السرد، (كما أشرنا من قبل)، فهي رهان شاق خاصة حين يجمع الروائي في نصه بين نمطين سرديين (البوليسي والمعرفي)، فضلاً عن نمط ثالث نخلص إليه وهو نمط الرواية السينمائية.
لأن الشحن المعرفي والتوثيقي للنص خصيصة ذلك النوع من الكتابة في الرواية الموجهة للتمثيل السينمائي والمكتوبة بطريقة السيناريو التي لا يجب أن تتخلى عن أدق التفاصيل مهما كانت جانبية ومهملة، وذلك إن انتبهنا إلى موقع الراوي (الذي يحل محل الكاميرا في السينما) من الأحداث والعناية الكبيرة بالمظهر الوصفي والحركات الإيمائية وتعابير الوجه (les grimaces) أكثر من العناية بالخطاب. حيث تشعر بأن ما يرافقك في أطوار المغامرة هو ذهن سينمائي الخلفية أثناء تشكيل وهندسة النص.
وقد يكون ما يعيب الكتابة ويثقل مسارها روائياً، هو في الوقت ذاته انتصار للغة السينمائية، لكاتب يرسم مشاهده بهواجس وعيون سيناريستية، تمنح للعمل بعداً سينمائياً مشاهداً أكثر مما تطمح لبقائه بين دفتي كتاب ورقي. وهو ما نأمل أن نشاهده في هذا العمل ذو البعد المشهدي السينمائي الطاغي.
والتداخل بين السينمتائية والروائي في هواجس الكتابة ظاهرة معروفة في السرد البوليسيي عموماً وقصص الأسرار خصوصاً (والفانتازية منها بشكل أخص) التي انتقلت من الكتابة الروائية لتكتسح عوالم السينما بشكل لافت وغير مسبوق في راهن منجزاتها، وقد يمنح التجسيد السينمائي لهذا النص بعده البليغ، بخطابه الحالي إن وجد من يستلهم طاقته الخطابية والوصفية، وخزانته الثقافية والمعرفية وطاقته التعقيدية والتشويقية التي منحت التفوق للمشهد على حساب
اللوحة السردية.

*- أمل ل بوشارب. “رواية ثابت الظلمة”، منشورات الشهاب، ط1، 2018.
——————-
*-الأمين بحري

[/dropcap]