الرئيسية / الرئيسية / حسين خمري، ذاك المحاصر بالنصوص

حسين خمري، ذاك المحاصر بالنصوص

د. آمنة بلعلى

جامعة مواود معمري- تيزي وزو

حسين خمري ذاك المحاصر بالنصوص، يغادرها ويغادرنا، وينسحب من الحياة، التي أرهقه ضجيج من فيها من أدعياء العلم والأخلاق، ويحمل معه كثيرا من الرؤى التي راودته في حلّه وترحاله، حتى بات الرائي الكبير في النقد الجزائري المعاصر.

الدكتور حسين خمري

عرفته حذرا في كل شيء حتى مع الحياة التي كان يختلس الفرح منها اختلاسا، أذكر أنه كان حذرا حتى في الإفراط في الضحك عندما كنا نلتقي معه في الإقامة الجامعية بباريس أو حتى يصطحبنا إلى مكتبة العالم العربي، وكنا من فرط جزائريتنا نستدعي كل أسباب الفرح لنضحك، فيرسل هو ابتسامات خجلى، لئلا يفقد وقاره. دعانا يوما أنا والصديق بشير مخناش إلى حضور لقاء مع مشرفته جوليا كريستيفا، ولم نرها من قبل وجها لوجه، وكم أحسسنا بالغبطة وهو يناقشها ندا لند في إعادة النظر في مفهوم النص، ويؤكد لها أن مفهوم النص مركزي في الثقافة العربية، بل إن الحضارة الإسلامية بأكملها عرفت بأنها حضارة نص، وأن القرآن عد لدى علماء القرآن نصا، وكانت كريستيفا بعظمة قدرها تستمع إليه حتى خلنا أنه المشرف وأنها الطالبة.
لم يكن ذلك سوى تعبير عن إصرار الرجل على جعل أفكاره واضحة وكان ذلك ديدن المتفقهين في العلم، حتى أصبح البحث العلمي بالنسبة إليه تصوفا، ولذلك أجّل الكثير من المواعيد واللقاءات مع الحياة من أجله كما أعلن ذلك في مقدمة كتابه نظرية النص.
حدث أنه توقف عن السفر عبر الطائرة، وجاءنا إلى تيزي وزو مرتين للمناقشة بواسطة القطار، ولما سألته عن سبب ذلك قال بابتسامة يخفي فيها فوبيا ركوب الطائرة لولا القطار لما قرأت الرسالة كلها، ولما عزمناه في بيتنا سألني مازحا عن سرّ حجم قطع البقلاوة عندنا، وظل يكرّرها كلما التقينا وحتى يوم استضافنا في بيته ذكّرني بها، وهو يدعونا إلى تناول الشخشوخة القسنطينية التي افتخر ببراعة زوجته الدكتورة عليمة في طهيها.
لعلني من القلة القليلة التي اكتشفت في حسين خمري كيف يخفي وراء صرامته وجدّيته روحا مرحة رغم خجلها، لأنه كما كان يقول (لا يحب التمسخير)، وقدرت فيه ذلك لأنني أحسست أني أشبهه، ولذلك كانت الصرامة العلمية لديه مقترنة بالخوف والمسؤولية، وخاصة حين يجد نفسه أمام أدعياء العلم، وإرهاب الرداءة التي يروّج لها بعض الأساتذة.
على الرغم من أنه قضى سنوات عدة في امتلاك ناصية المناهج النقدية المعاصرة ومن أعلامها بفرنسا، ولسنوات عديدة، إلا أن ذلك لم يجعله تابعا متمرّنا على آليات لو أراد لأنزل سيلا من الأوراق منها في السوق، لأن هاجس التنظير كان يشغله، ولم يكن يؤمن بأن المنهج هو الحل لإشكالياتنا العلمية، إذا لم يتمثل الباحث المرجعيات والسياقات الفكرية والفلسفية التي تقف وراء المنهج، من أجل أن يفكك نظرياتها، فيفر حينذاك من سطوتها الإيديولوجية التي تقف رقيبا على قرائها، ويتمكن من تطويعها، ليجعلها هي التي تقترب منه وليس هو فتستمع إليه، وتتفاعل مع وجهة نظره التي استقاها من تراث نقدي رأى فيه ما لم يره في النقد الغربي، فجعل أعلامه وفي مقدمتهم أستاذته جوليا كريستيفا وجها لوجه أمام عمالقة الفكر العربي كالجرجاني وابن رشد وابن حزم والآمدي وغيرهم، ليثبت بأن الأفكار والنظريات العظيمة لا جنسية لها،وليست حكرا على الغرب، ولذلك ينبغي أن نحاورها ونفكّكها ونراودها أحيانا لكي تسفر لنا عن مكنوناتها ومفاصلها.
ولعل هذه المراودة الذكيّة هي التي جعلته يكتشف أواصر التقارب في مفهوم النص بين الفكر العربي والغربي، لتنهي به إلى تواطؤ جميل مع النص، سمح له بعد سياحة طويله في مرابعه بأن يتحدّث عن نظرية جامعة، تلخّص فهمه له باعتباره لعبة لا متناهية من العلامات مثله مثل الحياة التي يقضيها الإنسان محاصرا بالنصوص فيها كما يقول، ولذلك، ينبغي عليه كإنسان استوعب لعبة الحياة هذه أن يحرّرها، وينتجها ويلعب بها أحيانا- ومفهوم اللعب مفهوم جوهري في أطروحة الرجل- وكذلك يستهلكها، ويتزيّن بها، وتلك هي رحلة الإنسان مع النصوص كما رآها، وهي نفسها الرحلة مع الحياة التي خبرها، وفهم طبيعة العلاقات التي تجمع بين أفرادها وكره صناع الرداءة فيها، ولذلك كان أحيانا يواجه عنف الرّداءة والتملّق بعنف شفيف، يحدث ذعرا أمام كل من تسوّل له نفسه منازعته أو محاورته دون أن يتسلح بما لم يتسلح به هو، وهو العارف بخبايا النصوص والمفاهيم والنظريات دون ادعاء ولا تهريج ولا هدف للتظاهر، لأنه يدرك تماما أن الكلمة مسؤولية وأن الناقد الحقيقي هو من عليه أن يشعر بالذعر والخوف حين يجد نفسه أمام قداسة القول أو حتّى فظاعته، حينها يصبح نقد النصّ مجرد احتمال وليس حقيقة ندافع عنها وننتصر لها، ونفتخر بها. لقد شغلت حسين خمري مسألة التمثل الواعي للمعارف واستيعاب سياقاتها الفكرية والثقافية بكثير من المقاومة التي مكّنته من معرفتها وتفكيكها وجعلها مطواعة مستسلمة له، لينتهي إلى صياغة خاصة بإنتاج معرفته هو، ومحاولة بسطها للقارئ، وقد كان ممن يحترمون القارئ، فيستحضر حالاته المختلفة سواء الطالب الذي يدرسه أو الباحث الذي يناقشه، أو الأساتذة الذين يتوجّه إليهم في محاضراته أو القارئ لكتبه النقدية العالمة المتبصرة التي تعكس نموذجا نقديا شغلته الفكرة فسعى إلى توضيحها وشغلته العلامات فعمد إلى استنطاقها وألهمته النصوص التي حاصرته، فعاش في منظومتها العلامية متصوّفا فيها، متنقلا بين مقامات الدوال ممتطيا أحوال المدلولات، مقتفيا أنساقها المضمرة، تاركا بعد انسحابه من الحياة فراغا لا يمكن أن يملأه أحد.