الرئيسية / اكاديميا / انقلاب سلم القيم

انقلاب سلم القيم

نشر هذا المقال يوم الثلاثاء في 30 جويلية 2013 لكنه ما يزال راهنا

عاشور فني

ما هو منبع القيم في المجتمع؟ في المجتمع المعاصر تنبع القيم الاجتماعية كلها من قيمة مطلقة تحددها السوق: سوق البضائع وسوق الأفكار وسوق الكفاءات: كل تلك القيم تتعلق بقيم أساسية مطلقة تؤسس لغيرها من القيم لأنها منبع كل القيم الاجتماعية الأخرى: العمل. مجال هذه القيمة الأساسية هو المؤسسة الإنتاجية وهي الموجهة للسوق. فالقيم الاقتصادية تحقق مردوديتها المالية لكن القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية تحقق مردوديتها في “أسواقها” الخاصة أي في مجالات ذات خصوصيات متمايزة: سياسية وثقافية وفلسفية وجمالية.
وعلى هذه القيمة الأساسية –العمل – تتأسس الرشادة التي تنتظم المفاهيم الأساسية المكونة للمجتمع الحديث: الحرية -الحق – العدل- الجمال – العقل – الفعالية –الكفاءة –الربح – النجاح- العدل – الثروة- الفقر- … من القيم الفلسفية والفنية والمعرفية إلى القيم الاقتصادية والعملية والتقنية. وتحمل هذه القيم وترعاها نخب تكرس حياتها لأداء الوظائف الأساسية المرتبطة بالقيم: إنتاج القيم ورعايتها وحفظها وصيانتها وتطويرها أيضا وتكييفها. فهذه النخب السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والفنية وليدة مناخات الحرية والعلم والمعرفة والكفاءة والمهنية. تلك هي حالة المجتمعات الحديثة: نخبها تتمثل في فئة قليلة العدد لكنها قوية التأثير بما تحمله من قيم. هل هي قيم برجوازية؟ قيم مادية؟ قيم مبتذلة؟ قيم متسامحة؟ قيم إنسانية؟ تلك آراء ورؤى مختلفة. الاختلاف نفسه قيمة من قيم المجتمع الحديث. فكت المشكلة. بل لا توجد مشكلة أصلا: القيم متطورة لكنها قوية. سلم القيم مرتبط بآلة الإنتاج الرهيبة التي لا تسمح بالخطأ ولا بانقلاب سلم القيم. للمقيم “رب ” يحميها هو رأس المال. أزمة القيم تجد حلها في الإبداع التكنولوجي والثقافي والفني والاجتماعي والعلمي فالإبداع نفسه أصبح قيمة متجددة في المجتمع الحديث.

أما في المجتمعات التقليدية فالقيم تنبع أساسا من علاقة التبعية للسيد: السيد الزمني والسيد المطلق. تلك العلاقة تحددها نصوص مقدسة تضفي عليها طابعا مقدسا يخضع للتاويلات والتعديلات التي ترضي السيد عبر تطور الأوضاع البشرية. تنشأ النخب التقليدية حول تفسير هذه العلاقة وتستمد منها مصدر حياتها ومصدر قدسيتها أيضا: أي سلطتها في المجتمع. في وسائل الإعلام اليوم يقولون – لحم العلماء مسموم. أي لا يجوز انتقاد رجال الدين. ونقدهم هو بمثابة أكل لحومهم. هذه النخب الدينية كانت في المجتمعات التقليدية- وما تزال في بعض المجتمعات- تتوارث المواقع وتتحصن فيها باساليب عديدة لا تخرج عن علاقة الولاء والتبعية واستعمال السلطة الدينية لإخضاع العامة للنخبة السياسية والدينية وإخضاع الدنيا للمعايير الدينية: تحكم فكرها قيمة أساسية: التعارض النهائي بين الديني والدنيوي – بين المقدس والمدنس. تنبع من ذلك كل أشكال الإقصاء: الولاء والبراء. سلطة رجال الدين تحتل مكانة هامة في المجتمعات التلقيدية. سلطة على ضمائر الأفراد وعلى المؤسسات السياسية والاجتماعية أيضا.
في المجتمعات العربية الإسلامية ما زالت السلطة الدينية تمتد إلى المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. صورت المذهبيات الإسلامية الحديثة الإسلام على أنه إيديولوجية شمولية مثل الإيديولوجيات البشرية الكبرى: الليبرالية والاشتراكية والاجتماعية. هكذا جعلت النخبة الدينية من الإسلام وسيلة للاستيلاء على الحكم بدون برنامج سياسي واتخذنه مرجعية للمجتمع “الإسلامي”. فالمجتمع نفسه -في نوع من التقديس- أصبح تمثيلا لـ “الأمة ” أي الجماعة الإسلامية التي أنشأها الرسول في المدينة. لكن الغريب أن هذه النخب الدينية اجتهدت كثيرا لتدرج قيم” الحداثة الليبرالية الاقتصادية” -أي قيم السوق تحديدا- في منظومتها التقليدية السائدة في المجتمع الذي تريد أن تبقيه تقليديا في كل المجالات.
في ظل هذه البنية التقليدية نشات حاجات جديدة لم تضبطها النصوص الفقهية الجامدة ولم تستوعبها النخب المتحكمة في القيم: العمل الماجور في المؤسسة الصناعية والخدمة العمومية والمصارف واللعب والترفيه والإبداع الفني والجمالي وعمل المرأة والصحة العمومية والجنس والعلاقات خارج الأسرة والفقر والسرقات اللصوصية والتسول والاعتداء على المال العام والهجرة إلى “بلاد الكفر”. العالم تغير لكن آليات التفكير ماتزال جامدة عند النصوص.لم ترد نصوص قطعية ولم تتمكن النخبة الدينية من تطوير فقه “النوازل” الذي برع فيه أجيال من المغاربة عبر العصور. 
نشأت أعمال لا تخضع للقانون ويبررها الفقه- التهريب مثلا- وأعمال أخرى تخضع للقانون ولا يقبلها الفقه- التعامل مع البنوك مثلا. ظهرت ألعاب جديدة ينكشف فيها الجسم الذي يعتبر عورة ورقصات فيها إغراء ونصوص فيها خروج عن مألوف النصوص وفن فيه غواية. ظهرت اماكن ينعدم فيها الأمن وأخرى يكون فيها البشر عرضة للخطر في قلب المدن ومخاطر لم ترد في كتاب مقدس. تطورت حركات الجماهير وباختصار عجزت المؤسسات التقليدية وفكرها عن استيعاب الحركة والفعل الاجتماعي المتطوروالمتقلب بالضرورة. ترتب عن ذلك تضارب في الموازين وخروج قطاعات اجتماعية كاملة عن سلطة التشريع والفقه معا. غابت ضوابط المجتمع التقليدي ولم تفلح المعايير الحديثة في ضبط حركة المجتمع المنفلت من عقاله.
هكذا انفلتت القيم من سلمها ولم تعد تخضع للتراتبية التقليدية ولم تنشأ تراتبية حديثة لغياب رشادة تنتظم المجتمع بكامله. هكذا انفلت العنف باعتباره معبرا عن معيار أساسي يسود في المجتمع: معيار القوة.
القوة المادية والقوة المعنوية- القوة المالية وقوة النفوذ وقوة المنصب. زالت الحدود بين المجالات وتفككت المهن والحرف والتقاليد والمجالات التي كانت تحضنها: الأسرة والمحترف والمسجد والزاوية والمدرسة والمؤسسة الرسمية. لم يعد العلماء ولا الشيوخ ولا المعلمون ولا أرباب الصنائع والحرف والأداب والعلوم يتحكمون في سلم القيم بل ربما صاروا ضحاياه.. سادت وسائل النفوذ الحديثة: المال والإعلام والمنصب والعلاقات مع أصحاب النفوذ.
هكذا أصبح الشارع المنفلت من عقاله هو منتج القيم الكبرى في أسواق رائجة: سوق التهريب وسوق البضائع المهربة والعلاقات غير الشرعية والنفوذ المحرم والعلاقات السرية والمال العام المنهوب. هذه هي أسواق القيم الجديدة.
ثقافة الشارع والملعب والسوق هي التي أصبحت تحدد قيم الأسرة والمسجد والمدرسة الجامعة والصحافة والشعر والفن زالمؤسسة الاقتصادية والإدارة والسياسة. وهذه هي “الثقافة” التي أصبحت سائدة في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي أيضا : إن لم تكن معي فأنت إرهابي -أو إن لم تكن معي فانت طاغوت – أو ان لم تكن معي فأنت ردئ- إن غن لم تكن معي فانت غير ديمقراطي…
“النخبة” التي كانت تنتج القيم أصبحت الآن ضحية القيم الجديدة. بعد جمهور البارصة والريال سياتيكم زبائن الخضر ورواد المقاهي ورجل الشارع ليزعموا انهم النخبة. بل سيأتي المعتوهون والمنحرفون والهاربون ليترشحوا في الانتخابات القادمة باسم النخبة. أيها المثقفون غطوا رؤوسكم وحذار من أن ينتبه لوجودكم أحد لئلا تفقدوا سكينتكم.