الرئيسية / الرئيسية / المبادئ الإنسانية وثقافة الجزائريين السياسية

المبادئ الإنسانية وثقافة الجزائريين السياسية

عاشور فني

 

 

 

 

 

لم يعد الجزائريون يبدون اهتماما بالقضايا الإنسانية التي يموج بها عالم اليوم. لا يساندون القضايا العادلة ولا يستجيبون لنداءات الواجب للتضامن مع الشعوب المكافحة من اجل الحرية ولا مع المآسي التي تهز وجدان الإنسان في العالم المعاصر. وأكثر من ذلك لم يعودوا يحتجون على الظلم والطغيان ولا يهتمون بالإبادات الجماعية والمجازر ولا بالمجاعات والفقر والتشرد. لا يتظاهرون ضد الفساد في بلدهم ولا لنصرة القضايا العادلة في فلسطين الصحراء الغربية ولا في البلدان المجاورة ولا في البعيدة.

وفي المقابل ظهرت نزعة انتقائية تناصر نوعا من القضايا ذات صبغة مذهبية أو عرقية ضيقة أغرقت الرأي العام في نوع من الضبابية والعته السياسي لم يسبق له مثيل. لم تغب القضايا الإنسانية فقط بل القضايا السياسية الراهنة. أرى أن التصحر الثقافي والسياسي وراء كل هذا الانحطاط.

كانت الثورة الجزائرية مصدر تضامن عالمي بفضل مبادئها الإنسانية وتضحيات شعبها من أجل الحرية وغرست في أجيال الاستقلال فكرة عن العالم باعتباره فضاء للإنسانية والتضامن الإنساني والقيم الإنسانية وجعلت من الوقوف في وجه الظلم والطغيان ومناصرة القضايا العادلة في العالم واجبا شخصيا. كان ذلك قيمة كبرى في الثقافة السياسية وكان الحكام أنفسهم مضطرين لتبرير سلوكاتهم بالقيم الثورية. كانت القيم الثورية هي مصدر استلهام الثقافة السياسية للحكام والمحكومين معا. بعضهم أفرط في استعمالها لزيادة تشديد قبضته في الحكم لكن لم يكن بإمكانه التنكر لتلك الثقافة السياسية. ومن بين التهم التي كانت تلصق بالحكام والمسؤولين هي تهمة ” الرجعية”. أي مناهضة الثقافة الثورية السائدة. وفي ما يتعلق بالمواطن البسيط كانت تظهر تلك الثقافة في حياته اليومية.

في هزيمة 6 جوان 1967 احتل الجزائريون السفارة الأمريكية وحطموها. كانوا يجمعون التبرعات للأفارقة وللمناضلين من أجل الحرية في أمريكا اللاتينية وكان هناك “يوم الشبيبة المناهضة للامبريالية في العالم”. تظاهرة تنظم في كل الولايات كما يجري اليوم تنظيم يوم العلم وغيره. العدوان على العراق في بداية التسعينيات أثار موجة عاتية من الاحتجاجات في الشارع الجزائري. تجمهر المتظاهرون أمام مقر الأمم المتحدة ثم نظمت الجامعة مسيرة ضخمة إلى سفارة السعودية في أعالي بن عكنون وسلم وفد برئاسة المرحوم الدكتور الجنيدي خليفة رسالة للسفير السعودي احتجاجا على دعمها لاحتلال العراق محملين السعودية مسؤولية تحطيم العراق. ومن بين ما قاله المرحوم الجنيدي خليفة للسفير السعودي أنه “لولا البيت العتيق(وأشار إلى صورته المعلقة فوق  مكتب السفير) لكان الجزائريون يتجهون في صلاتهم إلى بغداد لا إلى مكة.”

ها هي اليوم شعوب تقتّل وتشرّد ودول تحطم ولا تجد لدى الجزائريين تاثرا بما يجري. بل لم يعد هناك تضامن بين الفئات داخل المجتمع كما كان عليه الأمر في مرحلة التضامن بين العمال والفلاحين والجنود والشبيبة والمثقفين والنساء. هكذا كان ترتيبها في الخطاب السبعيني والثمانيني حين كان الطلبة يضحون بعطلهم الصيفية في الأرياف لمساعدة الفلاحين والسهر على تطبيق”الثورة” الزراعية ومع العمال لتحقيق مطالبهم النقابية. فما الذي أصاب ثقافة التضامن السياسي لدى الجزائريين؟ أهي العشرية القاتلة التي مر بها الجزائريون وشعروا فيها بإهمال العالم؟ أم هو تحول في الثقافة السياسية؟ أم هي ثقافة الدروشة والمذهبية والطائفية المقيتة والتدين الكاذب؟

الجزائر المنتصرة كانت متضامنة مع كل الشعوب المغلوبة وكانت مواقفها مجسدة في كل المناسبات. وكان سلوك المواطن العادي ينم عن وعي سياسي رفيع. كانت العدالة هي المعتقد. مهما كانت الديانة أو العرق أو الانتماء. ثم مر على الناس حين من الدهر أصبح كل هذا يسمى “خرطي”. أي “تفاهة”. وجاء بعد ذلك من سمى كل هذا “كفر”. وجاء بعد ذلك من اعتبر كل ذلك “وهم”. ثم جاء زمن أصبحت الجزائر نفسها “قضية” وصار هناك من يتعاطف أو يتشفى. أظن أننا لم نعد ننتمي لنفس المجتمع الذي عرفنا. ينبغي الاعتراف بأن المجتمع بدل موقعه تماما. أصبحت القضايا الإنسانية لا تعنيه بل يهتم بالانتماء العرقي والمذهبي أكثر من اعتنائه بالجوهر الإنساني.  موقفه من فلسطين أصبح قضية دينية بل مذهبية ضيقة. وتجزأت القضية. فهناك من يفضل الوقوف مع “غزة” ضد “راملله”. والعكس صحيح. وهناك من يفضل الوقوف مع نفسه. ضد الجميع. قضية الحرية أصبحت قضية سلطة وانتخابات في البلدان المختلفة ولا ينطبق ذلك على بلده. وهناك من وقف مع مرسي  ضد السيسي أو العكس. غابت القضية الأساسية وهي حرية الشعب المصري الذي أسقط مبارك وجاء بالمرسي وبعده بالسيسي. وسيأتي بغيرهما. هناك من يقف مع بشار أو ضده. وهناك من يقف مع هذا الفصيل أو ذاك في ليبيا. ولا نعرف للجزائريين موقفا واضحا مما يجري في المالي والنيجر. وهناك من يقف مع نفسه ضد الجميع. مآسي الشعوب الأخرى لم تعد تعنيه. انفتاح على كل تقنيات العالم وأسواقه وانغلاق على القضايا الإنسانية الكبرى. هذا غريب عن ثقافة الجزائريين السياسية الحديثة. هو نكوص وانهيار رهيب أصاب الثقافة السياسية للجزائريين. يعادل ما أصاب الممارسة السياسية في الجزائر.

أعتقد أن الأمر مرتبط بالاستبداد السياسي وتغليب الممارسة السلطوية في البداية ثم صعود حركات الإسلام السياسي على اختلافها في مرحلة تالية فقد كانت نتيجة كل ذلك أن تغيرت أسس التفكير السياسي وتغلبت المعايير المذهبية والحركية على المسائل المبدئية فأصاب ذلك ثقافتنا السياسية في الصميم.  ثم أجهزت مرحلة العنف على الباقي. أما الفساد فقد أسس نظامه وثقافته على أسس جديدة.له الآن مفكروه ونخبته الصاعدة. الإسلام السياسي نفسه اتخذ أبعادا تجعله مطية لثقافة الفساد الجديدة. فالثقافة السياسية للفساد هي الطاغية على كل التيارات.

رابط المقال في اوراق الخميس بجريدة الحياة