الرئيسية / الرئيسية / الف ليلة، وليلى الغامضة

الف ليلة، وليلى الغامضة

واسيني الاعرج

الصورة أخذت بالقرب من جامع الدشرة الصغير، في مرتفعات تيكْراوْ الذي أعدتُ ترميمه، قبل سنوات حتى لا يموت، وفاء لذلك الزمن الذي لا أدري إن كان جميلا أم العكس؟ أعرف فقط أنه كان صعبا وقاسيا.
تعلمت فيه اللغة العربية فيه، وعمري حوالي الست سنوات. وكنت أدرس الفرنسية في المدرسة المختلطة بلدية لعشاش، هكذا كانت تسمى École communale mixte des Achaches التي كان يدرسنا فيها فرنسيون من أمثال: ماكس، جاكار، جيرار، سالموني، كازيي، وغيرهم. أتذكرهم واحدا واحدا. كان ماكش يحملني على رقبته من حين لآخر أول ما دخلت إلى المدرسة. جيرار كان يعلمنا دقة الرسم والقص. وكان معجبا بما كنت أقوم به. كازيي يعلمني الحساب والكتابة وكان أول من أطلعنا على جهاز التسجيل. كان يقرأ التص وهو يسير في ممرات القسم ومن حين لآخر يسقط المفتاح عمدا فيسمع الصوت. ثم يفتح المسجل فنسمع صوته وهو يقرأ ثم صوت سقوط المفتاح بدهشة غير مسبوقة.
كان معلمي في الجامع، المدرسة القرآنية، هو سيدي سعيد المغربي، الذي علمني كتابة العربية في عز البرد الشتوي والألبسة الممزقة وشعلة النار التي كنا نوقدها ناحية الحائط الخلفي للجامع الصغير، نتدفأ بها، ونسخّن عليها ألواحنا المغسولة بالصلصال حتى تصبح بيضاء ناعمة مثل الحرير، ليكتب عليها الفقيه من جديد. وقبل الخروج نجلس قبالته على ركابنا ونقرأ ما كتبه لنا حفظا وهو يصحح. وعندما يتأكد من حفظنا للآية، يسمح لنا بمحوها ووضع اللوحة البيضاء في الزاوية. إلى يوم تعلمت القراءة والكتابة، فوضعني سيدي سعيد في آخر الصفوف مع العارفين؟ يعني الذين يهجون الحروف ويربطونها ةلهم الحق في مسك القرآن بعد الوضوء. وبدأت اقرأ القرآن الكريم مباشرة في المصحف.
كان إحساسي كبيرا بأني خرجت من أمية اللغة الغربية، وربحت الدنيا ولكن الآخرة أيضا.
إلى يوم اضطررت إلى الاكتفاء بنسخة القرآن الممزقة، غلافها مفصول عن الكتاب، بعد أن استولى أصدقائي على النسخ التسع الجيدة. أخذتها من الكوة الصغيرة، أو كما نسميها وقتها البرجة (الصورة). وجدت متعة كبيرة في قراءته، بل لذة لا توصف، أيضا. داومت على قراءته، على الرغم من فرضيتي أنه يشبه الكتب التسعة الأخرى إلا انني وجدته سهلا وقريبا إلى روحي. ربما لأن غلافه الممزق كان يشبه لباسي. بعد شهور من القراءة الجادة والالتصاق بالكتاب، مما أفرح جدتي حنّا فاطنة التي كانت تريديني عارفا للعربية لأستعيد أمجاد أجدادنا الأندلسيين، اكتشفت شيئا مرعبا أخافني من عقاب الآخرة. لم يكن ما كنت أقرأه قرآنا، إنما ألف ليلة وليلة. طيب؟ قلت وأنا أتساءل في داخلي، من وضعه هناك، من ضمن نسخ االقرآن الكريم التسعة؟ من خبأه؟ من كان يقرأه سرّا؟ رجل؟ خادمة الجامع الغامضة، ليلى، التي كنا عندما ندخل فجرا إلى الجامع، التي قيل لنا أنها جاءت من جبالة، هرذبها أهلها خوفا عليها من اغتصاب الحركى والعسكر؟ كنا نجدها متكئة بظهرها على الحائط تقرأ القرآن وهي تهز رأسها بلا توقف. وعندما ترانا أو تسمع ضجيجنا في الطحطاحة المقابلة للمسجد، تسلم على القرآن ثم تضعه في البرجة وتخرج منكسة الرأس، بلباسها الأسود الذي يظهر بوضوح قامتها الفارعة وملامح جسدها الجميل؟ لم أعرف يوما وجهها، لكن شيئا من النور كنت أراه يشع من ملامحها الغامضة وغير المستقرة كلما رفعت رأسها قليلا لتقول صباح الخير بشكل خاطف، بصوت طفولي بالكاد يُسمع، أو لتجيب عن سؤال الفقيه: لالة ليلى، حضّري الشاي للذراري. فتجيب بصوت ناعم: نعم سيدي. لا أدري ماذا كان يُحدث فيّ ذلك الصوت. شيء غامض يسكنني هو بين اللذة والرهبة. تترك الصينية عند الباب ثم تنطفيء فجأة. رأيتها في مرة من المرات، في الحلم. كانت هي بشعرها الناعم المنسدل على وجهها، وجسدها الرشيق، ولباسها الأسود. سألتني عن الكتاب وكنت قد سرقته من الجامع. كانت منفعلة ضدي. غاضبة. وجهها المحمر الذي يظهر نمشا جميلا على خديها، تغير ومال نحو لون فحمي غامق:
– وعلاه قتلتني؟ واش عملت لك؟
– ماذا فعلت لالّة ليلى؟
– من وين تعرف اسمي؟
– من سيدي. ولكن كيف قتلتك؟
– سرقت كتابي.
– لا أدري؟ ما نعرفش. ما قدرتش نطلقه من يدي. شعرت كأنه كتابي. حبّيته.
– وهل نسرق كل ما نحبه.
– إذا لم أفعل، غيري يسرقه.
ابتسمت. ثم ضحكت قليلا ثم التفت نحوي:
– اسمع يا لزعر الحمصي (الأشقر بلون الحمص) يا المهبول. أنت جابك ربي لي من كتاب. هذا الكتاب سيكون قدرك.
هززت رأسي وانا استجيب لابتسامتها الجميلة التي أعادت حمرة وجهها.
هل تقبل بي وراءك؟
– كيف.
– كلما فتحت قرآنك، سأقرأه معك. لا تمانع من أن أجلس وراءك، بحيث أراك ولا تراني؟
ضحكت أنا ايضا بعد أن شعرت بعطرها يخترق أنفي قويا. مزيج من الغالية والياسمين والبنفسج البري الذي كثيرا ما ينبت في مقبرتنا.
– هل تقبل.
– إذا تسامحيني على سرقة الكتاب أقبل.
– قلت لك هو كتابك. هو صدفتنا.
ثم مدت يدها إلى وجهي وأغمضت عيني بأناملها.
– هل لي أن أطرح سؤالا عليك.
كنت فقط أريد أن أعرف لماذا هي هنا.
– نم الآن وسأعود لك في يوم ما وأحكي لماذا أنا هنا.
اهتز بدني كله. كيف عرفت السر الذي بداخلي؟
لم أنم. منذ تلك اللحظة لم تغب عن وجهي. اليوم، تجاوزت الستين وما تزال حاضرة بلباسها الأسود، بصوتها الناعم.
كلما فتحت الكتاب اشعر بأنفاسها لكنني عندما التفت صوبها لا أراها.
عندما انتهيت من قراءة ألف ليلة وليلة غابت نهائيا. إلى اليوم أحلم أن أراها لكنها كأنها هجرت المكان نهائيا.
من تكون تلك المرأة، لالّة؟ من أتى بها إلى ذلك المكان؟ كل الذين سألتهم وقتها من أصدقائي: شكون هذه المرأة؟ عمارة الدار كما قالت جدتي؟ لا يراها كل الناس؟ لم يعرفوها، بل لم يروها أيضا؟ منذ ستين سنة وأنا أبحث عنها لأني متأكد من أنها هي من وضع الكتاب، في ذلك المكان بالضبط.
في أعماقي تمنيت أن أراها ثانية فقط لأرجع لها كتاب ألف ليلة وليلة المسروق، حتى ولو لم تكن تريده. كنت فقط أريد أن أعتذر لها عما بدر مني، وأقول لها شكرا، من مسجد صغير، على أعالي جبل تيكراوْ، في قرية غير محسوبة إلا على الخرائط الاستعمارية لأنها منطقة عسكرية يخترقها خطّا موريس وشال، طوحت بي في فراغ اسمه الدنيا، وهذا أنذا اليوم ما زلت أسبح فيه.
شكرا لك لالّة أينما كنتِ. لا يهمّ إن كنتِ حقيقة أم مجرد عْمَارة الدار كما قالت جدتي، أو روحانية مشردة كما قالت أمين ضاعت أمامها سبل الدنيا. فقد عمّرت الدار والقلب، وأخرجتني من كل يقين.
كلما فتحت كتاب الف ليلة وليلة، شعرت بأنفاسك ورائي، وبعطر الغالية والبنفسج. اليوم لا افتحه إلا لأراك.
ألم يقل جدي الموريسكي، منذ زمن بعيد، من يسرق كتابا، يُصَبْ بعدواه؟