يتهم تيار من الاعلاميين و المثقفين من ذوي اللسان الاحادي من الفرنكفونيين الماضويين خصوم بنغبريت التي اقترحت ادراج الدارجة لغة التعليم في المدرسة بالبعثواسلاميين تارة ، و بالمحافظين تارة اخرى ، حيث يوحون بذلك ان في الساحة قوتين ، او كتلتين لغويتين و ثقافيتين لا ثالث لهما ، و هو في نظري طرح مغالط و مزيف و مضلل لجوهر الصراع الجاري في الجزائر داخل السلطة لكن ايضا داخل المجتمع منذ عقود … فالمسألة هي اكثر تعقيدا مما تبدو في الظاهر على مستوى الميديا بشكل اساسي . و ما الدارجة هنا الا تغطية لهذا الصراع على السلطة الذي لا يريد ان يكشف وجهه بشكل دقيق وواضح ، ويبدو للمراقب لاول وهلة ان الصراع هو بين عدوين ، واحد مناصر للحداثة و التقدم والثاني متشبت …” بالقرون الوسطى ” و التي تعني ايديولوجيا عند الاول بالسلفية الوهابية و عرب الشرق الاوسط و ما تثيره في المخيال الفرنكوفوني الماضوي من تخلف و بداوة و معاداة للتقدم . و الدليل على ذلك ، هو هذه الانقسامية الخطيرة التي ظهرت بشكل واضح في الميديا الجزائرية ، من جهة العناوين المفرنسة التي لم تكن سوى الوجه الاخر للاولى ، و كلاهما تخندق في معسكر منتج لثقافة الرفض المتبادل ، و كل ذلك كان على حساب الحوار و التبادل الحقيقي للرأي ، و ما زاد الطين بلة و تعقيدا ، هو دخول السياسيين و النقابات في هذه المعركة و هم محملين بمصالحهم وارتباطاتهم و انتماءاتهم القبلية الخاضعة لمنطق الحسابات الايديولوجية و الجهوية و العصبوية .
الفرنسية ، الفرنكفونية الماضوية و معركة ما بعد الفرنكفونية
ارتبطت الفرنسية الجزائرية تاريخيا باللحظة الكولونيالية ، بحيث كانت مرادفا للكولون ، باعتبارها اداة سيطرة و تسلط و طمس لثقافة و شخصية الجزائري المغلوب الموصوف بالانديجان ، و كانت اغلبية الجزائريين محرومة منها ، و لم تتمكن منها سوى اقلية من المتعلمين ممن اندمجوا باشكال و مستويات متفاوتة ضمن النظام الكولونيالي و ذلك مقابل الحصول على الحد الادنى و الشكلي من الحقوق التي تجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية ، لكن هذه الفئة برغم اذعانها الا انها ظلت ملفوظة من الكولون المتشددين ، و هذا مما دفع ببعضهم عبر محاولات يائسة و مسار معقد و طويل للانخراط في الحركة الوطنية ، و التي كانت مطالبها تتلخص في استرجاع السيادة الوطنية و مكونات الهوية الجزائرية من اسلام و عربية و امازيغية ، ولقد لعب الثوريون الراديكاليون دور المحرك لهذه المطالب التي راح معناها يكتمل في ظل حرب التحرير الوطنية و عندما تحصلت الجزائر على استقلالها انبعث الصراع من جديد بين رفاق السلاح على السلطة و ليس على بناء الدولة و استكمال مشروع الدولة الوطنية ، و من هنا اتخذ الصراع على السلطة اشكالا معقدة ، و تحالفات مؤقتة متناقضة ادت في نهاية المطاف الى انتصار الفريق الاكثر قوة ، و ليس الاكثر كفاءة و شرعية ، و هكذا تم الانقلاب على الحكومة المؤقتة الشرعية و عادت مقاليد الامور الى جيش الحدود الذي فرض نظرته في ممارسة الحكم و بناء الدولة و ادارتها ، لكن جيش الحدود الذي خرج منتصرا على الحكومة الشرعية ، و على منافسيه من قادة الولايات تخلص في فترة وجيزة من دميته الشعبوية ، احمد بن بلة و لجأ رجله القوي ، الكولونيل هواري بو مدين الى اعادة ترتيب البيت الجزائري من خلال فرض شموليته عبر تثبيت نظام الحزب الواحد ووأد المسألة الديمقراطية في المهد و استقطاب جيش من المتعاونين المعقدين بتاريخهم الوطني ليجعل منهم سادة جدد يدعم بهم موقعه في الحكم و سلطته الفردية و زعامته السلطوية ، و هذا الجيش المتعاون هو عبارة عن توليفة متناقضة من الفرنكفونيين الماضويين و الاصلاحيين القريبين من فكر جمعية العلماء ، ومنح الكولونيل هواري بومدين مقابل الحفاظ على السلطة لهؤلاء المتعاونين ، امتيازات مكنتهم من ان يتحولوا الى اوليغارشية بيروقراطية و سياسية متنفذة و متحكمة في مفاصل الدولة ، و شجع هذه الاوليغارشية على صراع تحول فيه هو الى حكم من اجل الحصول على مناطق النفوذ منهم موظفو الادارة الكولونيالية ، و الضباط و ضباط الصف من الجزائريين اللذين كانوا في الجيش الفرنسي ، و المنتمون الى عائلات قادة جمعية العلماء الذين كانوا يحظون برعاية الادارة الكولونيالية و لاسباب تاريخية احتلت الفرنسية المكانة العليا في الادارة الجزائرية ، بحيث اصبحت اللغة الفعلية للسلطة ، و هذا ما جعل الفئة الاخرى الموالية للنظام لان تتشكل هي الاخرى كمجموعة ضغط للدفاع عن العربية للحفاظ على مصالحهم و بالتالي الحصول على المزيد من ساحة النفوذ … و كان الحكم انذاك مرتاحا لمثل هذا الوضع ، لانه كان يضفي عليه الشرعية باحتكامه الراعي الاول للعبة السياسية الايديولوجية في الجزائر … و الغريب في كل هذا ، ان الاوليغارشية المفرنسة هي اشرفت على الصعيد الفعلي على سياسة التعريب ، و كان بعض ممثليها ينشرون مقالاتهم في الجزائر الاحداث انذاك ، و في جريدة المجاهد في الدفاع عن سياسة التعريب باللغة الفرنسية …

و كان الضحية في هذه اللعبة ، الامازيغية و الدارجة ، و لذا فعندما تزامن ذلك ببداية ازمة عميقة داخل النظام بعد وفاة الكولونيل هواري بومدين ، و مجيئ كولونيل اخر الى الحكم و هو الشادلي بن جديد تمثلت في الانتقال المحتشم من رأسمالية الدولة ذات الطابع الاشتراكي الشعبوي الى النظام اللبرالي المحتشم المدعم من طرف الرئيس الفرنسي فرانسوا متيزان لكن ايضا في ظهور الاسلام السياسي كقوة سياسية و اجتماعية و ثقافية و ظهور جيل موزاييكي من المعربين الجدد الحداثيين ، و بروز قطاعات عريضة من الشباب المهمش و فقدان الفرنكفونية الماضوية لسلطتها الايديولوجية و المعنوية ، داخل المدارس و الجامعة و المؤسسات الثقافية و كان ذلك في ظل تفاقم التناقضات التي خرجت من تحت الارض الى السطح لتتسارع بوتيرة شديدة و عنيفة بعد الازمة الاقتصادية لعام 1986 بحيث كشفت عن هشاشة ذات طابع مأساوي و تدشينا بليغا لمثل تلك النهاية لذلك الفصل الطويل من الحداثة المطلوبة التي تبنتها الدولة الوطنية ذات الطراز التسلطي …
و ما حدث ، هو النهاية التراجيكوميدية للمشروع المتبنى و المتمثل في استعارة الدولة الوطنية لمنظومة الدولة الكولونيالية بحيث اخذت النخبةالحاكمة و عملائها الثقافيون و الاديولوجيون و الذين اتخذوا تسمية التكنوقراط تارة و الخبراء تارة اخرى مكانة الكولون و تحول المواطنون الى اهالي و اخذت الصحافة المعربة موقع المترجمين في مكتب لاساس سيئ السمعة ، بحيث كان المسؤولون السامون في الحكومة او المؤسسة العسكرية لا يدلون بأحاديثهم مباشرة الى جريدة معربة بل كانوا يختارون في الاساس جريدة مفرنسة و تلحق بها جريدة معربة ، و هذا لا ينطبق فقط على الاعلام ، بل ايضا على النخبة الناطقة بالعربية ، انها لا تأخذ صكوك مصداقيتها الا اذا ترجم خطابها الى الفرنسية من خلال مؤسسة ثقافية او عملية او اعلامية فرنكوفونية ، لكن هذه السيادة العليا للنخبة ذات اللسان الاحادي الفرنكوفوني سرعان ما اكتشفت ان العالم المحيط بها اصبح يشكل كثرة راحت تكشف بقوة الاشياء و الواقع عن انبثاق وضع جديد ، يمكن تسميته بوضع ما بعد الفرنكفونية … و هو وضع انتبهت اليه الخارجية و المخابرات الفرنسية التي شعرت بالخيبة في ممثلي التيار الموالي لها من الفرنكفونيين داخل و خارج السلطة ، و هذا ما ادى بها الى انتهاج سياسة جديدة لسفارتها و مكاتبها الثقافية في الجزائر و ذلك من خلال جلب دبلوماسيين فرنسيين يجيدون الفصحى و ظهر ذلك جليا خلال الخمسة عشرة سنة الاخيرة ، لكن برغم هذا الاستدراك او الانتباه الفرنسي الا ان التعاطي مع المشهد الحزائري ، ظل مختلف عنه في تعاطيه مع الاوضاع الثقافية في بلدان عربية اخرى … ففرنسا التي تدعم النتاج الثقافي بالعربية في بيروت و دمشق قبل الحرب ، و مصر و اليمن و الامارات ظلت متشبتة باستراتيجيتها القديمة في الجزائر ، و هي ان لا تدعم الا النتاجات التي تصب في مصلحة اللغة الفرنسية ، اي دعم اللغة الفرنسية لا غير ، لا الدارجة ولا الفصحى ولا الامازيغية. 
و في الاخير ، اشير ان السمة الرئيسية لمشهد ما بعد الفرنكفونية ، هو ميلاد هذا الجيل الذي عرف كيف ينتج هذه الهجانة الايجابية الثقافية و المتمثلة في وجود هؤلاء الفرنكفونيين الشباب المنفتحين على العربية و الامازيغية وبشكل نسبي الانجليزية ، وفي وجود هؤلاء المعربين المتعددي الالسن من فرنسية و دارجة و امازيغية و الذين تجمعهم الحداثة دون الانسلاخ عن فضاءات ماضيهم المتعدد ، و هذا الجيل هو خارج النظام في اغلبه لكنه متجذر في حاضره ، منخرط في مستقبله حتى و ان كان في قلبه مرارة كونه يعي ان مستقبله في جزء كبير منه لازال رهينة بين ايدي من يحتكرون الشرعية و السلطة عن الطريق القوة لاعن طريق المعرفة و الاهلية و الحرية.

رابط المقال على أرواق الخميس- بصحيفة الحياة