الرئيسية / الرئيسية / رسالة من الشهيدة حسيبة بن بوعلي إلى والديها (15 سبتمبر 1957)

رسالة من الشهيدة حسيبة بن بوعلي إلى والديها (15 سبتمبر 1957)

الشهيدة حسيبة بن بوعلي

تقديم مليكة القورصو

ترجمة صلاح الدين الأخضري
تحمل هذه الرسالة التي كتبتها حسيبة بن بوعلي أثر التضحية العظمى لجيل بأكمله. فهي تشهد على الجحيم المضاعف الذي كان، ولكنها أيضا نصيب سكان القصبة اليومي: معاناة “معركة الجزائر” المزعومة والسّرّية، ولكنها أيضا تحمل أملا في رؤية الجزائر يوما حرة مستقلة.
وهذه الرسالة المؤرخة في 15 سبتمبر، أي 23 يوما قبل اغتيالها يوم 8 أكتوبر 1957، إلى جانب الشهداء الآخرين علي لابوانت ومحمد بوحميدي وعمر الصغير، هي آخر أثر حيّ من حسيبة التي ماتت ممزقة بقنبلة وضعها في القصبة في الرقم 5 بنهج عبد الرحمان مظليو فرقة الجنرال ماسو الأولى. وعدا هؤلاء الشهداء الأربعة، فقد لقي الموت أيضا سبعة عشر آخرون على الأقل بينهم أربع فتيات يتراوح سنّهن بين الرابعة والخامسة.
وقد كان لي في إطار عمل أنجزه منذ سنوات عديدة عن المرأة الجزائرية والثورة أن اطلعت سنة 2010 على بعض الوثائق كان يلزم الحصول على ترخيص للاطلاع عليها ولكن ذلك لم يعد إجباريا منذ 2012، وقد كانت محفوظة بالقسم التاريخي للجيش البري في “فانسان”. العلبة رقم 1H1245 التي تحمل عبارة “الشبكة الخاصة بالقنابل” وتتضمن عدة ملفات بينها الإضبارة 1H1245/D3 التي توجد فيها رسالة الشهيدة حسيبة بن بوعلي، “صغرى” مجاهدات القصبة.
كيف وقعت هذه الرسالة بين أيدي المظليين؟ ثمة مؤشرات تاريخية تجعلني أعتقد بأن هذه الرسالة قد عُثِر عليها بين الوثائق التي ضُبِطت في مخبأ ياسف سعدي عند توقيفه رفقة زهرة ظريف يوم 25 سبتمبر 1957 فجرا في الرقم 3 بنهج كاتون بالقصبة. وهذه الرسالة الرقيقة الكتابة المنتظمة على ورق ذي مربعات صغيرة من أربع صفحات كاملة موقعة بصورة واضحة باسم كاتبتها “حسيبة”.
وهي تحمل في سطرها الأول العلامات الآتية بحروف كبيرة :
– قطاع الجزائر الساحل، وسمكها ميليمتر واحد تقريبا على أقصى يسار الورقة.
– في وسطها رقم تعريف داخلي ق.ت.ج.ب 2 9 2 6 بسمك سنتمتر واحد تقريبا بالأحرف الغليظة بأرقام منفصل بعضها عن بعض كما لو وُضِع كل رقم بختم.
– وأخيرا على أقصى يمين الورقة بأحرف غليظة سمكها سنتمتر واحد عبارات DOP./ZNA .

السطر الثاني بأحرف مرقونة:
وثائق تخص نشاط عمار علي المدعو “علي لابوانت”
السطر الثالث بأحرف مرقونة:
بين الـ (كذا في النص) 24/09/57 (توقيف ياسف سعدي) ووفاته في 08/10/1957.
يذكر أن هذه العبارات لا توجد في الوثائق الأخرى من الصنف ذاته مما يشكل العلبة 1H1245. وحدها أرقام التعريف الداخلي الخاصة بالقسم التاريخي للجيش البري والأرقام المخطوطة تتغير من وثيقة لأخرى.

السطر الخامس
بعد السطر الرابع المتضمن مكان وتاريخ رسالة حسيبة بن بوعلي يبدو في الوسط لكن مع ميل نحو اليسار الرقم 9 مكتوبا باليد ومحاطا بدائرة مرسومة من اليمين إلى اليسار.
هذه الرسالة التي لم تصل قطّ إلى صاحبها هي النسخة المصورة عن النسخة التي عثر عليها في الإضبارة 1H1245/D3. وقد تم استظهار هذه الرسالة بعد 57 سنة من استشهاد حسيبة بن بوعلي بمناسبة اللقاء الذي نظمته كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية لجامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف يوم 11 مارس 2014.
ولتخليد ذكرى هذه الشهيدة وجميع الشهداء والشهيدات اقترحتُ أن تتلو هذه الرسالة بعد ترجمتها إلى العربية كل يوم 8 أكتوبر تلميذة في عموم مؤسسات التربية الوطنية وطالبة في الجامعات والمراكز الجامعية التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
…………………………………………………………………………………………………
الجزائر في 15 سبتمبر 1957
والديَّ العزيزين
تلقيتُ بعض أخباركم بصورة مقتضبة من والدة الأخ “سي عبد الرزاق”. يبدو أنكم بحال حسن. ذلك ما أرجوه من كل قلبي. لقد مضى نحو تسعة أشهر لم نتواصل خلالها. وقد سبّب لي ذلك قلقا رهيبا. ذلك أنني كنتُ أعلم أنكم منزعجون بسببي، وأن الشرطة لا تكاد تغادر البيت، وكان مستحيلا عليّ الكتابة لكم، أو إرسال أي شيء إليكم. كم أرغب في لقائكم من جديد. لقد أضنيتكم بصورة رهيبة. لا يكاد يمضي يوم إلا وأنا أفكر فيكم. أحلم بكم كل ليلة تقريبا. لقد مرت بنا أوقات عصيبة جدا، وحتى الآن لا تجري الأمور بصورة حسنة، ولكن ذلك لا يؤثر في شيء، فنحن كلنا عزيمة، وثمة إخوة يستشهدون كل يوم ليقودوا الوطن إلى الحرية. سمعت بأنكم غيرتم المسكن وقد استغربت لذلك، ولكن ذلك في النهاية ممكن جدا، وإن الفضول ليدفعني لمعرفة مكان إقامتكم الحالي، وكيف هو بيتكم الجديد. ثمة مع ذلك شيء يزعجني. لم يعد بوسعي تصور عيشكم كما كنت أفعل سابقا. فأنا على الدوام أحدث نفسي قائلة: “لابدّ أنهم الآن حول مائدة الطعام” ثم أرى كل واحد في مكانه. لالّة وطاطا زهية معكم طبعا، إذ هما لا تملكان مكانا آخر لتذهبا إليه، بما أن عمَّيَ كليهما يعيشان خارج الجزائر. بالمناسبة، هل تملكون أية أخبار عنهما؟ أهما يكتبان لكم؟ ما أصعب الشوق إلى الأهل حين نكون بعيدين عنهم. تعلمون أنني مطلوبة كثيرا من الشرطة هنا في مدينة الجزائر فيستحيل عليّ إذن فعل أي شيء. ولذلك فقد قررت – بل هو واجبي – الذهاب إلى جبهة القتال حيث أعلم أنني أفيد كممرضة أو حتى – وهو ما أرجوه من كل قلبي – أن أقاتل والسلاح في يدي. صحيح أن الطريق سيكون وعرا للوصول إلى جبهة قتال، ولكنني آمل بعون الله بلوغ ذلك سالمة معافاة. لا تقلقوا على الأخص بشأني، ينبغي التفكير في الصغار الذين عليهم العودة قريبا إلى المدرسة، وأرجو أن يكونوا مجتهدين. لا تتصورون كم أفتقدهم، فأنا لم أرهم منذ سنة، لابدّ أنهم كبروا، وخاصة صغيري محمد، أما يزال مشاغبا كعادته؟ أهو يتحدث عني أحيانا؟ أم تُراهم نسوني؟ وحارسة المبنى، أما تزال ثرثارة؟ أما ستّي فقد لا أتعرف عليها الآن، فقد أصبحت شابة حقا. أرغب في الحصول على صورهم وصوركم أيضا. سأشعر بذلك بأنني أحمل معي في قلبي أسرتي كلها. أودّ رؤيتكم قبل الرحيل، لا أدري إن كنتُ أستطيع، ولكن اعلموا أنني سأبذل وسعي، إذ حين أكون في الجبهة فلن تبلغكم أخباري إلا نادرا. ولكن ربما كان “الفرج قريبا” (بالعربية)، ونكون إن شاء الله (كذا) جميعنا مجتمعين، فإن أخذنا الموت التقينا عند ربنا. إن مُتُّ فلا تبكوني، فسأموت سعيدة، أؤكد لكم ذلك. المهم ألاّ مجال لذلك، ولكن من يدري، فذلك يحدث بسرعة، وخاصة في مثل الحياة التي أحيى. حسنا، احرصوا على منحي عنوانا موثوقا يمكنني الكتابة فيه إليكم، فذلك ضروري جدا، أما أنتم فأجيبوني مع الشخص الذي يحمل إليكم هذه الرسالة. وأخيرا والديَّ العزيزين، أرجو أن تكونوا قد استلمتم الرسائل التي أرسلتها إلى طاطا سكينة. سأبذل كل وسعي لأراكم قبل أن أرحل، ولكنني لا أدري إن كان ينبغي التعويل كثيرا على ذلك. ختاما احرصوا على أن ترسلوا لي الصور التي طلبتها. أقبّلكم جميعا بكل حرارة. وخاصة لالّة وطاطا اللتين تفكران بالتأكيد في حفيدتهما، أما أنتما والديَّ الحبيبين، فليس ثمة كلمات تعبّر عن حبي لكما.

ألف قبلة
ابنتكم التي تحبكم
حسيبة