الرئيسية / الرئيسية / بصدد الجدل السياسي حول التاريخ: وحدها الحقيقة ثورية

بصدد الجدل السياسي حول التاريخ: وحدها الحقيقة ثورية

عاشور فني


الأربعاء 07 جانفي 2015
من الغريب أن كل ما يوحد بين شعب من الشعوب أصبح يستعمل في الجزائر من قبل الجزائريين للتفرقة بين الجزائريين.الإقليم وموارده والثقافة ورموزها والدين وقيمه والموارد وأسواقها والذكاء والجهد والكفاءة كلها تجتهد لتوحيد الأمة وتقدم المجتمع في كل البلدان وتقاسم القيم الاقتصادية والرمزية بين أفراد المجتمع ولو في إطار صراع سياسي “عادي” له قواعده وميدانه وقوانينه وأدواته السياسية. لكن الذي يحدث في بلادنا منذ ربع قرن أو يزيد يتجاوز الوصف. فقبل أن يستنفد الصراع السياسي كل وسائله اتجه الفرقاء السياسيون مباشرة إلى استعمال ما لا ينبغي استعماله كأدوات في الصراع السياسي: الإقليم والمنطقة الجغرافية والانتماء الجهوي والقبلي والإثني ثم الدين (الإسلام خاصة) واللغة والثقافة ثم الموارد الاقتصادية (أثناء التأميمات ومن بعد نزع التأميم) ثم استعمل الدستور والقوانين والعدالة والفقه والفتوى وبعد كل ذلك ها هو مورد آخر يظهر فجأة ويدخل حلبة الصراع: التاريخ. 
التاريخ الذي جمع الجزائريين ووحد صفوفهم في وجه القوى والمخاطر التي تتهدد بلادهم والذي كان بمثابة القيمة العليا التي يضعونها فوق كل القيم ها هو يفرقهم.ها هو يقع فريسة لألاعيب السياسة والسياسيين -في السلطة وخارجها- يستعمل سلاحا في معركة سياسوية هدفها الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها. فهل النقاش التاريخي من صلاحيات السياسيين؟ إن المكان المناسب للنقاش التاريخي هو الجامعات والمدارس ومراكز البحث من أجل كشف الحقائق أو “إعادة” اكتشافها. لكن الذي يحدث اليوم في الجزائر لا علاقة له بالنقاش التاريخي في رأيي بل هو جدل سياسي حول التاريخ من أجل التموقع في الخريطة السياسية: الطموح إلى احتلال موقع فيها أو الدفاع عن مواقع مكتسبة استعدادا لمعركة تلوح في الأفق. معركة السلطة.
إن التاريخ بالنسبة للسلطة هنا -مثل النفط بالنسبة للاقتصاد- هو مصدر ريع سياسي يسمح باكتساب رأسمال منتج للمكانة السياسية التي تسمح باحتلال مواقع في السلطة. 
لكن هذا الذي يحدث ليس جديدا بالمرة فله سوابق وسيكون له لواحق. من سوابقه هو استعمال التاريخ لتصفية حسابات سياسوية وسلطوية بين السياسيين والمسؤولين أثناء الثورة وغداة الاستقلال. وبسبب ذلك بقيت كثير من الحوادث والقضايا طي الكتمان. فلم يعلم بها إلا صانعوها ودوائر قليلة من المهتمين. ولذلك عم الجهل بالتاريخ بل أكاد أقول أن التجهيل بالتاريخ كان سياسة مقصودة. والجهل بالتاريخ هو أول مرحلة من مراحل استعماله السياسي. 
أما لواحقه فمنها ما سيترتب عن هذا الاستعمال السياسي من نتائج وخيمة تتعلق بمصداقية التاريخ نفسه. ليس لدى الأجيال الجديدة ممن لم يألفوا هذا النوع من”النقاش” -القائم على التخوين والتخوين المضاد-فحسب بل لدى الباحثين أيضا. ولننتبه إلى اللحظة التي يقع فيها هذا الحط من التاريخ عندنا: لحظة الانحطاط السياسي والاجتماعي والمخاطر الاقتصادية وغياب الأفق السياسي والانسداد الاجتماعي.
ولننظر قليلا خارج هذا الرقعة الضيقة: ففي الوقت الذي وضعت فيه فرنسا-القوى الاستعمارية السابقة والحالية- قانونا يمجد الاستعمار ويعاقب على التشكيك في أمجاد الإمبراطورية الاستعمارية (قانون 23 فبراير 2005) ها هم أشباه الساسة والمسؤولين يتبادلون التهم بالخيانة: التخوين والتخوين المضاد. ماذا ينتظرون من ذلك؟ أن يكون المستمر السابق هو المصدر الوحيد الموثوق للكشف عن حقائق الثورة للأجيال الصاعدة؟
لقد سجل التاريخ مقولة شهيرة لقائد الثورة البلشفية لينين: الحقيقة وحدها ثورية. ينطبق ذلك على الحقيقة الفلسفية ولكنه ينسحب على الحقيقة التاريخية بقدر ما ينسحب على الحقيقة السياسية.
ويمكننا أن نبني على هذه المقولة استنتاجا بمفهوم المخالفة: الجهل بالتاريخ هو الخيانة السياسية الأولى.
فما الذي منع هذه الجموع المتباكية على الأمجاد والراضية بقداسة الأحداث والأشخاص أن تبحث وتنقب على الحقائق لو كان يهمها فعلا أن تعرف الحقيقة؟ أشك في أن يكون همها العلم والمعرفة بالتاريخ أو بالواقع السياسي. لكن المشكلة ليست في هؤلاء المتباكين على الأوهام فسيتصرفون قريبا للانشغال بغيرها من الأوهام وسيبكون بنفس الدموع الغزيرة. بل إن الأخطر في رأيي هو أن يستخدم التاريخ للتغطية على الواقع الحالي وصرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية التي تنخر أركان المجتمع وأجهزة الدولة معا. وهكذا يستعمل التاريخ للتجهيل المزدوج: التجهيل بالتاريخ وبالواقع السياسي الحالي. وقد يكون ذلك مدخلا لإستراتيجية جديدة: إعادة كتابة التاريخ لصالح القوى الجديدة المتربصة للانقضاض على للحكم مدججة بحقائقها وأسلحتها وفتاويها. وهكذا فبعد انهيار أسعار البترول في السوق الدولية ونفاد آبار الريع قد يظهر مصدر جديد للريع السياسي: بئر التاريخ.