الرئيسية / اكاديميا / تجربة شعر الهايكو العربي من خلال رواده

تجربة شعر الهايكو العربي من خلال رواده

ا.د. آمنة بلعلى

جامعة مولود معمري

تيزي وزو-الجزائر

أتقاسم معكم أصدقائي وخاصة مع الذين لم يطلعوا على كتابي خطاب الأنساق بحثي عن تجربة شعر الهايكو العربي من خلال رواده الثلاث عاشور فني من الجزائر، محمدالأسعد من فلسطين وعذاب الركابي من العراق.

استيراد الشكل وتفاعل الهويات

نسائل في هذا المبحث المبررات الفنية والتاريخية والثقافية لاستعارة تجربة الهايكو الياباني Haiku في الشعر العربي المعاصر وكيف تم التعامل معها؟ هل أفرغت من هويتها واستعيرت بوصفها شكلا فقط؟ أم بوصفها نصا ثقافيا احتفظ بهويته الأصلية وجرّ معه مضمون الحضارة اليابانية؟
كيف تعالقت الهويتان العربية واليابانية من خلال قصيدة الهايكو؟ وهل أسهمت هذه التجربة في خلق تفاعل ثقافي بين الأمّتين؟ هل كانت هذه التجربة كافية في التعريف بالأخر؟ وما مدى الإضافة التي قدمتها هذه التجربة إلى الشعر العربي؟ وكيف تم استقبال هذه التجربة عند المتلقي العربي وكيف قرأت ؟ وهل تطلبت إجراء نقديا أم خضعت لما يخضع له سائر الشعر العربي؟ وذلك من خلال ثلاثة نماذج من رواد التجربة في العالم العربي هم : محمد الأسعد من فلسطين وعذاب الركابي من العراق وعاشور فني من الجزائر
لا شك أن الحوار الذي جرى ولا يزال قائما حول الهوية تحكمت فيه عدة إشكالات في الثقافة العربية، لعل أهمها؛ قضية الإبداع ومسألة الحداثة الشعرية، التي لازالت تثير أسئلة تتوزع على ثنائيات أصبحت اليوم تقليدية كمسألة الإتباع والإبداع، والتقليد والتجديد، والأصالة والمعاصرة وغيرها من الثنائيات التي ظلت تشكّل الفكر العربي حتى بعدما انشغل الغرب بمسائل اعتقد أنها ما بعد حداثية، وكان هدم الثنائيات ديدنها باعتبارها تشكل مركزيات ينبغي التخلص من تمظهراتها مثل إلغاء الآخر واستغلاله وفرض الهيمنة الشاملة اقتصاديا وثقافيا وسياسيا.
في ظل هذه السرديات الكبرى طرحت في الفكر العربي المعاصر مسألة الهوية، ووجهت الصراع الذي بدا حادا مع قصيدة التفعيلة التي اعتبر دعاتها التحديث الشعري انسلاخا عن التقاليد واستبدالها بما اعتقدوا أنها فتوحات لإبداع جديد، ثم قلت حدة الصراع مع قصيدة النثر وها هو اليوم لا يكاد يبين في ظل ما سمي بحوار الحضارات.
لقد كان الصراع حول الهوية، دوما، مدعوما بالطرح الإيديولوجي الذي خفّ تأثيره أو تغيرت ملامحه بفعل السعي البراغماتي للفكر المعاصر، الذي وجه الاهتمام إلى التنمية الاقتصادية كما وجه الثقافة أيضا وجهة مختلفة تحكمها أنساق إبستيمولوجية تبحث في “كيف نفكر؟ بدل “في ماذا نفكر؟ لتصبح الإيديولوجيا خادما للإبستيمولوجيا، وكان من مظاهرها، طرح فكرة حوار الحضارات الداعية إلى قبول الآخر والاعتراف بتاريخ الحضارات الأخرى والتعرف على إنجازاتها، ومن ثم، خلق إمكانية للتعايش وخاصة في ظل ثورة الإعلام والاتصال التي”لم يسبق للتاريخ أن شهد لها مثيلا، فقد جعلت المعمورة في حجم قرية صغيرة، وعملت هذه الوسائل على توصيل المعلومات إلى كل مكان وإلى كل إنسان، بحيث أصبح الإنسان يفكر في إطار الفكر الجماعي للبشرية كلها، فتقاربت الأفكار وتعارفت الثقافات والديانات”
غير أن الحداثة وضعتنا في إشكالات لا حصر لها؛ حيث انشغل العرب بنتائجها أكثر مما انشغلوا بمعاينة أشكالها وألوانها وعلاقاتها بالهوية، ومن هنا فالإشكال الجوهري في الحداثة الشعرية العربية متعلق بمدى تعبيرها عن رؤية العربي المعاصر للحياة والوجود والأنا والآخر، وهل الأشكال التي خاص الشعراء في تجريبها وخاصة تلك التي استمدت معالمها من الأنماط الغربية عبّرت عن وعي مغاير لما ساهمت به هذه الأشكال التعبيرية، في تشكيل الذائقة الشعرية الغربية، أم هي مجرد تقليد وبمعنى آخر، هل ساهمت هذه الأشكال في تغيير الذائقة العربية، وإحداث القطيعة التي تنبأ بها الحداثيون العرب وسعوا إلى إرساء دعائمها تنظيرا وإبداعا مثلما فعل أدونيس ويوسف الخال وغيرهما من جماعة شعر، أم بقيت مجرد تجارب تساير طروحات ما بعد الحداثة التي ما فتئت تغيّر أشكالها وبطريقة سريعة ومذهلة لم تترك للمنظرين ولا للنقاد فرصة حصر ملامحها، الأمر الذي يفسّره غياب نظرية نقدية عربية تسهم في تكوين الفعل النقدي الكوني وإنشاء معرفة مشتركة،
وأمام هذا التجريب المتسارع تستوقفنا مجموعة من الأشكال الكتابية الجديدة التي تزاحمت وحاصرت الذائقة العربية وأربكتها وصدمت آفاق انتظار القراء، ولقد كان لمنظري الحداثة وخاصة مؤسسي مجلة شعر دور كبير في قيادة الشعراء إلى الخوض في إشكالية تضع هوية الشعر ذاته موضع تساؤل قبل سؤال خصوصية الذائقة الشعرية العربية، مثل ذلك ما كتبه أدونيس ومريدوه، وما يكتبه البعض الآخر استنادا إلى دعاوى انمحاء الأجناس أو تفاعلها أو عبور التخصصات وغيرها من المفاهيم المرتبطة بما سمي بالنهايات والما بعديات والتجريب والتجاوز والتفكيك وغيرها من الأفكار التي فرضها سياق تحوّل العالم من حولنا، الأمر الذي يعني أن التوجه إلى التجريب هو نتاج تحولات خارجة عن الأدب والنقد، وتمت المراهنة على مسائل فرضتها الوسائط التكنولوجية الجديدة كالشكل والصورة وكل ما له علاقة بالإشارات البصرية الإيقونية والطوبوغرافية للأشكال استنادا إلى ما فرضته نظريات الفضاء والسيمياء وغيرها.
وجد كثير من الشعراء في هذا التعابر شكلا من أشكال الخروج من الهيمنة والنمطية أو بلاغة الكذب، وهو خروج يسعى إلى تشكيل هويات جديدة للشعر العربي بلغت حد الإعلان عن موت البلاغة والإيقاع بل ربط الشعر بمفهوم الراهنl’actuel وهو الحاضر الذي لا يحضر أو الحاضر الذي يوشك أن يحضر في عرف التفكيكيين، لأن كل حاضر مرشح للانقضاء، وهذا يعني أن الشعر الذي يتبنى هذه الفلسفة هو شعر يوشك أن يكون شعرا من حيث هو تعبير عن راهن لا يعبر عن واقعة بقدر ما “يوشك الحاضر أن يأتي به، ثم يتراجع عنه، إنه صيرورة الزمن الآخر، أو الصيرورة الغير، هذا الخارج الذي يحتاجه الداخل، ولكن شرط أن يظل خارجيا عنه، يظل من الأغيار”
عادة ما ينظر إلى الأشكال الجديدة على أنها مجرد مغامرات تجريبية سرعان ما تؤول إلى زوال ولعل ما وجه لقصيدة التفعيلة في الخمسينيات من انتقادات ونقاشات على صفحات مجلات “شعر” و”الآداب” و”الثقافة الوطنية” يدل على الطريقة التي تستقبل بها الأشكال الجديدة والتجارب التجديدية ولئن أدى ذلك النقاش إلى بروز طروحات جادة في قضية التجديد والتقليد، وأدى إلى حسم الصراع حول القديم والجديد ولو جزئيا، فإن التّسارع الذي نلحظه اليوم في ظل تكنولوجيا الإعلام والاتصال يجعل عودة ذلك النوع من النقاش بعيد المنال فالشعراء اليوم يخوضون تجارب جديدة من خلال وسائط مختلفة وليس هناك حالة ثقافية يمكن أن تحتوي هذه الطرق التعبيرية الجديدة وتناقشها بجدية. وما أن يستوي الشكل على عوده حتى يبدأ الترويج له باعتباره ظاهرة طبيعية تعبر عن سيرورة تاريخية، ومثال ذلك قصيدة النثر التي حصلت على شرعية وجودها وتوفرت لها أسباب البقاء وأصبح لها أعلامها وأتباعهم.
قد يبدو الأمر طبيعيا إذا برزت أشكال جديدة باعتبارها نتاح دينامية داخلية، تعكس الدينامية نفسها التي تشهدها حركة التاريخ، والسيرورة التي آلت إليها تلك الحركية، باعتبارها نتاج ظروف ذاتية وموضوعية، ما يعني أن وراء أي شكل جديد تقبع فلسفة أو رؤية معرفية هي التي تتحكّم في تحويل الأشكال وولادة أخرى. ولقد بات من الطبيعي أن بروز أي شكل يحمل فلسفته الخاصة به وإن كان يرتبط بما سبقه ارتباطا تفاعليا تطوريا، فهل أن اعتماد الهايكو اليوم له ما يبرّره تاريخيا إذا ما اعتبرنا أنه زمنيا لاحق على قصيدة النثر التي كانت نتاجا طبيعيا لقصيدة التفعيلة؟ أم أنه عملية تقليد لم تكن في أوانها إذا اعتبرنا أن انتشارها في الثقافة الغربية تمّ منذ عقود خلت بفعل انفتاح معارضي المركزية الغربية، ومحاولة التعرّف على ثقافة الشرق وخاصة اليابان التي وجدوا فيها فضاء خصبا للممارسات السيميائية المتنوعة عدّها رولان بارت إمبراطورية علامات هزّت كيانه وحرّرت أسئلة الإبداع والدلالة وحياة العلامات من انغلاق الفكر البنيوي.
استنادا إلى الاحتمال الأول، يرى عبد العزيز موافي أن الشاعر في قصيدة النثر أصبح “يعتمد على الحدس الانطباعي، ومن هنا كان اختفاؤه باليومي والعرضي والهارب، وقد أدى ارتباط الشاعر بالتجارب اليومية إلى أن أصبحت اللغة المتداولة هي النتاج الطبيعي لهذا الارتباك؛ وبالتالي أصبح الشاعر يستهدف إنتاج ما نسميه شعرية التقرير، والتي لا تتحقق عبر شعرية الكلمات بل من خلال شعرية العلاقات”
إذا سلمنا بهذا القول فإن الكتابة على طريقة الهايكو اليابانية تبدو أمرا مشروعا لأنها جاءت استجابة لفلسفة قصيدة النثر ذاتها، بغض النظر عمّن وجه الاهتمام بهذا النوع من شعر أمة أخرى ليست لنا علاقات حضارية معها، وتقوم على فلسفة روحية تختلف عن الرؤية التي ينتمي إليها الشعر العربي. كما يمكن أن نتتبع مسيرة هذا الشكل في تاريخنا الشعري من خلال ما يسمّى بالشعر المنثور بأشكاله المختلفة، أوالمقطعات والثلاثيات والرباعيات وغيرها من التجارب التجديدية التي تنحو شكلا أو مضمونا منحى يشبه شعر الهايكو.
لقد ثبت تاريخيا أن رفض أي نموذج جديد تحكّمت فيه أسباب سياسية وإيديولوجية أكثر مما هي أسباب إبداعية صرفة (نذكر في هذا المجال الدعوات السياسية القومية التي كانت وراء دعوات التجديد عند جماعة شعر ومجلة الآداب وحوار ومواقف وغيرها) فهل غياب الأسباب المماثلة مع شعر الهايكو يجعل دخوله إلى الساحة الإبداعية العربية أمرا مستساغا، بل ضرورة حضارية، وهل يمكن تبيئته؟ ويصبح لانتقاله إلينا مبرّراته الفنية والثقافية، خاصة بعد رحلة التحوّل التي قطعها إلى الغرب، والتغيّر الذي حدث فيه عند أصحابه أنفسهم؟
من هذا الطرح سيتم تركيزنا على هذه التجربة التي تثير عدّة إشكالات لا ترتبط، فحسب، بعلاقة هذا الشكل بالذائقة الشعرية العربية بل بعلاقته بأشكال التغيّر الشعري العربي منذ قصيدة التفعيلة.
في مرحلة أولى لا يمكننا أن نعاين هذه اللحظة إلا استنادا إلى المعيار والقيمة الجمالية التي لا تزال تحتكم إلى علاقة كل تغيير بما كان؛ أي بالهوية، على الرغم من أن هناك من يرجع الحديث عن الهوية إلى طبيعة العقل العربي الذي لم يتوصّل على المستوى الإقليمي والقومي إلى صيغة للتواصل الفعاّل الداخلي والخارجي، ومن ثمة نشأت الحيرة والتردد، وأصبح السلوك العربي لا يمكن التنبؤ به؛ لأنه لا يزال موقع الهوية متردد بين القمة والقاع، بينما لا تغيب هذه الهوية لدى عقل الآخر الذي يجاهر بصراعاته الداخلية، بينما يخجل العقل العربي أن يخرج الاختلاف من الداخل إلى الخارج”
الهايكو شكل شعري ياباني أصبح له تأثير عالمي خلال القرن العشرين ببساطته وإيجازه، وهو يعبّر عن استدعاء ملاحظة أو إحساس عن العالم الخارجي ولحظة حاضرة ينبغي على القارئ أن يعيشها مع الكاتب لكي يشاركه فيها، بعد ما أشيع أن الشاعر يعيش وحده في عزلة، وينظر إليه على أنه شعر المهلة، والمهلة هي الاصطلاح الأقرب في التعامل مع التغيير مباشرة وليس مع أحد المتغيرات أو بعض من أعراضه، وهو الاصطلاح الأحدث في لغة الصيرورة، لأن المهلة ليست توقفا فيما لا يتوقف واقعيا، ولكنها لحظة تكثيف ذرِوي(من الذروة) تظل مادتها من مادة الصائر نفسه ومن هذا المنطلق، لا يمكن أن ننظر إلى هذه التجربة كأعراض تغيير حصلت للشعر العربي بعزوف عن إيقاع أو استعارة أو غيرها مما يشترط في الهايكو الياباني، ولكن باعتباره لحظة إبداع “المهم في معياريته هو التقاطه فكر الحافّة وليس الحد، هو بناء حافّته الخاصّة مع مطلق الإبداع، وتحديد مهلته الخاصة بالنسبة لانسراع المسافة”
يتمفصل موضوع الهايكو الياباني تمفصلا ثلاثيا يضعه في زمن و في فضاء معيّنين، أي أنه تجربة تمرّ عبر تنظيم موضوعاتي يستجيب ل”أين” وهو مكان التجربة و”ماذا” وهو موضوع الهايكو يتوزعان على ثلاثة أسطر ليشكّلا قولا يشبه القياس، مؤلفا من قضايا يُسلّم بها فينشأ عنها قول آخر.
قد يكون لهذه الصيغة المختصرة ما يقابلها في التقاليد الشعرية العربية من الناحية الشكلية، مثل المقطعات والمثلثات والبيت الواحد، ولئن كان هذا الاحتمال يجعل هذه التجربة استمرارا لحركات تجديدية ظهرت في تاريخ الأدب العربي، فإن مجرّد ربط هذا الطرح بقضية القصر والطول يسقط عدم المراهنة عليها ويُبقي المراهنة على الرؤيا الخاصة أو الفلسفة التي يقوم عليها الهايكو ذاته، مقارنة بمنطق الفكر الذي يحكم الرؤية الشعرية العربية التي شغلت فكر شعرائنا حتى الذين يدّعون التجديد، حيث لا زال إنشاء قصيدة عندهم مثل تشييد عمارة، وحال دون السّماع إلى حفيف ورقة تسقط من شجرة أو هسهسة حشرة فوق الأرض أو هدير البحر وهديل الحمام وحركة عصفور يطير أو وردة تتفتح، أو خرير الماء وهزيز الهواء والريح، أو صيحة مولود ونزول عبرة على الخد، وهي اللحظات التي يعبر عنها الهايكو باعتباره “لحظة الحدة المطلقة حين يكون استحواذ الشاعر على حدسه كاملا.(…) إنه شعر بلا أفكار ومع ذلك فمن الممكن أن توجد فيه أفكار ما، وحتى إن وجدنا فيه فكرة، فستكون شيئا متغلغلا في ثنايا العمل الفني كله مثل الهواء”
هناك قواعد شكلية كان لا بد للهايكو الياباني أن يلتزم بها وتتمثل في نظام المقاطع الذي يتكون من ثلاث جمل تحوي الأولى خمسة مقاطع والثانية سبعة والثالثة خمسة، كما تحمل كلمة توحي إلى الفصول وأخرى تفصل بين الجملتين، والملاحظ أن الخصائص الفونولوجية في شعر الهايكو تذكر في خطاطتها الإيقاعية بإيقاع الموسيقى الشعبية التقليدية اليابانية كما لاحظ ذلك seegan mabesoone هذه الأبوة بين شعر الهايكو والأغاني الشعبية يتعدّى كذلك إلى مستوى الصّور الأسلوبية والموضوعات مثل العلاقات العائلية والحيوانات الصغيرة والتي يعزى الاهتمام بها إلى الفلسفة أو الديانة الكونفوشيوسية المؤسسة على إرث الآباء والأجداد مثل قول إيسا: آمين آمين/ تقول آمين بفم مفتوح/ الضفدعة.
عندما استعار الغرب هذه التجربة في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، لم تمنع الشعراء من أن يحدثوا بعض التعديلات، على الرغم من استجابة الفرنسية مثلا لشكل الهايكو للتشابه الصوتي بينهما، فايقاع اللغة الفرنسية مقطعي وأصواتها الصائتة متشابهة مع اليابانية وهيأتها الصوتية كما هي مستعملة موجودة في اليابانية .
ولقد تحدث رولان بارت عن الهايكو في إمبراطورية العلامات رابطا إياه بالاحتفال الروحي épiphanie فقال: أن نتحدث عن الهايكو يعني تكراره بصفة أكثر دقة، فالهايكو يشبه حفلا دينيا أو روحيا مفاجئا، إنه عملية إظهار مفاجئة للأشياء كما تجلت لنا، عملية إظهار مفاجئ للواقع الذي يبرز عاريا من أي ظهور ولا يمكن اختصاره في أي تعليق .
لا يسعى الهايكو إلى شرح أسباب موضوعه وآثاره، وإنما يسعى إلى تخليد اللحظة الفورية كما لو أنها هي، مثل قول أحدهم : بركة قديمة/ ضفدعة تقفز/صوت الماء.
إنه يؤكد على الدلالة الفورية للحظة الآنية الأكثر قابلية للإحساس واللّمس والواقعية؛ ولذلك قيل إن الهايكو لا يستسيغ كثيرا الرمز والاستعارة، ولا يرنو إلى تسجيل عبرة معينة، إنه لحظة في كلمات قليلة تحمل صورة وإحساسا في الوقت الذي تطالب فيه تقاليدنا بكم هائل من الكلمات أو نفس طويل وفكر مصقول وعمل بلاغي متعب طويل، وهذا يعني إمكانية تغيّر جوهر العملية الشعرية ذاتها، وحمل الشاعر العربي على التنازل عن أفق معرفي له شروطه المرتبطة بطبيعة العقل البياني العربي، الذي قد يفرض إكراهات يمكن أن تبطّئ عملية الانخراط الآلي في فلسفة أخرى ومنطق عقل آخر، إن لم تعطّله، على الرغم من أن ما توحي به عملية التجريب ذاتها بالنسبة لبعض الشعراء، يعدّ بمثابة الحصول على حقوق أخرى يرفض أن يعطيها إياهم أدبهم والذائقة الشعرية العربية التي تمارس هيمنتها وتقوم بدور شرطي الحدود على الشعراء، وكان رولان بارت قد رأى هذا التحول ضرورة بالنسبة للشعر الأوروبي في سبعينات القرن الماضي.
لقد تلقى الغرب الهايكو بوعي ساهم في إثراء حساسيتهم الشعرية، مع التحذير من السعي إلى إدماج السنن المقطعي لشعر الهايكو الياباني؛ لأنه لا يتوافق مع السنن الفرنسي، ودعي كتاب الهايكو الفرنسيين إلى الخضوع إلى التصور العروضي الخاص بلغتهم، الأمر الذي يعود بالنفع ونتائج مهمة لتطوير الشكل في اللغة الفرنسية، ذلك أن الحرية التي تمنحها أي تجربة شعرية جديدة، لا بد أن تسهم في إحداث نوع من التفاعل الابستيمولوجي في تصوّر الشعراء للشعر، وذلك من أجل إبداع طرق جديدة وإنتاج حساسية شعرية مختلفة وواعية تفرض مقبوليتها من خلال مشروعيتها في تطوير الإبداع الشعري.
في تاريخ الشعر العربي لم يكن الإيجاز في الشعر مطلبا إلا بتحقيق بعض الوظائف أم المواقف. كأن يكون خادما للسرد، أو تعبيرا عن مواقف مخصوصة لمقاصد معروفة، وما عدا ذلك، فقد كان الطول هو العلامة التلفظية التي تجسّد الصيغة التاريخية لما به يكون الشعر شعرا على الرغم من أن العرب اختزلت الطول في بيت واحد لتؤكد أن المتلقي هو الوحيد الكفيل بالحكم على الجودة، وليس البيت الواحد إلا إيجازا واختصارا للقصيدة، فيصيح الطول، الذي أو القول أكثر، لطريقا لما به يُحكم على جودة الشعر، وهو القول الأقل، ولذلك اعتبرت الأشكال الشعرية القصار روافد للشعر؛ لذلك لم تكن يوما من اهتمام من أرادوا تقنين الظاهرة الشعرية من النقاد إلا بما يجدون فيه ما يعضد حكمهم عن القصائد الطوال.
إن هذه الازدواجية في الذائقة الشعرية العربية هي التي جعلت الشعراء يحتكمون إلى النفس الطويل الذي لا يعدو أكثره سوى تفاصيل للبحث عن البؤرة، جعل الشعراء يجنحون إلى التذكّر والوصف على حساب اللحظة التي كانت سببا في إنشاء القول، ومن هنا جاءت فكرة الكذب في الشعر، وعدّ المجاز من الكذب وتشظي الإحساس القوي العاري، على الرغم من أن الشعر في إطلاقيته هو إحساس مداهم مفاجئ، متدفق، قبل أن تكون حركة الفكر قد وجّهته. إنه انغماس في الإحساس الخالص، أما الهايكو فهو ضد فائض البلاغة والغموض، ولذلك يسعى أصحابه للتخلّص من الخصائص التي تدل على إعمال الفكر والسّعي إلى الحجية والاستعارة والإحالة والتماثل والغنائية. وقد عرض محمد الأسعد الشاعر ومترجم الهايكو الفلسطيني الجمالية التي يقوم عليها الهايكو في أربعة أسس هي: الإيحاء واللاتماثل والهشاشة والبساطة. فهي صورة توحي ولا تصرح وهي مختصرة تشير إلى الفراغ بدون أن تملأه وهي أكثر عناية بالأشياء
لا يمكن أن نعتبر أن الشكل القصير هو الطريق إلى إبداع الجديد ذلك أن القصر هو مجرد علامة طوبوغرافية فيزيائية في علاقتها بطول النص، وليس قصر الهايكو إلا وجها لعملة طرفها الآخر هو الإيجاز الذي ليس علامة فيزيائية بل سمة تلفظية بالدرجة الأولى “حيث أن الرهان الأساس فيه هو خطابي، ليس القول فيه بإيجاز هو القول الأقل، بقدر ما هو القول بطريقة أخرى، فالإيجاز منظورا إليه باعتباره عملية تلفطية هو قبل كل شيء صيغة تاريخية للطريقة التي يكون بها الموضوع” ولذلك نرى الشاعر العراقي عذاب الركابي يراهن على تجاوز معظم قواعد الهايكو معتقدا أن هذا النوع من الشعر موجود في تقاليدنا ف ..” قصائد الهايكو موجودة لدينا منذ زمن، جميعاً كشعراء، ولكنها متناثرة .. مبعثرة داخل القصائد الطويلة وفي بطون الدواوين”
إن هذه التجربة في رأي عذاب الركابي وكذلك عند الشاعر عاشور فني، تطرح إضافة تجعل هذا الشكل جزءا من لحظات الشعرية العربية الهاربة، اللحظة التي هي بمثابة الجزء وقد هيمن عليه الكل وانزوى في بعض بطونه، كما تطرح، أيضا، سعيا لأن يكون للعرب هايكو خاص بهم، يعبر عن الهوية والخصوصية، ومن هنا يمكن تفسير سرّ سقوط بعض قواعد الهايكو عندهم كما سقط بعضها عند الغرب وهذا ما يؤكده الركابي بقوله: الهايكو العربي” ليس صدى لآهات شعراء الهايكو الياباني أمثال ( باشو ، بوسون ، إيسا) ، لكنها بسرعة وعمق عباراتهم البرقية (التلغرافية) الموحية، هم تعاملوا مـتأثرين بديانة ” الزن” مع اللغة بشكلٍ كهنوتي، وهم يحاورون الفصول ومكونات الطبيعة، وأنا اختلفت عنهم في أنسنة هذه المكونات وأنا أضفي عليها التجسيم والتشخيص، وديواني الأخير “رسائل المطر” يؤكد هذا. و” الهايكو” بمفهومي: إرسال تلغرافي، وبوح شعري روحي مكثف، ليس بهرجاً لغوياً، وإنما هو ثمرة شيء يغلي في الأعماق، فضاؤه لغة كونية آسرة .. لغة اللغة ، وخيال الخيال .. وجمل تضيء دون حدود !
وهو الأمر الذي أكده الشاعر الجزائري عاشور فني جانبا منه، وهو من أكثر المطلعين في الجزائر على هذه التجربة ترجمة وإنتاجا حين قال “اعترف باندهاشي في البداية لبداهة هذه التجربة الثرية، رغم أنني كنت في الحقيقة أتحرى شيئا من قواعد الهايكو في كتابة قصائدي، دون أن أكون على علم بذلك، اقتصاد اللغة وبناء الصورة” ولذلك نراه ينزع نزوعا جعل فيه لهذه التجربة ذاكرة تمتد في الإيقاع وبناء الصورة الذي عهدناه عنده في تجربته الشعرية السابقة، وإن بدا الاختلاف في توزيع الوحدات اللغوية على ثلاثة أسطر حتى وإن اقتصر على كلمة واحدة، وهو الأمر نفسه الذي تتجسد به تجربة هايكو عذاب الركابي الذي أمّن له طريقا نحو التقاليد الشعرية العربية، فخالف منطق الهايكو الياباني نافيا عن الهايكو العربي أن تكون له ذاكرة أخرى ترتبط برؤية كهنوتية للغة، ورأى بأن السرعة والإيحاء والتكثيف والعمق هو ما يجسد رؤيته للهايكو، فهو لا يريد أن يشعر القارئ باستعارة التجربة، لأنها قائمة على الإحساس باللحظة، ورؤية خاصة لا يمكن أن تستعار أو تكون صدى؛ ولذلك لا نراه يرهق نفسه في افتعال أسطر ثلاث، بل يرقى باللحظة إلى فضائها اللغوي الذي تطلبه حتى وإن جلبت في طريقها لحظات أخرى. كقوله:
تبرّر الأزهار خجلها
في شذاها،
تبرّر السحابة بردها
في عناقيد مائها،
ويبرّر العاشق فوضاه في هيامه !!
فهناك لحظات ثلاث منفردة كل واحدة بفضائها اللغوي وبمعناها، ولا يجمع بينها إلا فعل التبرير المرتبط بالأزهار والسحب والعاشق، وهو الذي أسهم في جلب لحظة بعد أخرى ، وكان بإمكانه أن يجلب لحظات أخرى وفضاءات أخرى تأخذ الكلمة فيها كما يقول الشاعر في مقدمة هذا الديوان “ما يكفي من الحرية،فالكلمات هي صاحبة المبادرة، ولهذا جاءت مشاغبة، والبلاغة مستفزة، والخيال أكثر شرودا” وهو ما يجعل هذه التجربة عند الركابي خاصة به، قد لا تتوافق مع الرؤية التي يقوم عيها الهايكو نفسه.
وربما ذلك ما جعل الشاعر محمد الأسعد، يرفض التفكير ولا كتابة هايكو بعيدا عن استحضار الرؤية اليابانية، فكتابة هذه التجربة، لا يمكن أن يتم إلا بتفاعل خلاق يقوم على فهم جوهر اللحظة الحدسية التي ينطق بها الهايكو، وعلى الشاعر العربي أن يمتلكها فيغير من أدائه اللغوي المعهود وبلاغته المعتادة، فالذي يكتب نص الهايكو عليه أن يشتغل على تقنياته، ويوظف منطق الرؤية التي تحكمت فيه.فيقول في بعض تجربته.
*خريف

ذات خريف
بين الأشجار
أسمع ضحكات الأطفال

* قيثار
أكان ذاك
رنين قيثار
وراء الليل والأشجار؟

*حارسة الليل

صاغية في ضباب الفجر
حين يستيقظ لغط الناس
وسكون الأمكنة

* دفلى

وحيدة
هذه الدفلى في باحة البيت
يتساقط المطر

* سدرة

وحدها في الظهيرة
سدرة البيت
تلقي الظلال في الباحة الخالية
يبدو أن محمد الأسعد، وسعيا نحو تحقيق شخصية الهايكو الياباني، نراه يكتب ببلاغة مفصولة عن التقاليد العربية، ويجسّد مفارقة تتجسّد في قلب نظام الجملة العربية من تقديم وتأخير قبل أن تعكس المفارقة في الرؤيا التي يقوم عليها الهايكو الياباني، ولا غرابة في ذلك وهو الذي يعتقد بجدة التجربة، ونشدان الإضافة لقول البساطة والوضوح الذي تبدو لفرط وضوحها غامضة لسببين: الأول، أنها لا تعلّق لها بأنماط الشعر العربي، التقليدي منها والمحدث، الموزون والمنثور. والثاني؛ لأنها تحمل رؤيا مختلفة إلى العالم غير ملموسة في الثقافة العربية
وما يعلق بالذهن في هذه النماذج وغيرها مما سمّي تجربة هايكو سواء عند الأسعد أو غيره على اختلاف الطريقة، وبغض النظر عن استثمار شروط الهايكو الياباني كلها، فإنها تنقلنا من التمركز حول الشاعر إلى ما جرى من وقائع ومن وإلى الأشياء، أفلا يمكن أن يكون هذا تغيرا في الموضوع الأثير بالشعر العربي الذي امتد عبر الأزمان دون أن تسكته أي تجربة جديدة؟ لقد كان الشاعر العربي وحتى في الموضوعات الأكثر إيديولوجية أو واقعية أو سياسة أو دينية هو الصوت المهيمن، فكل شيء كان ينظر إليه من داخله، ولا زال القارئ العربي يسأل عند قراءة أي قصيدة ماذا يريد أن يقول وهل هو حزين أم سعيد أم وحيد أم نرجسي…. ولا زال هو الوحيد الذي يحيل إلى أشياء لا يستطيع الآخرون رؤيتها أو سماعها أو شمها أو تذوقها أو الإحساس بها؛ لأنه يحولها إلى أفكار مجردة وهو ما يمثله الاتجاه الغالب في الحداثة الشعرية العربية.فهل ما افترضه محمد الأسعد من ضرورة إحداث القطيعة مع أنماط الشعر العربي، التقليدي منها والمحدث، الموزون والمنثور، يحقق الرؤية الشعرية الجديدة في الذائقة العربية؟
إن الإجابة عن هذا الطرح تقتضي التساؤل حول مدى مقبولية هذه التجربة في المشهد الشعري والثقافي العربي المعاصر،ولكي تتم للهايكو مقبوليته يجب الانتقال من فكرة الكم كقيمة عليا، هذا الكم الذي كان سببا في الوقت الحاضر في تغليب أجناس أخرى كالرواية؛ لأنها أكثر كمّا من الشعر، كما لا يمكن أن نفصل التجارب الجديدة في الأنواع الأدبية، والشعر خاصة عن تجدد الوعي بالبلاغة البصرية التي ارتبطت بظهور وسائط جديدة كان لها الدور الكبير في لفت الانتباه إلى التفاعل الذي يمكن أن ينتج عن تفاعل هذه الوسائط مع الأدب كمثل الصورة الإشهارية الثابتة والمتحركة، ولغة الإعلام الآلي والرقمية ولعل هذا الارتباط ذاته وفي الوقت الذي ينقل الأدب إلى فضاءات تجريبية أخرى نجده يفرض على منظري الأدب أسئلة أخرى تضع القوانين التي تجعل من الأدب أدبا التي بدأها الشكلانيون موضع تساؤل، وهنا نقر بعبثية الشعرية التي حاولت تحديد القواعد وعلمنة الأدب واستقلاليته.
ولم يكن الشعراء العرب بمعزل عن هذه الحساسيات الجمالية الجديدة، نتيجة التواصل المتعدد مع الغرب، وما فرضته شروط الحداثة آنذاك، والساعية إلى إعادة النظر في أنماط الكتابة وتجديد التعامل مع اللغة ومع الواقع، وهو نقس الأمر الذي نجده عند الجزائريين حيث بدأت معالم الانعتاق مبكرا من خلال تجربة الشاعر رمضان حمود في عشرينيات القرن الماضي، الذي كتب قصائد ” تشمل على مقاطع لا يمكن أن تخضع لبحر معين من البحور الخليلية المعروفة” . هذه الرغبة في التجديد والخروج من النمطية يمكن إرجاعها إلى الحركة الطبيعية لحركات التّجديد في الشعر العربي القديم استنادا إلى ما حدث في العصر العباسي، أو من خلال الموشّح الذي اختلف عن التقاليد شكلا ومضمونا حيث تمّ التّطابق بين المضمون المرتبط بالطبيعة، مثلا، والشكل البصري الذي يجسّده متمثّلا في شجرة أو وردة” .وهو الأمر نفسه مع بعض الأشكال الأخرى التي ظهرت عبر العصور مثل الذي حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان المزج أسلوبا اتّبعه بعض النظامين، إلا أنه كان مزجا محكوما بالموت لأنه اعتمد مزج البحور لا التفاعيل ولا دقائق الأوتاد والأسباب، فكان مزجا خارجيا بين قوالب لا مزجا داخليا بين عناصر (مثلما يرى محمد الأسعد .) لأن مزج العناصر هو كيمياء اللغة لا مزج القوالب، وهذا هو ما يميز القصيدة القصيرة الحرة هنا حين تعتمد مزج العناصر، إنه أكثر جدة، فهو يخرج على نظام الشطرين ونظام التفعيلة المكرورة رغم عللها وزحافاتها”
وبغض النظر عن نسبة الهايكو اليابانية، فإنه يعكس منحى فلسفيا يمكن أن يستجيب لرؤية فلسفية تهتم بفعل القصد الذي يحدّد توجّه العقل نحو موضوعات العالم الخارجي باعتبارها موضوعات قابلة لأن تدرك، وهذا الاهتمام بعلاقة العالم الخارجي بالإدراك سبق وأن وجدناه عند الشعراء الرمزيين، وذلك عن طريق الحدس الذي يعتبر بمثابة البصيرة التي يدرك بها الإنسان الخصائص الفردية للشيء الذي يميّزه عن غيره، وبدون هذا الحدس لا يستطيع الناقد أن يدرك الدلالات الجوهرية للعمل الأدبي” . يقول الركابي:

لا تحضرُ
الزنبقة ُ
مجلسَ الشمس ِ الّتي
تغتابُ العصافير !!
******
يمتحنُ
العصفورُ حُنجرتهُ ،
بأغنيةٍ قديمةٍ ،
على شبّاك ِ عاشقْ !!
فالشاعر، هنا، لا يكتب مجرد وصف لشيء حدث فعلا أو لم يحدث بقدر ما يحاول أن يظهره وكأنه حاضر عبر إثارة الانطباع لدينا بأنه حدث وهذه النظرة للشعر إن أمكن تعميمها في الشعر العربي ستدير ظهرها لتاريخ القصيدة العربية؛ لأنها قصائد بلا تاريخ إلا الأشياء واللحظة واللغة. إنها تطرح قضية علاقة الإدراك الحسي بالمعرفة القبلية، ومن ثمة، بالجانب الذاتي، وهنا، يكون التفاعل بين النص والتجربة التي تحاكيها وليس بين نص ونص آخر، ولذلك، يمكن أن نفهم فكرة عدم اعتماد الهايكو على التناص واعتباره متعلقا بطريقة جلية مع التجربة كما أدركتها الحواس.
إن هذا البعد التجريبي والواقعي يجعل الشاعر يصوّر ما يراه وما يقصده، ليجعله قابلا لأن يعايشه القارئ معايشة متساوية وليست معايشة تمكّنه من الإضافة، وهنا يختلف مفهوم التشارك الذي يفرضه الهايكو على القارئ عن التشارك الذي تقرّ به الفينومينولوجيا والتأويلية.
وإذا كانت اليابان قد استطاعت أن تبرز كقوة اقتصادية، وكظاهرة قامت على تسيير الوقت والإنسان والتراب، فإن شعر الهايكو يجسّد هذه الثلاثية من اللحظات وهي: الموضوع والآن ومتى. وبغض النظر عن آثار ذلك الثقافية، هل يمكن أن يجسّد الشاعر العربي هذه القاعدة الثلاثية وهو لا يعير اهتماما بالوقت ولا إلى العمل، ربما هذا ما جعل الهايكو بمجرد استيراده خضع لنوع من التحويل وعدم الالتزام بقواعده، فتم الانتقال من المقطع إلى الوزن حيث تنوعت الأوزان كالرجز والمتدارك والمتقارب عند عاشور فنيّ، وتحرر عذاب الرّكابي من الإيقاع وعدد الأسطر، وابتدع محمد الأسعد إيقاعا مركبا من عدد من التفعيلات على الرغم من أنه من أكثر الداعين لاحترام منطق الهايكو. ولقد حاولت قصائد الركابي أن تكون شبيهة بالحكم، ذات لغة واصفة تقوم على خصائص لا نجدها في الهايكو كالتشخيص والمفاضلة والإخبار والوصف كقوله:

يستقبلُ
اللّيْلك ُ الحزينُ
الخريفَ ،
بلون ٍشاحبٍ !!
********
. تسخرُ
السنونوة ُ الناحلة ُ
وشجرة ُ الزيتون ِ ،
من عِراك ِ الدِيّكة ْ!!
*******
. تتكاثرُ الثمارُ
فرحا ً ،
بأمّها الشجرة ِ،
كريمةِ الظلال ِ والنسائمْ !!
*********
. تتنازلُ الأشجارُ
عن أوراقِها
قبلَ أنْ يتمّ َ خطبتَهُ
الخريفْ !!
******
لا تُخفي
السّنابلُ ضحكتَها الإلهية َ،
حتّى لوْ لمَعَ
منجلُ الحصادْ !!
*********
لا ترى
الورقة ُ النائمة ُ ،
في سريرها المخمليّ
ضرورة ً،
لحُكم ٍ الخريفْ !!
يمارس الهايكو في هذه الأسطر سلطة التوجيه ويتوزّع التصوير بين الحكمة والوصف، فيجعلنا نتساءل إن كان العمق الذي ينشده الهايكو يمكن أن يرتبط بالحكمة، فتدخل الحكمة مرة أخرى إلى الشعر، أم أن الأمر مرتبط باختلاف عن الأشكال الأخرى، يجعل للقصيدة شخصيتها وموضوعها الذي لم يدخل من قبل إلى دائرة الشعر العربي.
توحي هذه النماذج، بأن القصد من كتابة الهايكو هو سعي للخروج عن المألوف وهو نفس السّعي الذي وجّه الشعراء إلى قصيدة النثر التي تشترك مع تجربة الهايكو في الإيجاز مع اختلاف، مقارنة بالقصيدة الطويلة، وكلّها تعبّر عن تجاوز القوالب الجاهزة سواء اقترنت بالوزن أم بتشكيل الفضاء النصّي واللغوي ومن ثم السّعي إلى تغيير العادات القرائية التي كثيرا ما تكون عائقا أمام كل حركة تجريبية؛ لأن التعود حينئذ يعتبر حقا يؤخذ من الشاعر، ليصبح فيما بعد واجبا يفرض عليه إكراهات كتابية معينة هي ما يجسّد مفهوم التقاليد الأدبية.
وقوانين الهايكو المغايرة لم تحل دون اهتمام الشعراء العرب بموضوعات أخرى قد لا تعد من الهايكو إذا احتكمنا إلى صرامة مبادئه التي ترتبط بالموضوع، ولكن من منطلق الخصوصية نجد شعراءنا يتحدثون عن موضوعات أخرى مثلما ورد عند الركابي في ديوانه الأول “ما يقوله الربيع”:
• وطن
كم
يلزمك من الكذب
كي تنام
ليلة ثلجية
في سرير الوطن

• حرية
كم
يلزمك
من النفي
كي تعيش حريتك
في ديوانه هذا، وبخلاف محمد الأسعد، نرى الركابي يرتهن إلى التقاليد الشعرية العربية بالعمل على تطوير الفكرة النواة التي ينمّيها بالعودة إلى الوتد الكلامي، فيتجاوز بذلك قانون اللحظة التي يمتاز بها الهايكو إلى تعدّد اللحظات، وهذا ما يجعله يكتب هايكو خاصا به مثلما ورد في قوله من ديوان ما يقوله الربيع، حيث نراه يؤكد منذ المقدمة على خصوصية شعر الهايكو، فينفي أن يكون “صدىً لآهات شعراء الهايكو الياباني الكبار أمثال: باشو ، بوسون، وإيسا، ذلك أن قصائدُ الهايكو العربيّ تجربة هامة، وستكونُ من صُنع ِأصابعنا، وحناجرنا، ولحظات جنوننا كُلّنا كشعراء، على الرغم من إجازته أن تغرف هذه التجربة من سرعة وعمق عباراتهم البرقيّة ( التلغرافية ) الموحية، و الأسلوب الزخرفيّ التشكيلي ومكونات ومفردات الطبيعة التي تشكل نسق القصيدة” ، غي أنه وبعد معاينتنا للديوان وجدنا أن الشاعر يؤسس لشكل يختلف عن شعر الهايكو الياباني ويجعله يرتهن إلى تقاليد الكتابة العربية ، حيث يقول:
• بلاغة
لنْ أنسى
ما حييت
ُ نظرة َ تلكَ الوردة ِ ،
لنْ أنسى
ما حييت ُ
ثقة َ قطرة ِ الندى
بنفسِها ،
لنْ أنسى
ما حييت ُ
بلاغة َ الألمْ !!

• نرجسيّة
النخلة ُ :
ترى نفسَها دليلَ المكانْ ،
الأرضُ :
ترى نفسَها أمُ ّ الكونْ ،
الزهرة ُ :
ترى نفسَها آلهة َ الجمالْ ،
والشاعرُ:
تراهُ الكائناتُ
ضميرَ الأزمنة ْ !!
مبدئيا، يمكن الإقرار أن هذا الشعر يختلف عن منطق تجربة الهايكو التي تبدو وكأنها تصل إلى البؤرة مباشرة في حين تتطلب القصيدة العريية (وفي هايكو الركابي) طريقة أخرى تقوم على الوصف و التركيز على لحظات بدل اللحظة الواحدة. وهذا ما ينعكس على طبيعة الشكل الذي ترد به التجربتان.
وبغض النظر عن المقطعية التي ليست خصوصية يمكن للشعر أن يراهن عليها؛ لأنها جزء من طبيعة اللغة ذاتها، فإننا يمكن أن ننظر إلى الهايكو استنادا إلى بلاغة الرؤيا والتشكيل معا.
فبلاغة الرؤية الشعرية في الهايكو: قائمة على فكرة المفارقة، والمفارقة في ذاتها مقولة بلاغية تتأسّس على إدراك مختلف للواقع هو الإدراك الحدسي الذي نجد ما يماثله عند المتصوفة أو عند الرمزيين والسورياليين.
إن هذا الإدراك الذي يميّز تجربة الهايكو هو شكل من مجموع أشكال الرؤية التي تقوم عليها الكتابة الشعرية والتي لا يمكن للقيمة الجمالية أن تتحدّد بها؛ لأنّها لا يمكن أن تتحدّد بشكل واحد، فالشعر منذ أن عرفته الإنسانية قائم إما على الإدراك العقلي أو الحسي للوجود.
أما بلاغة الشكل القائمة على الإيجاز، فهو مطلب من مطالب البلاغة العربية التي لم تكن تعرّف إلا به، فهل اعتماده في هذه التجربة يعبّر عن رغبة، ولو مرحلية، في الانعتاق من مجال للتقاليد العربية التي تطالب الذائقة الشعرية بالطول في القصيدة، وصياغة عمل بلاغي طويل، فيكون اعتماده شكلا من أشكال التخلص من واجبات تفرضها الشعرية العربية واكتساب حقوق أخرى تمنحها إياه هذه التجربة؟
إن الحديث عن مجرد استيراد الأشكال كما هو الحال مع الهايكو لمحاولة إنباته في الثقافة العربية إذا لم يكن مشروطا بشروط الهوية، وما لم يكن قائما على ما يعبّر عن تفاعل خلاق بين الثقافات لا يفيد المثقف العربي في شيء. فالطبيعة كموضوع للشعر في حد ذاته لا يمكن أن يضيف شيئا ما لم يكن الهدف منها لفت الانتباه إلى أثر غياب الطبيعة من عالمنا نظرا لهيمنة التكنولوجيا وانكفاء الإنسان في عالم مصطنع يجعل منه إنسانا آليا، كما أن اعتماد الإيجاز لا يطلب لذاته ما لم يسهم في تثمين بلاغة الإيجاز العربية، وأن كلا من الموضوع والشكل يساهمان في تغيير رؤية شعرائنا إلى العالم والواقع ، وخاصة أن فن الهايكو يتأسس”على قيم جمالية كونية بسيطة، تجد صورا لها عند كل الشعوب وفي كل الحضارات”
ومن هنا، فالحديث عن عملية تعريب للهايكو ترتبط ارتباطا وثيقا بخصوصية السنن العربي الإيقاعي والبلاغي، كأن يكون قائما على إيقاع ينسجم مع إيقاع الشعر العربي لأن إيراد جمل منعدمة الإيقاع لا يدخله في السياق الشعري، كما أن الالتزام بشروط معينة كالتي تداولها البعض عن شعر الهايكو من قبيل نفي الاستعارة ليس مما يراهن عليه في الشعر لأن الاستعارات نحيا بها والقول بعدم اعتمادها تنكّر للإبداع الشعري ذاته، هذا إذا ثبت مما ترجم إلينا من الهايكو الياباني أنه لم يخل من المجاز وهذا ما حدا بالشاعر عذاب الركابي إلى اعتماد التشخيص في تجربته والأنسنة التي يعتقد محمد الأسعد، وهو من ترجم الهايكو الياباني، أن غيايها من قواعد الهايكو حيث يقول: “والذين اعتادوا على المنبع العربي التقليدي أو المنبع الغربي التقليدي الذي طبع بطوابعه الشعر العربي الحديث، سيجدون في هذه القصائد ما لا يفهمون. فهي تتجّنب الأساسيات العزيزة للجمال الشعري المألوف: التشبيه والمجاز وتجريد الملموس وتجسيد المجرد، وتتمسك بتسمية الموضوع (موضوع الخبرة) مباشرة. وهي تتجنب التشخيص أو أنسنة الأشياء . فالإنسان ليس مركزا بل هو خيط في شبكة كلية، وكذلك بقية الموجودات من تراب ونبات وحيوان ونجوم وسديم. غير أنه ما يلبث عندما ينتقل إلى الكتابة أن يقع، هو نفسه، في الأنسنة مثل ما ورد في قوله:
 وداع

خطواتـنا
غمغمة
على أوتار قيثار بعيد

 مطر

ما الذي
يبكيك
أيها المطر ؟

 بلبل

بلبل عابث
أغنية تغرق
في حجر الليل
إنه يجعل للوداع غمغمة وللمطر بكاء، كما جعل الأغنية تغرق وشخّصها بنفس الطريقة التي تصنع بها الاستعارة. وتبقى المشكلة التي تثيرها تجربة من كتبوا في الهايكو العربي” تتمثّل في قابلية القصيدة العربية في تمثل التجارب الشعرية الناجحة، ليس في الغرب، فحسب، وإنما في أقصى الشرق، ثم تتجاوز هذه التجربة كل الطروحات الفكرية السابقة لتقدم خطوة تطبيقية يكون من أثارها أنه باستطاعة الشاعر العربي وهو يملك تاريخاً شعرياً حافلاً أن يضيف إلى المخزون العربي شعراً جديداً من الأسلوب المستلهم من الإرث الشرقي هذه المرة” هذا إذا اعتبرنا أن هذا النوع من الشعر لا يوجد ما يماثله في الثقافة العربية كما قال محمد الأسعد آنفا، على الرغم من أن عاشور فني يرى بأننا نجد في بعض الأفكار المتداولة في النقد العربي حول التجربة والكتابة الشعرية مبادئ أولية لكتابة هذا الشكل من الشعر، ومن ذلك الحديث عن الكشف والتكثيف وعن الحد الأدنى من اللغة في القصيدة وقوة الهشاشة ولغة انكسار الوجود وآنية الحضور وتجليات الأبدي فيما هو آني عابر
ومهما كان الاختلاف في تفسير هذه الظاهرة في علاقتها بالذائقة الشعرية العربية، فإن استيراد هذه التجرية، ليس لكي تكون بديلا، وإنما لتكون شكلا مضافا على تجاربنا الشعرية المختلفة كقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وغيرها من التجارب الأخرى، إنها تجربة لا ننتظر أن تدخل على الثقافة العربية بلاغة جديدة بقدر ما تنبّه إلى أشكال بلاغية عربية تماثل بلاغة الهايكو، قد تم تهميشها لحساب بلاغة معينة فرضت هيمنتها، وأهم تلك الأشكال البلاغية، الإيجاز، الذي يمكن أن تتمّ العودة إليه لتجديد نمط القصيدة العربية وإخراجها من بلاغة الرمز والإيغال في الغموض الذي فرضته الحداثة الشعرية، وهذا يحفّزنا للعودة إلى أشكال تعبيرية أخرى في تراثنا وإعادة تصنيفها وإثرائها، كما يمكن أن يكون مفتاحا للانفتاح على شعريات الثقافات الأخرى وهي شعريات أصيلة عبّرت عن ثقافات متميّزة وليست مستوردة.ومن ثمة تصبح معولا لتفعيل الهوية التي لا زالت أسيرة موقفين اثنين:
الأول مرتبط بالاحتكام إلى الماضي والثاني سائر على خطى الثقافة الغربية التي اتجهت نحوها الحداثة الشعرية العربية. فما زلنا في أسر وهيمنة ثقافة واحدة كالعين الواحدة والدليل أن هذه الثقافة ذاتها كانت هي الوسيط الذي عبر منه الشعراء العرب كما قال عاشور فني:”كان الشاعر الفرنسي “بول إيلوار” في تسجيليته الجمالية أحد المفاتيح التي أخذتني إلى الصورة ومنه اتصل البحث عن التجربة العالمية لدى التصويريين الأمريكيين وخاصة إزرا باوند وإيمي لويل ومن جاء بعدهم. تلك كانت نافذتي الأولى على عالم الهايكو في صورته الغربية في اللغتين الفرنسية والانجليزية ” بل إن التجريب ظل هو الهاجس حيث يقول “ظلت التجربة هاجسي واتجهت إلى تطوير لغة تستجيب لهذا الهاجس بعيدا عما شاع من ألفاظ وتعابير استهلكتها قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر معا ساعدني هذا على الاتجاه نحو البصري والحركي والآني، وكان ذلك هو طريقي إلى الهايكو” لذلك نراه في ديوانه:
“هنالك
بين غيابين
يحدث أن نلتقي”
وقد صاغه وفق منطق الهايكو الشكلي في تكوينه من ثلاثة أسطر، غير أن ما احتواه من أشكال أخضع أسطرها في الغالب إلى تفعيلات البحور العربية المعروفة، كما خرجت موضوعاتها من الطبيعة إلى موضوعات ذاتية وأخرى اجتماعية ووطنية، وجنح في بعضها إلى الرمزية والإيحاء كقوله:
• سحابة بيضاء
بخيط رفـــــيع
تجمع الريح قطعها المبعثرة
وهــي تمر

• على الرصيف
عينان تعبران الكون
تـنفذان
حتى الـعظم

• في المساء
ما الذي حرّك أشجار المساء؟
هبـّت الريــــــح
وهبّت كل أسباب البكاء
لا شك أن الاقتصاد اللغوي وتكثيف الصورة واضحان في هذه المقطوعات، وهو سعي وجدناه عند الشاعر نفسه وفي الشعر العربي عموما، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن جدوى تسمية التجربة بالهايكو إن لم تكن مجرد شعار إعلامي لا غير.
لقد ثبت أن القيمة الأدبية تتحكم فيها قيم فوق أدبية؛ إعلامية أو سياسية هي التي تروّج لشكل معين أو لكاتب معين أو لثقافة أدبية على حساب أخرى، ولعلّها، هي نفسها، تلك القيم التي حالت بيننا وبين الثقافة الشرقية. ولا شك أن تجربة الهايكو، هذه، تجعلنا نستعيد القيمة الأدبية ونتجاوز القيمة ما فوق أدبية التي جسّدتها المركزية الأوربية على الرغم من أن انتشار الثقافة اليابانية ذاته مرتبط بوسيط اقتصادي وسلطة القوة اليابانية التي فرضت نفسها. غير أن تجليات مظاهر هذه الثقافة وغيرها من الثقافات الأخرى يحد من سلطة هيمنة ثقافة مثلما ما حدث في العصور الإسلامية الأولى حيث كانت الثقافة العربية تستعير من الثقافات الأخرى بعض المفاهيم والأشكال التعبيرية وتتفاعل معها دون أن تكون بديلا أو تحلّ محلها. فلا غرو من أن ننفتح على ثقافات أخرى كالثقافات الشرقية الأصيلة التي طمستها التكنولوجيا حتى يكون لدينا مجال للخيار، وخاصة، أنها ثقافات تحمل قيما ومضامين إنسانية تعيد للثقافة روحها، وتعبر عن هواجس الشعراء لامتلاك “لغة تستجيب لحاجات التعبير عن مكابدات الذات لوجودها اليومي في بعده الأزلي: الانغماس فيما هو آني ملموس دون فقدان البعد الروحي والإنساني الشامل، حيث لا يمكن للعقل أن يكون وحده سبيلا لعقل العالم واستبطان الذات”
في تعاملنا مع هذه التجربة الشعرية اليابانية يجب أن نتجاوز الطريقة الرومانسية الانفعالية التي تعاملنا فيها مع الثقافة الغربية، فالقصر والمباشرة والبساطة والهشاشة والإيحاء لها مكانتها في نمط من البلاغة المقموعة في التراث العربي التي حكمت عليها الثقافة العربية بأنها مرتبطة بأنماط من الكلم دون الشعر، بل إن الشعر المعاصر ذاته يحفل بكثير من التجارب الشعرية المماثلة لشعر الهايكو في بساطته وإيجازه، فقد كتب سعدي يوسف ما يسمى القصيدة اليومية التي تجاوز فيها ما سمّاه بلاغة الكذب وهي موضوعات انتبه إليها بعض الشعراء العرب في قصيدة التفاصيل اليومية وقصيدة اللافتة واللمحة التي تقوم بنفس الدور الذي يقوم به الهايكو. فتحقيق مبدأ البساطة الذي لا يجب أن نراهن عليه يجب أن يستجيب للرغبة في إعادة بعث فلسفة السهل الممتنع التي ظلت شعارا يوصف به بعض الكلام دون أن يفعّل، كما أن طبيعة الإدراك الجمالي للعالم الذي اعتقد محمد الأسعد أنه لا يوجد له مثيل في التقاليد العربية يمكن أن نجده في التجربة الصوفية، بل إنه هو نفسه يصف الموقف في تجربة الهايكو بأنه موقف صوفي “حيث يستعصي التعبير أمام الخبرة التي لا سابق لها، وهو عصي بالطبيعة في مثل هذا الموقف الصوفي ( ذروة الموقف الفني من الوجود)”
فهل كان لا بد للشاعر العربي أن يغرق في اختيار الكلمات والخوض في عمليات استبدالية وأن يعقد علاقات غير مألوفة ليعبّر عن المألوف؟ أم أن المألوف ذاته غائب، فلا يعبّر الشعراء في حقيقة الأمر إلا على غير المألوف؟ الأمر الذي يجعلنا نشكك في مسألة الغموض التي شاعت في الشعر المعاصر القائم على الغموض الذي لا يستطيع أن يكتشف ما يختلج في الذات أثناء تفاعلها مع الموجودات، ولا يستطيع أن يعبّر عن لحظة التقاء الكوني بالذاتي والأبدي بالآني والمجرد بالملموس والوعي بالطبيعة، لحظة بسيطة عارية خالية من التقعّر والوصف والتكلف اللغوي الفضفاض”
إن التّمركز حول ما جرى يلغي تاريخا من تمركز الشاعر العربي حول ذاته حيث كان صوته، حتى في الموضوعات العامة، هو الصوت المهيمن، وفي أقسى المواقف والحالات النفسية، وإن تبنّي هذه النظرة الخارجية التي تحدّ من تصريح الشاعر وإيحائه بذاته داخل الخطاب الشعري، يمنح الآخرين فرصة رؤية الأشياء التي يستطيعون رؤيتها أو سماعها أو شمّها أو لمسها. إن هذا النوع من الشعر يجعل الشاعر يتنازل عن عواطفه وانفعالاته لكي يوقظ في المتلقي حواسّه؟ ويقبل أن يقاسم اللحظة مع المتلقي بعدما تعوّد على إرباك القارئ وجعله يهيم بين احتمالات عدة لاكتشاف ما يمكن أن يقصد إلى قوله في قوله؟ فيتخلّى عن التجريد الذي أصبح ديدن الشعر وقوامه وأن يترك اللغة تقول نفسها دون تدخّل منه.
ليس هذا تغيير في هوية الشاعر بقدر ما هو تغيير هوية الشعر ذاته لكي يتنازل عن نخبويته ويصبح الشعر الذي يفهمه الجميع ويحسّ به الجميع وليس مجرد أثر الشاعر على الجميع ففي الهايكو كما قال أحد رواده باشو “هناك أشياء لا يمكن أن تتعلّمها بل يجب أن تلجها بنفسك”
يقول عاشور فنيّ:
• باب مفتوح
مشكور جهدك
في كسر الأقفال
تفضّـــــل

• ذكرى
كلّّما أغمضت عيني
فاضت وجوه الأحبة
مع الدموع
• صباح بارد
ورقة خضراء
عند النافذة
وعصفور لا يغني
• زهور
عيون الحديقة
تحدق بي
وقلبي فراشة
هل يمكن أن يكون لهذه القبضة من الكلمات أن تجعلنا نحس بعمق التجربة الإنسانية التي لا تقال هذه القبضة من الكلمات التي تترجم قدرة عاشور فنّي على استيعاب المدهش في قلب العادي والمطلق في قلب النسبي، والمقدس في قلب المدنس وذلك من خلال إبرازه جزئية معينة وعيّنة من العالم تلخّص كل شيء، وتدل على كل شيء، وتعطي لكل الأشياء عمقها. فكلمة تفضّل وعبارتا: وقلبي فراشة، وعصفور لا يغني” هي ما يصنع هذا العمق في قلب البسيط الذي نلجه، لكن ليس بمنطق الهايكو كليا، لأن بناء الأسطر لا يخضع لنفس القياس الذي يخضع له الهايكو، وإلا ما الدافع الذي حتّم عليه أن يجعل من السطر كلمة أو يقسم الجملة إلى سطرين أو ثلاث، الأمر الذي يعني أن الطابع الشكلي والقصر لا يمكن المراهنة عليه بقدر المراهنة على الرؤيا الجديدة التي تحملها قبضة الكلمات هذه، و كيف يمكن للرؤيا أن تتسع في قلب الإيجاز مثلما أكد ذلك سيبويه حين قرن الإيجاز بالاتساع منذ بداية التقعيد للكلام العربي.
لا شك أن محسوسية النظرة إلى العالم التي تفرضها تجربة الهايكو، ستمنح فرصة للشعراء لكي يعيدوا النظر في حرج الغموض الذي أوقعتهم الحداثة فيه، فحين قال بعض الحداثيين أن الشعر كشف وقع الظن أن الكشف إيغال في الرمز والمغالاة، فازداد الشاعر العربي غموضا حتى جعل الشعر غريبا عن موضوعه وعن المتلقي، ولم يخلق هذا الغموض هوة بين الشاعر والقارئ، فحسب، بل بين الشاعر والعالم الخارجي الذي أصبح الإيغال في إحداث علاقات غير مألوفة بين الكلمات هو السعي وهو المنتهى، وفرض على القراء أن يستعينوا بالوسيط المنهجي الذي فرضته العلمنة لكي يرى النص عالما من الرموز التي توحي بما لا يوحى إلى شيء، في الوقت الذي يعد التأمل في الكون مقصدا مهما من مقاصد الشعر الذي يجعل النقد يتجاوز فكرة المنهج الدوغم dogme ويجعلنا نعيد النظر في مفهوم الشعر ووظيفته؛ لأن الشعر لا يرتبط بشكل مثالي معين، إنما هو تعبير عن روحانية ثقافة تجد نفسها في شكل معين، يفرض علينا في كل مرّة النظر إلى كل قصيدة استنادا إلى ما يحدس الشاعر فيها، وما يكتشفه لنا من خلالها، ذلك أن “فكرة اكتشاف الجمال في الموجودات هنا هي الأكثر لفتاً للنظر؛ لأن العادة الشعرية الرديئة الجارية في مختلف الفنون هي اقتراح فكرة عن الجمال والجميل، لا اكتشافه، وأن جِدَّة الإدراك هي الطريق إلى الكشف عن الجمال غير الملحوظ في الطبيعة والحياة
ولقد عكف الشعر العربي المعاصر، وحرصا على فهم خاص لمقولة الحداثة، باعتبارها قطعا عن التراث، عكف على إفراغ القصيدة من المعنى والاكتفاء بالاحتفاء بالكلمات كما لو أن الشعر بهرج من الألفاظ. وبإمكان هذه التجربة أن تعيد الشاعر إلى التراث في محاولة لاستكشاف المخبوء فيه وتطويره، فيصبح التجديد والتحديث الشعري حينئذ استكشافا للماضي لا انقطاعا عنه وتحويله إلى روح جديدة، نحسّ فيه باللحظة التي تؤثث للمعنى ولا تخرّبه. لقد أضحت فلسفة الجمال اليابانية التي هي”محصلة فكرية لواحدة من القوى المؤثرة في الحضارة المعاصرة, ذات تأثير واسع، ليس فقط، على مدارس الفكر المتجهة بقوة نحو “التعولم”، بل وكذلك على مدارس الفن التشكيلي ومدارس الأساليب الأدبية والشعرية المبتكرة، ومدارس الفنون المسرحية والسينمائية وغيرها، وأصبحت معظم هذه المدارس تستلهم، في العديد من خطوطها، الأفكار و”الأقانيم” الجمالية المستمدة من حضارات الشرق الأقصى، وخاصة اليابان منها، وتولي لها اهتماما متزايدا. لكن مجال الثقافة العربية بقي في كلّيته تقريبا، أسير النظرة الأحادية المنبهرة بالغرب ولعل هذه النظرة الأحادية هي التي جعلتنا أسيري تبعية مبرمجة تمنعنا من أي تفاعل مع الآخر، وولّدت فينا صراعات بقدر اختلاف الإيدولوجيات الغربية. في حين أن الاطّلاع على الثقافة اليابانية الأصيلة يمكّننا من التعرف على أصالة الحضارات الشرقية، بما تتضمّنه من قيم منسجمة مع الإنسان، جمالية وفلسفية وفكرية، مشبعة بالقيم الإنسانية الراقية. ولعل من نقطة القيم الإنسانية هذه، يمكن أن نتحدّث عن تفاعل بين الهوية العربية واليابانية، والتي تجعلنا ننفلت من “ثقافة مغرمة بالتعميم، لا تستطيع فهم الظواهر بذاتها ولذاتها بلا تشبيه ولا تمثيل، ومازالت تدرج “الآخر” في منظومتها المعرفية في القول والنظر بمساعدة تقاليد ثابتة ومتحجرة
لقد ثبت أن التواصل مع الغرب أنتج نوعا من الاستلاب الذي أنتج بدوره موقفين اثنين: إما التبعية أو التنكر. و”العالم لا يفتأ يشهد اختراع مفاهيم حضارية جديدة لا تلبث أن تسري في المجتمعات سريان النار في الهشيم … ولا يمكن للمجتمع المسلم أن يبقى بمنأى عن هذا الفضاء المفهومي، بل لا مفر له أن يندمج فيه. اندماجا طوعيا يختار فيه المفاهيم ويفعّل طاقات أبنائه وقدرتهم على الإبداع وإنتاج المعرفة ولذلك فالمعرفة الشعرية والنقدية العربيتين التي تنتج عن تفاعل الهويتين العربية واليابانية يفترض ألا تكون تقليدا آليا بل تكون استلهاما من هذه التجارب الجديدة بما يتوافق مع السنن اللغوي العربي.
إن الهايكو وغيره من أشكال الثقافات الشرقية الأخرى هو وجه من أوجه تفعيل التفاعل بين الهويات دون أن يحل هذا الشّكل أو غيره محلّ الثقافة الغربية التي تركت بصمتها ولازالت في الثقافة العربية بنموذجها المحتذى في المعرفة الأدبية، فيتم الخروج من هيمنتها وترشيد البعد الثقافي للعولمة التي نجر إليها طوعا أو كرها.
ولقد كانت فكرة التفاعل من الأصول الثابتة في الحضارة الإسلامية استنادا إلى قاعدة التعارف التي بنيت عليها وهي التي تجسّد البعد الإيديولوجي للهوية ذلك أن”الإيديولوجيا بعناصرها الرمزية ومضامينها المعرفية والاجتماعية، تلقي بظلالها على الأشياء، فتجعل معتنقا ينظر إلى الأمر بمنظارها، ويقوّم القضايا وفق معاييرها ومقاييسها الخاصة، لذلك فهي عالم أفكار الإنسان، كما هي وسائله النظرية والمعرفية”
والسؤال المطروح في الحقيقة هو هل نحن بحاجة إلى هايكو عربي، أم نحتاج إلى مخرج من الأزمة التي تعيشها القصيدة العربية؟ وعلى الرغم مما يمكن أن يسفر عنه تفاعل الأشكال من آثار إيجابية في تفاعل الهويات، إلا أن مرور عشريتين كاملتين على صدور أولى تجارب هايكو عربية وفي أكثر من بلد عربي دون أن يفعّل النقد الأدبي وينظّر لهذه التجربة، يجعلنا نقف متسائلين عن طبيعة ردود الأفعال التي صاحبت انتشار هذه التجربة، وجعلت كتاب الهايكو أنفسهم هم من يروّجون ويسعون إلى التنظير لهذه التجربة وربما هذا ما حدا بمحمد الأسعد إلى نعي نقد الشعر الذي وصفه بالمأزوم في ما يشبه البيان نعتقد أنه لو استوعبه قراء الهايكو .لتجاوزوا النقد العربي السائد الذي هو في أكثر تجلياته كما يقول الأسعد حضور، مشغول بالإصبع التي تشير إلى القمر، بالسّلال والشباك، لا بالأسماك. وهذه حالة متدنية من حالات الوعي النقدي لا تتجاوز التقسيم والتصنيف والتفكير بماذا أراد الشاعر أن يقول، بماذا يعني. غاية الشاعر ليس أن يقول أو يعني، بل أن يدرك، أن يحدس، أن يصل إلى لحظة الاستنارة، ويجسد هذا في شكل فني فريد”
يحيلنا محمد الأسعد إلى حدس اللحظة والتي تشكّل لحظة القصيدة الجديدة والتي لا بد أن يواكبها حدس اللحظة المتمثلة في قراءتها ويستشهد بقول حازم القرطاجني الذي ينعى من خرجوا عن مهيع الشعر إلى محض التكلم، وهنا إشارة مهمة إلى الإكراهات التي خلفتها هذه التجربة على مستوى التلقي.
إن هذه التجربة بحاجة إلى طريقة نقدية موازية، إلى نقد حدسي، لا نقد فكري. ولهذا السبب يظل هذا الضرب من الشعر، شعر الصورة الذي يرسم الفضاء أو يشير إليه، بعيداً عن الإدراك النقدي المألوف .
بعد معاينتنا لبض الآراء النقدية التي كتبت عن تجربة الهايكو عند الركابي
إذا كان مهمة النقد تتجلى في توصيف النص الذي ينبغي أن يحلل، فهل يمكن تحديد ماهية هذا النوع من النصوص بمجرد إطلاق صاحبها عليها اسم هايكو، فيكون هذا المصطلح الذي تعرف به بداية الولوج إلى وصفه، والكشف عن خصائصه، ومن ثمة إيجاد الآليات الكفيلة بقراءته ونقده ؟
إذا تمّ التركيز على الاصطلاح والتسمية، فهذا يعني أن الناقد سيأخذ بعين الاعتبار عملية استبدال شكل بشكل مع تغيير التسمية،أو إضافة تسمية فرعية أخرى، كأن يستبدل هايكو بشعر أو يضاف إليه كفرع ويبقي يحمل اسم الشعر ولكن بزيادة كلمة: هايكو التي هي تسمية خاصة بالشعر الياباني، ما يعني أن الشاعر يكتب بالطريقة اليابانية أي يقتفي آثار شكل تعبيري مختلف، وهنا سيكون الإشكال بالنسبة للناقد هل هو البحث في هذه الآثار، فنلج إلى دائرة الأدب المقارن وقضية التأثير والتأثر، أم أننا نرصد ضروب التحويل التي حدثت ما يعني الافتراض أن تجربة الهايكو العربية هي محض محاكاة أو معارضة مضمونية، ولذلك وجدنا الفكرة الأساس التي تشغل بال النقاد هي مدى التزام الشاعر العربي بقوانين الهايكو.
لا شك أن تجربة الهايكو العربية تجربة مميزة، لكنها لم تقدم نفسها بالشكل الكافي وهذا لا يعني أن المبدع هو المعني بتقديمها، مثلما اعتقد حاتم الصكر الذي يرى أن المقدمة القصيرة التي قدم بها الركابي ديوانه لمْ تقدم إضاءة ًكافية ً لطموح الركابي في مواصلةِ تجربتهِ
إن شعراء الهايكو الثلاثة، الذين عرضنا لهم، قدموا لتجربة كان يفترض أن يلقوا بها إلى النقاد ليتعهدوها بالنقد والتحليل، وإذا تحدث عنها كاتبها باعتبارها رؤية جديدة بالنسبة إليه، فهذا لا يعني أن يحدد ويحلل مواصفات بنيتها.ولذلك وجدنا الكم القليل من النقد الذي وجه لتجربة عذاب الركابي مثلا، يجنح فيه أصحابه إلى التعميم وإعطاء أحكام مجازية ومجاملات نقدية عن الشاعر لا تمت بصلة إلى التجربة إلا من حيث ربطها بالموسيقى كما فعل مفرح الذي راح يعيد الحديث عن علاقة الشعر بالموسيقى ويجعل من شعر الركابي مجرد استشهادات على ما يقوله، فاستعرض تاريخ تلك العلاقة عند الفلاسفة المسلمين وشعراء الحداثة الغربية من الرومنسيين والرمزيين وخلص في الأخير إلى أن “أبرز سمة من سمات قصائد هذا الديوان أنها محاولة جادة لأسطرة الواقع، وهى قصائد باعثة على البهجة، وتصلح دواء لكل الأفكار السوداء، كما أنها تتجه نحو الآخر بالقبول والمحبة، وحب الطبيعة، والذى يؤدى، بالتالى، إلى حب الإنسان لنفسه ولغيره… ولعل ديوان رسائل المطر أن يكون غناء عذاب الركابى الذى نأتنس به، وننتظره كى يرسل لنا رسائل المطر السحرية التى تعزف لنا لحنا يعلمنا كيف نحب الطبيعة ونتعايش معها ونتآلف فى موسيقاها”
إن هذا الموقف النقدي يخلو من أي حكم نقدي، وهو الأمر نفسه الذي وجدناه عند من كتبوا عن هذه التجربة التي رأوا فيها أحيانا تذكيرا بتراسل الحواس وأنها معادل موضوعي للطبيعة، أو أنها إيغال في الحس الصوفي الذي تتوحد به الروح مع نظائرها ومكوناتها ومفرداتها الساعية إلى النور الذي قد يستحيل في بعض حالاته إلى جسد متأنسن غارق في تيه لحظته الفارقة
هناك، إذن، تحد كبير، يفرض نفسه لم يعد متعلقا بانفجار النظرية النقدية ذاتها أمام تداخل التخصصات والعلوم المعرفية فحسب، بل بطبيعة الأشكال الجديدة..وهيمنة وسائل الإعلام والاتصال المتسارعة على هوية الإبداع الأدبي ذاته.
بعد تأملنا في نماذج ما كتبه الشعراء الذين جربوا هذا الشكل، لا بد من الإقرار أنه، وبغض النظر عن توجّه هؤلاء الشعراء إلى تجريب الهايكو، فإنهم عبّروا عن جزء ممّا يميّز إدراك العالم في هذا النّوع، فقد نقلت هذه التجربة الشعراء من الإدراك العقلي للعالم إلى الإدراك الحسي الذي لا يحوّل فيه العالم إلى أفكار مجرّدة، مثلما غلب ذلك على شعر الحداثة العربية، وإذا تبيّن لنا أن هذا النوع من الإدراك لم تخل منه الرؤية العربية خاصة في الشعر الجاهلي وقصائد نزار قباني وتفاصيل سعدي يوسف اليومية، فهذا يدعونا، وبغض النظر عن التسمية، إلى إلحاق تجربة الهايكو بهذا النوع من الشعر. أما إذا أردنا اعتباره امتدادا لقصيدة الهايكو اليابانية، فهناك محاذير كثيرة تقف دون ذلك، هي محاذير الهوية ذاتها عندما تغلق بابها في وجه من لا تتعرّف عليه، وطالما هناك قواعد تتحكّم في هذا الشكل لها صلة باللغة اليابانية، فإنه، من الصعوبة بما كان، تكييف كل هذه القواعد مع اللغة العربية. فالحديث عن هايكو من منظار”عربي” كما يقول محمد الأسعد يدفعنا إلى الحديث عن “عمودٍ” موروث في الشعر الياباني، وعن فن مفروض، وقواعد شرطية تجعله ميدانا لتنافس عقيم يتحقّق فيه، كما في الشعر العربي التقليدي، “حسن الاتّباع”، أي أن يأتي المتكلم إلى معنى اخترعه غيره فيحسن اتّباعه فيه بحيث يستحقه بوجه من وجوه الزيادات التي توجب للمتأخر استحقاق المعنى المتقدم .علما بأن شعر الهايكو ذاته لم يبق على حاله على الرغم من وحدة أساسه المقطعية.
لم يتسن لنا الوقوف على بنية مخصوصة يمكن أن نصف بها تجربة الهايكو العربية نظرا لاختلاف تجارب الشعراء أنفسهم، فقد تأرجح هؤلاء الشعراء بين الوزن والالتزام بثلاثة أسطر عند عاشور فنّي وغيابه واعتماد عذاب الركابي أكثر من ثلاثة أسطر، واعتماد نظام إيقاعي مختلف يقوم على المزج بين التفعيلات عند محمد الأسعد، ومن التزام بالبلاغة العربية كما عند الركابي إلى السعي إلى خلق بلاغة مفصولة عن التقاليد العربية عند محمد الأسعد، نرى أن الحديث عن شكل جديد ذي بنية مخصوصة أمرا سابقا لأوانه، على الرغم من أن محمد الأسعد يحدّد طبيعة الإيقاع في هذا النوع من الشعر ويربطه بالإحساس، حيث يقول: “في هذه القصائد يمكن الإحساس بنوعين من الإيقاع: الإيقاع الخارجي المعتاد في الشعر العربي (المتحرك والساكن) والإيقاع الداخلي المعتمد على تدفّق الصور، والذي يتبع نظام الجملة الموسيقية الحرة. في الإيقاع الخارجي ابتعاد عن نمط شعر التفعيلة، ومزج تفاعيل من بحور مختلفة في الهايكو الواحدة. قد يبدأ السّطر، وليس البيت، بتفعيلة الرجز، تتلوها تفعيلة الرمل، ثم يبدأ سطر بتفعيلة الخبب وهكذا…. المعيار هنا، هو الإحساس بالتدفّق الداخلي. مثلا قد تبدأ القصيدة بإيقاع بطيء تقوده تفعيلة الكامل، وقد تنتهي بتفعيلة الخبب للإيحاء بالتسارع.”
لا شك أن هذا الرأي يعيدنا إلى مقولات نقدية سبق وأن روّج لها ما سمّي بالنقد الجديد، وثبت أنها ليست فاعلة، حيث لم تستطع أن تحرّر القصيدة العربية من الإيقاع كلية، وإن ما يبرّر به وجود إيقاع خارجي وداخلي يقوم أحدهم على المزج بين التفعيلات ويقوم الثاني على إيقاع صوتي هو في الأصل إيقاع مرتبط باللغة العربية قبل ارتباطه بالشعر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يعكس هذا الرأي وجهة نظر شخصية عن تجربته شخصية في كتابة الهايكو نابعة من فهمه الخاص له، وهو الأمر الذي وجدنا نقيضه عند الركابي الذي رأى ضرورة تبيئة هذا النوع من الشعر، مثلما يرى الشاعر عاشور فني أنه موجود أصلا في ثنايا الشعر العربي. ولعل في تباين الآراء هذا اختلافا في الموقف من الحداثة نفسها، على الرغم من أن تجربتنا مع التحديث أقرت أن الحداثة ينبغي أن تتطلب تراثا، وأنها لا تثمر حقيقة إلا في أمة تملك ماضيا إبداعيا عريقا، والشاعر العربي يستطيع أن يحول هذا النمط الشعري الياباني بالارتهان إلى أشكال مغيبة في تراثنا ليصير طاقة على إنتاج ما يضاهي هذا التراث.
قصيدة الهايكو في العالم العربي تكتب بطرق شتى استنادا إلى دعاوى شتى، حتى أصبحت قصيدة بلا ضفاف. لقد وصلت إلى العالم العربي بشخصية أخرى؛ لأنها اكتسبت هويات أخرى لا تسمح لنا بمعرفة بنيتها ولا منطق كتابتها سوى أنها تجربة تقنية؛ فهل نحتاج إلى قارئ سيأتي يقرأ الهايكو بطريقة أخرى أم يمكن أن تتجرد البلاغة من هويتها فيكون الهايكو هو بلاغة المستقبل و قصيدة المستقبل التي تنهي هيمنة أشكال مؤثرة في الذائقة العربية؟

الإحالات