الرئيسية / الرئيسية / جناية السينما على القصبة: نمطية المتاهة المليئة بالموبقات

جناية السينما على القصبة: نمطية المتاهة المليئة بالموبقات

 

مهدي براشد

يَا بَهْجَتِي قَالُوا لَكْ بَلْلِي انْتِ مَبْنِيةْ فُوقْ الجْزِيرَهْ الْخَضْرَا؟

وَالْجْبَلْ مُولْ الْقَمْقُومْ الابْيَضْ رَاهْ مْسَامِيكْ عْلَى الشَّفْرَهْ؟

قَالُوا لَكْ بَلْلِي مَعْدَنْ الْحَيَاةْ حَجْرَهْ نْفِيسَهْ عَنْدْ الْقَلْبْ الْلِي يَقْرَا؟

مَنْ قْرَاكْ قْرَا الْحْيَاةْ يَا بَهْجَتِي، وَالْلِي قْرَا الْحَيَاةْ مَنَّكْ مَا يَبْرَا.

شعر حيمود براهيمي (مومو) في “فيلم تحيا يا ديدو” للمخرج محمد زينات

منذ أسابيع قليلة احتلفت الجزائر بالذكرى الخامسة والخمسين لاستقلال الجزائر، بعد سبع سنوات من كفاح الجزائريين في شتى مناطق البلاد قرى ومدن، وعلى شتى الجبهات مسلحة كانت أو اجتماعية أو ثقافية. ولأن لمدينة الجزائر خصوصية بين باقي مناطق البلاد، لأنها كانت عاصمة المحتل في مستعمرته، وكانت تضم أكبر مستوطنة تمركز فيها المعمر الفرنسي، ولأنها أكبر تجمع سكاني للجزائر، كان حضورها في الثورة التحريرية حضورا متميزا ترجمته عسكريا “معركة الجزائر” (1956-1957).

وعلى الرغم من الصدى الكبير الذي أحدثته معركة الجزائر إعلاميا وسياسيا، باعتبارها منعطفا نوعيا في الثورة التحريرية نقل رحى حرب غير متكافئة بين طائرات ومدافع جيش الاحتلال وبين بنادق ورشاشات جيش التحرير من الجبال والريف الجزائري إلى مدينة تتواجد فيها كل الهيئات الاستعمارية الرسمية ووسائل الإعلام الفرنسية والدولية، إلا أن حظ مساهمة مدينة الجزائر (والمخصوص هنا حي القصبة العتيق الحاضن لزهاء 60 ألف نسمة آنذاك) من المكانة في الإنتاج السينمائي كان جد محتشم. وحتى الأفلام القليلة التي جعلت من هذه المدينة مادة خصبة للاستثمار الفني السنيمائي، لم تنصف المدينة ولا أهلها، فبقيت رهينة رؤية كلونيالية للمدينة العربية وصمتها بشتى الموبقات، وكأن المدينة لم تكن محج الجزائريين من كل جهات البلاد، ولم يتقرر بأحد أحيائها الفاتح نوفمبر 1954، ولم تكن يوما ملجأ لمعظم قيادات الثورة ولو لبعض الوقت.

“بيبي الموكو”: القصبة ونمطية السينما الكلونيالية

شكلت قصبة الجزائر، منذ عشرينيات القرن الماضي، مادة دسمة للسينما الكلونيالية، إما بوصفها حيزا جغرافيا وطبوغرافيا شرقية بمنظور استشراقي، وإما سياقا زمكانيا لأحداث الفيلم. فكانت في أفلام ديكورا في استديوهات باريس، أو اتخذت حقيقة استديو للتصوير في أفلام أخرى.

في عام 1922 اتخذ المخرج “لوي ميركانتون” بمعية “ريني هرفيل” مدينة الجزائر وميناءها فضاء لفيلم “المرعب ساراتي” المقتبس عن رواية لـ “جان فينون”، وهو الفيلم الذي أعاد إخراجه، في 1937، مخرج فرنسي مولود بالجزائر هو “أندري هوغون”، لكنه صور معظم مشاهده في الاستديوهات الباريسية.

وفي 1934 زار المخرج الفرنسي “جوليان دو فيفيي” الجزائر العاصمة على رأس كوكبة من الممثلين المعروفين (جان غابان، هاري بور، إدويغ فويير)، ومعه إمكانيات ضخمة لتصوير فيلم “غولغوتا”، واتخذ من القصبة ديكورا لبيت المقدس لتصوير فيلم عن جزء من حياة المسيح. وكانت الزيارة نقطة انعطاف في مسار هذا المخرج الذي سيقلب السينما الفرنسية رأسا على عقب. لقد أوحى حي القصبة لجوليان دو فيفيي بفيلم ستدور كل أحداثه داخل حي القصبة هو فيلم “بي. بي الموكو”.

يقرأ النقاد الفرنسيون “بي بي الموكو” (1937) الذي صورت معظم مشاهده في استديوهات “باتي سينما”، وبعض المشاهد العامة في حي القصبة ومدينة مرسيليا على أنه “شبه قطيعة معينة مع الايديولوجيا التي كانت تطبع السينما الكلونيالية القائمة على محاسن الاستعمار، وضرورة تمدين السكان الأصليين، وتمسيحهم أصلا”، وأن “أهميته في تلك (الواقعية) أكثر مما هو إدانة مستحيلة أو وصف للظاهرة الكلونيالية”.

غير أن الفيلم يجعل من القصبة، على خلاف حقيقتها آنذاك، ورغم الفقر والفاقة التي كان يعانيها أكثر من 50 ألف جزائري داخل أزقتها، متاهة موبوءة لا حياة فيها إلا للصوص وقطاع الطرق والهامشيين الجانحين الشحاذين والمومسات، هجين من الخلق أتى من كل أصقاع العالم، عرب ويهود وإيطاليون وإسبان ومالطيون ويونان وحتى صينيون… وأزقتها وسلالمها طرق لا تؤدي إلا إلى حانة وخمارة أو ماخور.

في قصبة “بي بي الموكو”، لا وجود لمساجد ولا لمدارس قرآنية، لا وجود لحياة اجتماعية أو ثقافية، ولا وجود لشعب يشقى من أجل لقمة العيش، لا وجود لأسرة جزائرية في بيت جزائري، ولا حديث عن ظلم الاستعمار. حتى أن المخرج دو فيفيي، وإن أشرك الموسيقار الجزائري محمد إيغربوشن في إنجاز الموسيقى التصويرية إلى جانب “فينسون سكوت”، آثر ألا يشرك أي جزائري في التمثيل، واقتصر ظهور الجزائري في الفيلم على “الكومبارس”.

القصبة برواية المفتش مونييه

حين يقف المفتش “مونييه” أمام محافظ الشرطة لمدينة الجزائر ومساعديه، ويبدأ في شرح صعوبة القبض على بي بي وهو داخل القصبة،  يصفها من “مشهد من فوق يبين حي الجزائر الذي نسميه القصبة، عميق كما الغابة، يغلي كجحر النمل، ودرجات طويلة فوقها أسطح، كل سطح درج يفضي إلى البحر. وبين درجاتها أزقة ملتوية مظلمة، أزقة على شكل مصيدة، وأخرى تتقاطع، وأزقة فوق أخرى، وأزقة تتعانق بشكل فوضوي مشكلة متاهة متشعبة. أزقة بعضها ضيق وبعضها مسقف كأنها أقبية. وفي كل جنب وفي كل جهة درجات، وعقبات كأنها سلالم، ومنحدرات تفضي إلى هوات مظلمة بروائح كريهة، وأروقة أرهقتها الرطوبة، مظلمة…، شوارع خالية يسكنها الصمت، شوارع بأسماء غريبة (“شارع العجز”، “شارع مدينة السمسم”، “شارع فندق العسل”، “شارع بوعقاشة”). إنهم أربعون ألف في حيز لا يحتمل إلا 10 آلاف. أربعون ألف أتوا من كل مكان، من آتى قبل الفتح، الذين جاءوا من الماضي البربري، وأحفادهم الشرفاء التقليديون، بالنسبة إلينا غامضون. قبائل، صينيون، غجر، الذين لا أصل لهم، سلافيون، مالطيون، سود، سيسيليون، إسبان، ونساء… نساء من كل البلدان، بكل الأشكال، طويلات، بدينات، قصيرات، دون سن، دون شكل، مبتذلات شحما حيث لا أحد يجازف… بيوت بساحة داخلية، منعزلة كما خلية نحل دون سقف، تسمع الصوت فيها وكأنك في بئر، متصلات ببعضها البعض بأسطح متنضدة فوق بعضها البعض حتى البحر”.

هكذا يصور المخرج دوفيفيه القصبة مدينة يحيا فيها الجزائريون تماما كما القطط والفئران. ولم يشذ المخرج الأمريكي “جان كروموال” عن القاعدة حين صور فيلمه “ألجيرس” في 1949 الذي كان نسخة أخرى من “بي بي الموكو”، من تمثيل “شارل بوير” و”هيدي لامار”. سيناريو “جاك ريمي” ضابط في الاستخبارات لدى الجنرال ديغول. كما لم يشذ ضابط البحرية الفرنسية المخرج “جورج بيشه” عن القاعدة، في 1950، حين مجد البحرية الفرنسية من خلال تصوير قصة “كازا بلانكا” الغواصة التي اتجهت من الجزائر لتحرير كورسيكا”، فصور الميناء ومدينة الجزائر  مدينة ميتة.

معركة الجزائر.. بونتيكورفو ودليله ياسف سعدي

بعد 30 سنة عن فيلم “بي بي الموكو”، يقترح ياسف سعدي على المخرج والثوري الإيطالي “جيليو بونتي كورفو” نصا من الذاكرة كتبه حين كان في سجن “فران” بباريس، عنونه “ذكريات من معركة الجزائر”، أراد أن يحوله إلى فيلم. في تلك الأثناء كان جيليو بونتيكورفو ينوي إنجاز فيلم حول “المنظمة السرية” (أو. أ. أس)، واختار الممثل الأمريكي “بول نيومان” لأداء دور صحفي يأتي الجزائر لتغطية الأحداث. واستطاع ياسف سعدي إقناع بونتيكورفو بالفكرة التي تولى كتابة السيناريو لها الكاتب والسيناريست “فرانكو سوليناس” تحت عنوان “معركة الجزائر”.

الفيلم أحدث ضجة كبيرة، ليس فقط لأنه يعالج جزءا من ثورة عظيمة انتهت منذ فترة قصيرة جدا وتأثيراتها على حركات التحرر في العالم بدأت، ولا لأنه يثير مسائل تاريخية على رأسها ما كان يمارسه مظليو الاستعمار الفرنسي من تعذيب في حق الجزائريين، إلى درجة أن الفيلم منع من العرض في الدور الفرنسية لمدة 4 سنوات، بل لأنه كان فعلا، فيلما مدهشا سينمائيا وتقنيا.

غير أن الفيلم، وعلى الرغم من نفحات الواقعية الإيطالية فيه، وعلى الرغم من المدة الطويلة التي قضاها فريق التصوير في القصبة (4 أشهر كاملة)، وعلى الرغم من أن مفتاح الدخول إلى القصبة كان أحد أبنائها ياسف سعدي، إلا أن الفيلم لم يستطع التخلص من تلك الصورة النمطية والكلونيالية التي طبعت حي القصبة، منذ “بي بي الموكو”.

صحيح أن فيلم “معركة الجزائر” لم يكن فيلما لتصوير مناحي الحياة في تلك الفترة (خمسينات القرن الماضي)، وكان عنوانه الظاهر هو تصوير سنة من العمل الثوري في مدينة الجزائر، وعنوانه الباطن رغبة ياسف سعدي الذي كان شريكا في الإنتاج وأحد أبطال الفيلم في إبراز دوره هو بالذات في هذه المعركة. إلا أن كلا العنوانين لم يكونا بمعزل على الواقع الاجتماعي والتاريخي لحي القصبة. وباستثناء مشهدين اثنين، مشهد زواج يشرف عليه مناضلون في الجبهة، ومشهد الطفل الصغير يبيع الجرائد ويهتف فرحا في وجه شيخ معمر “جبناها”، لا وجود لجزائريين ولحياة جزائرية، لا في أزقة القصبة ولا داخل المنازل.

كأن بونتيكورفو استعار كاميرا دوفيفييه لتصوير مناحي الحياة في حي القصبة، محشاشات، بيوت دعارة، مومسات تصطفن على درجات حي القصبة الطويلة، وقوادين من أمثال “حسن العنابي”. حتى علي لابوانت، يصر الفيلم على التذكير بأنه آت من محيط القوادين والدعارة، وهو ليس أميا لا يعرف القراءة والكتابة وفقط، بل حتى وهو ثوري يتصرف بسلوك الهوزي (مشهد ضرب أحد الأشخاص على الوجه بسبب تناول الحشيش). كما يصوره متهورا لا يفهم سوى لغة السلاح (مشهد إخراج سكان القصبة في احتجاجات بعد تفجير محافظ الشرطة وأصدقائه منزلا بأعالي القصبة وسقوط عدة ضحايا من الجزائريين). أكثر من ذلك ينزع من كل المناضلات واضعات القنابل أسماءهن، فلا يسمهن لا بأسمائهن الحقيقية ولا بأسماء مستعارة.

هكذا هي القصبة في “معركة الجزائر” دائما متاهة للموبقات يختبئ فيها “جعفر” وأصدقاؤه هربا من مظليي الجيش الفرنسي، مثلما يختبئ فيها “بي بي الموكو” هربا من البوليس الفرنسي.

قصبة أولاد نوفمبر: مراد، عمي العربي الكوردونيي ومولود الطباخ

بعد “معركة الجزائر”، كان علينا انتظار عشر سنوات من أجل مشاهدة فيلم آخر عن القصبة. في 1976، في الحي نفسه وفي الفترة نفسها، أي فترة ثورة التحرير، يخرج موسى حداد “أولاد نوفمبر”، لكن قصبة أولاد نوفمبر لم تشبه قصبة “بي بي الموكو” ولا قصبة “السي جعفر” (الدور الذي لعبه ياسف سعدي)، لم تكن قصبة أولاد نوفمبر، رغم أزقتها الضيقة وساباطاتها وسلالمها المتشعبة، مظلمة، ولا قذرة.

في قصبة “أولاد نوفمبر”، لا نجد المومسات أمام الأبواب، ولا القوادين والهزية، بل نساء بالحايك، وفي بيوتهن، مثل أم مراد و”جميلة” التي “مرمدها البوليس من أجل معرفة علاقة زوجها بالخاوة ولم تنطق بكلمة”، نجد جزائريين يعملون ويقاومون الظلم، نجد الطفل “مراد بن صافي” وآخرين من الأطفال أمثاله من بائعي الجرائد، وآخرين اضطرهم ظلم الاستعمار وتجهيلهم إلى امتهان مسح الأحذية لإعالة أهلهم. نجد “عمي العربي” الإسكافي المناظل، “السي مولود الطباخ”، “السي احمد بن صافي” والد مراد الذي قطعت رجله حين كان حمالا في ميناء “باب دزيرة”، والشيخ “عمي صالح” الكفيف الذي صعد ابنه إلى الجبل وامتهن هو صناعة المكانس لكسب قوته.

ولعل باستثناء “أولاد نوفمبر”، وفيلم “تحيا يا ديدو” للمخرج محمد زينات الذي ملأه شاعرية عاشق هذه المدنية حيمود ابراهيمي، بقيت قصبة الجزائر رهينة هذه الصورة النمطية التي انتشرت بين جيل الاستقلال، وحتى فيلم “الهزي” (الفتوة) للمخرج “عبد القادر بورتيمة” حين صور قصبة الاستقلال صورها مدينة للهزية الذين يعيشون على التهريب وظلم الناس الضعفاء والمخدرات، في المحشاشات والحانات. وحين يأتي الوعي لا يأتي إلا من مغترب (أخ الهزي) عاد من فرنسا إلى الحي العتيق.