الرئيسية / بين الدبلوماسية الاقتصادية والاقتصاد الدبلوماسي

بين الدبلوماسية الاقتصادية والاقتصاد الدبلوماسي

الجزائر في 31 ديسمبر 2012

تقوم الديمقراطية الحديثة على الفصل بين السلطات الثلاث في السياسة لأن الديمقراطية تقوم على مبدأ آخر وهو الفصل بين الفضائين العام والخاص. يشمل الفضاء العام الشأن السياسي اما الفضاء الخاص فيشمل-ضمن مشمولاته- الشأن المالي والاقتصادي خارج مجال المالية العمومية.
في بلادنا تم غداة الاستقلال تأميم الخاص ( الاقتصاد) وخوصصة العام (السياسة). أصبح الاقتصاد شأن السياسيين أما السياسة فصارت حكرا على المسؤولين. ذلك هو جوهر الفساد في نظام الحكم وفي مساره. أقول هذا وانا أتفهم كل الحجج والمبررات التي قدمت أو تقدم اليوم لتسويغ قرارات تلك الفترة. فقد أصبحت جزء من التاريخ الاقتصادي والسياسي للبلاد. وإذا كان النقاش ممكنا فيبخصوص فترة الاستعمار فلماذا لا يمكن النقاش حول بدايات الاستقلال. لكن المسألة لا تتعلق بالتاريخ فقط بل الهدف هو طرح مشكلات الحاضر والمستقبل للنقاش. هذا هدفي على الأقل.
والواقع ان تلك القرارات التاريخية -التي لا رجعة فيها – تم التراجع عنها – ومراجعتها والرجوع عن المراجعة ثم التراجع عن كل ذلك مرة أخرى- ولم تعد طابوهات. وصدق الجميع أكذوبة كبرى اسمها اقتصاد السوق الاجتماعي وسارت الركبان بالغناء والمديح . لكن ماذا تغير بالضبط؟ بعد المؤتمر الرابع لجبهة التحرير تم تفتيت الشركات الوطنية الكبرى وتشريد الإطارات التي أنشأتها لنها لم تستجب للميولات السياسية الجديدة في منتصف الثمانينيات. ثم جاءت الأزمة النفطية سنة 1986 فاستغلها الحاكم وبدل الطبيعة القانونية للمؤسسات الاقتصادية. تم توقيف التشغيل وبدا تسريح العمال. حين تصاعدت الاحتجاجات الاجتماعية تم تعويم المشهد وإدخال التعددية السياسية . استخدم الشاذلي وحمروش مصاعب التنمية الاقتصادية للتغلب على خصم سياسي: حزب جبهة التحرير بقيادة مساعدية. وحين لم يجد الحكام أنصارا لا في الوسط السياسي ولا في أوساط العمال أدخل الجيش في اللعبة : هناك بدأت جريمة سياسية من الطراز الأول : استعمال الجيش الشعبي لحماية تيار سياسي في السلطة مضاد للاختيارات الشعبية التي تعود إلى بدايات الحركة الوطنية واستمرت رغم كل الصعوبات خلال فترة التحرير وما بعدها. كان التوجه الشعبي للسلطة هو مبرر بقائها مدة طويلة بعد الاستقلال. هناك من يسميه -الشعبوية- ورأيي أن التوجه الشعبي أصيل في السياسة الجزائرية ولذلك تفسير تاريخي قد نعود ّإليه يوما. لكن السلطات المتعاقبة على الحكم في الجزائر بالغت في استعمال الديبلوماسية الاقتصادية في السياسة الداخلية: تحويل الموارد إلى الخواص ابناء على قاعدة الولاء السياسي. ما مصدر هذه الموارد؟ تأميمات سابقة. أي انها كانت ملكية خاصة اممتها السلطة ثم وزعتها لأشخاص آخرين.
لم يكن هذا ممكنا إلا تحت غطاء سياسي كثيف: تعددية سياسية وحزبية شكلية – تنازع حول السلطة – ابتكار قوى سياسية لا علاقة لها بالسياسة لخلط الوراق – وأصبح الوصول إلى السلطة يعني ببساطة الوصول إلى ثروة الآخرين.
في مشهد مثير كان المعتصمون في الساحات العامة في بداية التسعينيات ( قبل 9 جوان 1991) يرفعون أيديهم في اتجاه سكان العمارات المحيطة الذين يشاهدونهم من الشرفات وهم يصرخون: سيأتي اليوم الذي نخرجكم من تلك الشرفات ونتفرج عليكم عرايا في الساحات. لقد رسخ في الذهان ان من يسولي على السلطة (بالانتخابات أو بغيرها) يملك رقاب الناس وأموالهم.
هذه غحدى نتائج الخلط بين العام والخاص: تأميم الخاص وخوصصة العام: استخدام الاقتصاد الوطني لشراء الولاء السياسي. واستعمال السياسة للحصول على الثروة. يعيش الجزائريون اليوم فصلا مهما من تطور هذا الاتجاه. فقد أصبح المهربون هم صانعوا الحملات الانتخابية وهم سادة المجالس البلدية والتشريعية وفي انتخابات مجلس الأمة أمس الأول ظهرت خفايا التواطؤات التي جرت في انتخابات البلديات.
أما على المستوى الخارجي فقد المساعدات الاقتصادية آلية لشراء الولاء على المستوى الدولي. وكانت الصفقات -في الستينيات والسبعينيات- تبرم على أساس إيديولوجي.من اجل الحفاظ على الخيارات الإستراتيجية: فالشركات التي ظفرت بالصفقات الكبرى في غطار مخططات التنمية لم تكن هي الأفضل بل كانت الأنسب.ليكن. فما الذي وقع بعد التحول عن تلك الاختيارات التي -لا رجعة فيها- حسب التعبير الشهير؟
في الحقيقة غاب عنصر اساسي وهو عنصر افعلام الاقتصادي. لم تعد القواعد واضحة. يمكن أن يحدث كل شيء في الخفاء لأن الخيارات لم تعد مفهومة أصلا. هناك من يقول أنه لا توجد خيارات بالمرة. لكن المتابع للشأن العام يجد ان الشركات الصينية مثلا حصلت على كثير من الصفقات في إطار الإنفاق العمومي في ميدان التجهيز خاصة- وقد زادت امتيازاتها في السنوات الأخيرة- في حين تراجعت حصة الشركات الفرنسية. يمكن ربط ذلك بمواقف كل من الصين وفرنسا في مجلس الأمن إزاء القضايا التي تمس مصالح الجزائر. وقد تدخل الرئيس في بعض المسائل لترجيح الكفة لصالح بعض الشركات دون غيرها كما وقع مع جيزي في بداياتها وكما وقع في صفقات البناء لصالح الشركات الصينيةز
ما جرى مؤخرا يمثل تطورا ملفتا حقا: في حين جلب الرئيس الفرنسي في وفده عديدا من الشركات والمديرين لمناقشة المسائل الاقتصادية وعقد الصفقات التجارية اكتفى الجزائريون بالتعبير عن الفرحة بقدوم بابا نوال. اما صفقة رونو فهي مثال لما سميناه الاقتصاد الدبلوماسي : اي القبول بالخسارة في المجال الاقتصادي لتحقيق هدف دبلوماسي كان يمن الوصول إليه بوسال الدبلوماسية. في حين اعتمد الرئيس الفرنسي دبلوماسية اقتصادية نشطة: وضع كل هيبة الجمهورية في خدمة رجال الأعمال الفرنسيين .
بين دبلوماسية الرئيس الفرنسي الاقتصادية النشطة واقتصاد الجزائر الدبلوماسي المميع يمر عام ويجيء عام. يمضي عصر ويبدأ عصر جديد

الدبلوماسية النشطة تلعب دورا في فك خناق الأزمة الاقتصادية على فرنسا مستغلة الأوضاع السياسية والاقتصادية للشركاء. أما الاقتصادي الدبلوماسي فيبحث عن شراء مواقف ظرفية ببيع مواقع إستراتيجية. ذلك هو مكمن الخطورة وتلك هي الفروق بين المنظورين. منظور الفاعل الباحث عن فرص لبناء المستقبل انطلاقا من وضع ملموس. ومنظور الخائف المتردد الباحث عن مأمن وهمي من أخطار حقيقية لا يريد أن يعالجها ولا يبحث لها عن علاج جذري بن يستعمل مرهم ملطف للألم. ذلك هو الاقتصاد الدبلوماسي.
ينبغي كشف الحقيقة وإقناع الناس بها. أما المسؤولون فهم الآن يتصرفون تحت ضغط الأحداث. وضعهم الضعيف يزيد الجزائر ضعفا. ما وقع في الفترة الأخيرة يعبر عن تحول جذري: فساد السياسة الداخلية باسم الإصلاحات وتوطيد نظام الفساد العام بالانتخابات التشريعية ثم المحلية زاد من وطأة الفساد الكلي. والآن يترجم ذلك التحول على المستوى الإقليمي والدولي: تحول في المواقف والتحالفات الدولية والإقليمية في غياب النقاش العام. الهدف من هذه التحركات: شراء مواقف ظرفية ببيع مواقع إستراتيجية.