الرئيسية / الرئيسية / المُقَارَبَةُ الوَطَنِيَّةُ لِلثَّقَافَةِ

المُقَارَبَةُ الوَطَنِيَّةُ لِلثَّقَافَةِ

ا.د.آمنة بلعلى

جامعة مولود معمري-تيزي وزو
كيف نتصالح مع ثقافتنا؟ وكيف نطوّرها ونسوّقها ونجعلها رأسمالا رمزيا يؤكّد حضورنا في العالم؟ كيف نشغّل هذه الثقافة بما فيها من أشياء وأفكار وسير رجال وتاريخ ممتد بثرائه وتنوّعه، يسمح لنا بالانطلاق نحو المستقبل؟ وبأية رؤية نقاربها ولأية مقاصد؟ وهل تبدو العبارة سالفة الذكر التي عنونّا بها المقال كافية لتأدية المعاني التي يراد تحقيقها من هذه التّساؤلات؟ وهل يمكن أن نربط المقاربة التي هي منهجية في البحث والتّحرّي والمعاينة الموضوعية والعلمية للظواهر بمفهوم الوطنية؟
المقاربة الوطنيّة هي المقاربة المحكومة بشروط المجتمع الذي تعبّر عنه، الشّروط الوجدانية واللّغوية والدّينية والاجتماعية المشتركة التي ينبني عليها أي مشروع ثقافي، وهي المقاربة التي تستمد منه تصوّرها الفلسفي النّظري وتسعى إلى تحقيقه عمليا في الواقع. إنّها عصارة التاريخ وقد سار في حركيّة تراكميّة متفاعلة مع المكان والزمان وسياقاتهما المحيطة. وفي حالة تاريخنا، فالأمر يتعلّق بتاريخ مقاوم منذ كان، من أجل تأكيد وجوده الذاتي أمام سيل من الحضارات الغازية، تاريخ يمكن تعريفه بأنه تاريخ البحث عن الذات السيّدة المستقلة، ولذا، فالمقاربة الوطنية مهمتها أن تقوم باستئناف هذه الروحية وهذه الفاعلية التاريخية في الثقافة لتكون رؤية جوانية منفتحة على الكوني، تقيم في الذات ذاتها، وتقدّر عطاءاتها، وتستأنف خبراتها، فما الذي يجعلنا نؤكّد على هذا النوع من المقاربة في عصر تتفاعل فيه الهويات، ويتمّ الاعتقاد بأن كلّ معنى يشير إلى الهوية هو محض انغلاق وقد يكون عائقا، أمام التّطور والبقاء والانكفاء حول ماض يعتقد البعض أنه سبب تخلّفنا؟
الحقيقة أنّ هناك جملة من المعوّقات التي سمحت لهذا الطرح بأن يبرز، ويتغذّى بإيعازات مختلفة، يحاول بعضها الإيهام بأن أيّ تقدّم لا يتمّ إلا انطلاقا ممّا يحصل خارج الوطن، ولقد ساهمت الهيمنة الاستعمارية ومخططاتها في تجريد الشعب الجزائري من ثقافته في تعزيز هذا التوجّه، فوجدنا مخلفاته في جزائر الاستقلال تنخر في أوصال نخبة من المثقفين كوّنتهم المدرسة الاستعمارية وعُوّل عليهم في تبعيته، وأخرى تجترّ مخلفات ماض تليد تهيمن عليه منظومة فقهية أبدية لا تليق بحاضر أمّة تسعى لكي تكون لها ثقافة عالمة وحيّة، وقد ساهمت كل واحدة من هاتين النخبتين في غياب الإبداع الذاتي بفعل الاستكانة إلى قانون المهزوم المولع بالتقليد ثنائي الأبعاد، وغابت القيادات القادرة على تنوير العقل واستعادة الذات المغتربة، وطوى النسيان الرموز الفاعلة أو تمّ تزييف مشاريعها ومحاربتها، الأمر الذي أدى إلى غياب المشاريع التربوية والتعليمة والمعرفية التي تضع في الاعتبار الوطن والوطنية ومستلزماتهما، من تاريخ وجغرافيا وأفكار، ففشلت كل المشاريع الثقافية، وأهدرت جهود بعض المثقفين المؤسسين للثقافة الوطنية باللغتين العربية والفرنسية، ونشأت أجيال لا تعرف شيئا عن ثقافتها الوطنية، وهدمت أسوار المدن القديمة، وتركت آثار مدن بكاملها للإهمال والنسيان، وتم السّطو على رموزنا الثقافية وتقاسمت الحظائر إرثنا، وأصبح الوطن والثقافة في خبر كان.
وأنا أعاين بعض ما اعتقدت أنه يندرج ضمن المقاربة الوطنية للثقافة لفت انتباهي كتاب لعبد الله الركيبي ألفه سنة 1961، عنوانه: “دراسات في الشعر الجزائري الحديث” وقدم له الشاعر صالح جودت، وهو على صغر حجمه، بدا من عتبته الأولى محكوما بهذا التّصور الوطني للثقافة الجزائرية وبخاصة الشعر، وكانت الثورة في نهايتها، فكان الكتاب كما جاء في مقدّمة صاحبه وفي تقديم صالح جودت جزءا من المقاومة الثقافية للاستعمار، وقد ذكر الركيبي أن من الأهداف الأساسية لهذا الكتاب هو التّعريف بالشعر الجزائري منذ عهد الأمير إلى ثورة التحرير، فجمع النصوص من مجلات جزائرية وتونسية وعربية، ورصد أهم المراحل التي قطعها الشعر والثقافة الجزائرية الوطنية المكتوبة باللغة العربية، ليؤكد بأن الأدب والشعر ملازمة الثقافة، ولا يمكن تصوّر أدب إلا داخل ثقافة، ولا مقاومة إلا بالثقافة. ولذلك شهدنا بعد الاستقلال تجليات هذا التّصور في مجلات راقية كالأصالة والثقافة نافست مجلات مشرقية اهتمتا بالشأن الثقافي والتاريخي الوطني، وكانت من نماذج المقاربة الوطنية للثقافة، وكان يمكن للمثقّفين الجزائريين، آنذاك، وهم يؤسّسون لثقافة وطنية من خلال ذلك النشاط المتعدد والمختلف الذي شهدناه، في التحرّي والمساءلة النقدية للمفاهيم والإشكالات الثقافية في جزائر الاستقلال مع عبد الله شريط ومصطفى الأشرف ومولود معمري وعبد المجيد مزيان ومولود قاسم نايت بلقاسم وأبو القاسم سعد الله وغيرهم من الذين ناضلوا بالكلمة قبل الاستقلال وبعده، كان يمكن أن يأتي بعدهم من يعمّق هذه الرؤية ويثبّت الاعتزاز بهذه الثقافة، وبالفكر الفلسفي الجزائري، ويواصل المشروع الثّقافي الذي كان بإمكانه التّأسيس لمدرسة جزائريّة تفخر بها الأجيال اللاحقة، غير أنّها بقيت محاولات فردية لم تملك دعما سياسيا ولم تصمد مثل هذه التجارب أمام محاولات المحو والإقصاء مثلما حدث لمالك بن نبي وغيره، وبدعاوى شتّى أبرزها اتّهام أصحابها أحيانا بالإيديولوجية الدّينية وأخرى بالجهويّة وفي أغلب الأحيان بالتعارض مع العالمية والأممية والهوية الضيقة، وهو ما اعتقدوه مقاربات مناهضة للعلم، في الوقت الذي كانت مجتمعات أخرى لصيقة بنا جغرافيا ترى أن الهوية الوطنية الحقيقية هي دعوة إلى العلم، لأنها لا تتأكّد واقعيا إلا بفعل العلم. فالهوية ينبغي أن تدخل في تنافس مع الهويات الأخرى؛ ولذلك فهي في حاجة إلى كل وسائل القوة لتظل حيّة أولا ولتصبح في طليعة الهويّات الكونية ثانيا، وخاصة بعد أن استجدت حرب الهويات واللغات والثقافات والحضارات وكان لكل حرب أسلحتها، ولعل العلم هو من أهم أسلحة الهوية والثقافة الوطنية.
لقد فهم غيرنا أن المقاربة العلمية هي مقاربة ضروريه ولكنها تبقى ناقصة ما لم تتوّج بوعي ذاتي يكون بمثابة الدافع للعلم والمحفّز نحو التقدّم، وفي غياب هذا المحرّك الروحي يمكن أن يتلكّأ العلم، فتتلكّأ الثقافة معه، ويطوي النسيان ما لم يكن في الحسبان أمام منظومة سياسية لم تؤمن بالثقافة الوطنية، ولم تسع إلى تجسيد مشروع وطني على مستوى الإعلام والتعليم وسائر المستويات، ونظام يستنسخ ذاته ولا يهمّه الوصول إلى السّلطة ولا تسيير المؤسسات بأفكار مثقّفيه، بل، لقد فسح المجال إلى تجار الأفكار جنبا إلى جنب مع تجار الحقائب لجلب الربح السريع، وكنا ننتظر مع كل عشرية أن يعاد الاعتبار لمفكرين ومثقفين طواهم النسيان، ليتمكن الجيل الجديد من أن يتحرّك على وتيرة أفكارهم، لا على أفكار أدعياء الثقافة الذين تسيّرهم الإيديولوجيات والمصالح الشخصية فأصبح من اعتقدناهم رموزا أشبه بالجيف لا يزيدون الواقع الثقافي إلا عفنا. إن المثقف الحقيقي كما يقول “أولفر وندل” هو” ذلك المفكر الذي بعد مرور مئات السنين على وفاته وبعد أن يطويه النسيان، تعمل المؤسسة على إعادته، ويصبح الذين لم يسمعوا به يتحرّكون على وتيرة فكره” ولذلك؛ فأيّ استعادة واستئناف لرمز من رموز الثقافة الوطنية يعد تأسيسا للمقاربة الوطنية للثقافة، وقد لاحظنا أثناء حراك 22 فيفري بداية الوعي بتحقيق قفزة نحو تحقيق ثقافة مجتمعية وطنية تؤسس لجزائر جديدة، في شكل صراع بين الذات ومعيقاتها، وصياغة تحول ديمقراطي، يستمد تنظيراته من فلسفة المجتمع ومن رموزه ومثقفيه وما به يتشكل الرأسمال الرمزي الذي يشغّل الطاقات، في مجتمع مدني، يؤمن بأن الهوية الجزائرية هي التي انتهت إلى ما هي عليه الآن بعد تحولات تاريخية طويلة.
غير أننا نملك ركاما من المعيقات، يحول بيننا وبين المؤسّسين الأوائل للثقافة الوطنية، وقد كانوا شهداء على مرحلة استدمارية طويلة الأمد، ولم يمنعهم ذلك من جعل الثقافة وسيلة مقاومة، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا السّبيل، من أشباه المثقفين الذين عمّقوا كره الذات، وروّجوا لثقافات أخرى مهما كان مصدرها شرقا وغربا، فكان همهم الوحيد هو تصوير المآسي التي تكاثرت، وزرع بذور الفتنة والخلاف وصرف النظر عن الواقع ومشكلاته وتحدياته وتوجيه الجهد إلى التشكيك في التاريخ والرموز، وأصبحوا يمارسون خناقا على الثقافة الوطنية خاصة في الثلاثين سنة الماضية، هو نفسه الصراع مع الكينونة، أي ما يجعل الجزائري كائنا ومستمرا في كونه كائنا.
إن المقاربة الوطنية للثقافة التي نذكّر بها، ولا ندّعي التنظير لها في هذا المقام، ليست سوى تلك العناية الذاتية والمحافظة على الذات والتي تضمن لها إرادة الفعل التي ينبغي أن يعاد تشغيلها من أجل تجاوز التعنيف الهوياتي المدمّر الذي يمارسه المثقف الجزائري على نفسه ويقود ثقافة بكاملها إلى التبعية والإفقار، وإبراز نفسه في صورة التابع القابل للتحوّل نحو اللّافعل وتحصين ما يشبه البطالة الثقافية التي لا تعير قيمة للمعرفة بحجة واحدة هي تأخّر منظومة الفكر الديني وحسب، وهي وجهة نظر عرجاء تخفي الأسباب الأخرى التي تحارب منطق المواطنة الذي يرفض الوصاية أيا كان مصدرها، وتبرئ أطرافا أخرى تلعب دور إشعال النار في الهشيم مثلما تشعل النيران في الغابات والمزارع في الواقع.
لقد سادت ثقافة مجتمعات لا فرق بينها وبين الثقافة الجزائرية سوى أن تلك المجتمعات تملك الإحساس بتقدير الذات، والافتخار بقليلها وتثمينه وتسويقه والترويج له ورفع شأن البسيط ليصبح فخما، فجعلوا من بعضهم من محلّلي الخطابات الفلسفية الغربية ومستعرضي الفكر فلاسفة ومفكرين، ومن جهود المثقفين من الباحثين والدارسين مدرسة يفاخرون بها. أما المثقفون الجزائريون فهم مولعون بتفكيك القيم، ففي كل يوم نستفيق على حرب معلنة أو خفية على هذا الرمز أو ذاك من الرموز الوطنية أو إعادة تشكيل متن بجعله هامشا والقضاء على كل ما كان ذا معنى والسعي إلى البحث عن بديل خارجي واستعماله أداة للسخرية من عطاءات الذات وجلدها وإعلاء رأسمال ثقافة الآخر لتدفع الثقافة الجزائرية ضريبة تنكر مجتمعها لها بمؤسساته وأفراده.
ليست المقاربة الوطنية للثقافة سوى تحميل النفس على أمر الثقافة وتهيئتها عليه وهذا المعنى نفسه الذي تحدده المعاجم لكلمة “وطن”. ومثلما يسكن الإنسان المكان ويألفه فيتّخذ منه وطنا، فهو يسكن أيضا إلى ثقافته ويألفها حتى تصبح له وطنا، وهكذا تتحوّل الثقافة إلى علاقة وطن ومواطنة، وتصبح ثقافة منتصرة، والثقافة المنتصرة تنتصر بتوطين المنتمين إليها أنفسهم عليها، ولذلك فكلّ مقاربة وطنية للثقافة هي مقاربة الثّقافة لنفسها، وبرؤية جوانية تتأمّل فيها الذات ذاتها، وترى العالم بعيون الثقافة الوطنية. ومن أجل أن يحدث هذا ينبغي القضاء على ثقافة اقتناص الفرص، ووباء محاربة كل فعل ثقافي حقيقي، وتجفيف منابع الإفقار الثقافي، واستئناف مصادر الرأسمال الرمزي الوطني واستغلاله، ومواجهة التنبؤات الخاطئة حول مصير الثقافة الجزائرية التي هي بمثابة حرب نفسية يشتدّ وطيسُها يوما بعد يوم، وخاصة أمام صراع الجهات والإيديولوجيات التي تضع الثقافة في مواجهة إشكالات أخرى أكثر تعقيدا، إذا لم تحل، فإنها ستجعل الجزائر كالرجل الذي أصيب بالزهايمر، حين لا ينفع معه شيء.