نودُّ أن نتحدث، هنا، عن عوائق الدمقرطة والديمقراطية أمام العقل الإسلامي في هذا الظرف التاريخي الذي نعيشه والذي يُحتم علينا أن نجابه مشكلات مُجتمعاتنا بصورة بصيرة. فمن الواضح أن غليان السياسة الراهن والتوتر الإيديولوجي بين الشرق والغرب، إضافة إلى مُجمل الكوابح السوسيو- ثقافية التي تميز مُجتمعاتنا البطريركية / القمعية، لا تحبذ الحديث عن الديمقراطية والحداثة السياسية وحقوق الإنسان في بلداننا التي انتصر فيها – بفعل فشل الدولة الوطنية العربية وهزائمها المتكررة – هاجسُ الالتفاف حول الهوية وحلمُ الشفاء من مُغامرات التاريخ بمحاولة التطهر من الانخراط في أسئلته حتى لو تعلق الأمر بقضية الإنسان والحرية.

هذا الأمرُ يترجمهُ، برأينا، نزوعُنا الحالي إلى الانسحاب من مغامرة التأسيس لوجودنا في أفق الأنسنة المنتصرة منذ أصبح التاريخ مسرحا لبطولة العقل ومركزية الأنتروبوس. لم نشتغل على الخروج من زمن المطلق الذي ظل يعتقل المعنى في النص، ويسجنُ جذوة الإنسان في رماد مؤسَّسة التاريخ القمعي وقد جعل الإنسان جرمًا صغيرا يدور في فلك المذهبية العقائدية المغلقة أمام صيرُورات الزمن والمعرفة. ورُبَّما كان لتشرنقنا خارج مسار الحداثة الظافرة دورُه الكارثي في غياب الإنسان الكبير لصالح انتصار المرجعيات التقليدية وثقافة إلغاء السؤال والحرية والمراجعة النقدية. هذا ما نشهده اليوم في صراعنا الذي لا ينتهي حول السلطة من منظور الحلم الدائم بحراسة المعنى الذي يصون “الهوية” باعتبارها فردوسا مفقودا لمُجتمع لم يستوعب جيدا “صدمة الحداثة” المفروضة عليه منذ أفاق على جلبة مجيء الآخر المُستعمِر. وهل نحتاج إلى أمثلة في ذلك؟ إن حضور الخطاب الإسلامي الطاغي – في أكثر أشكاله تقليدية – دليلٌ على مأزق الوعي عندنا، ودليل على ردود الفعل الهوجاء لمجتمع ينتصرُ لقيم الفحولة والذكورة والتقليد ردًّا على التحديث المتوحش للدولة الوطنية العربية بأيديولوجياتها المختلفة التي اعتمدتها برامجَ بناء وتنمية بعد حركات الاستقلال الوطني.

* * *

من الواضح، اليوم، أن الدعوة إلى “تطبيق الشريعة” في بلدان الربيع العربي كشفت عن هشاشة المطلب الثوري الأوليّ الذي تمثل في الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة ومُحاربة الفساد. لم تكن مُجتمعاتنا جاهزة للانقلاب على مخيالها الخلاصيّ التقليديّ بعد أن قطعت رأس الملك. وهي ما زالت مسكونة بحلم العودة الكبرى للمُخلص الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جُورًا. هذا المخيال الأسطوري لا يُمكنُ أن يشكل معينا لفكر جديد يدشن عهد الإنسان المتخلص من إرث الآلهة وسحر اللحظات التدشينية واستبداد المرجعيات المتعالية. وهذا ما رأينا فيه، تحديدًا، انتفاضات تفتقر إلى حضور التنوير والعقل النقدي والرغبة في عتق المعنى من محبس الماضوية وتحرير الإنسان من العيش في كنف دوحة الأب الغائب كعشبة طفيلية. فلا ثورة إلا في ظل الأنسنة: وربما هذا ما شكل وما زال مأزقَ الفكر الإسلامي كله منذ تمحور حول المطلق والمتعالي ولم ينفتح على لحظة توثب طفل التاريخ الرَّهيب وهو يرمي بألواح الوصايا المقدسة في نهر النسيان، ويُنصِّبُ الإنسانَ على عرش التدبير بداية العصور الحديثة.

قد نفهم جيدا الانتصار السوسيولوجي الكاسح للخطاب الإسلامي والحركات الإسلامية في الأوساط الشعبية العربية باعتباره ظاهرة تكشف عن الخيبة العامة والفشل الكبير في تحقيق التنمية المتوازنة، كما تكشف عن هشاشة التحديث المتوحش الذي لم يُحصّن مجتمعاتنا من إمكان يقظة مارد الأصولية من جديد. هذا ما يطرح علينا بإلحاح، اليوم، مشكلة الثورة والديمقراطية في مجتمع ما زالت مؤسَّساته تقليدية في عمومها. وربما أمكننا أن نرى في انفجار ظاهرة الأصولية الإسلامية عندنا مؤشرا على الشك الكبير الذي تزامن مع محاولات تحديث المجتمع وبناء الدولة الوطنية؛ ما يدفعُ بنا إلى أن نرى فيها، أيضا، انتقاما لمركزية الذكورة والبنيات القبلية البطريركية من قيم الحداثة التي لم تنجح في إعادة ترتيب علاقات القوة في مجتمعاتنا لصالح الأنسنة والحريات التي ظلت تستندُ إلى قاعدة نخبوية قليلة العدد سوسيولوجيا. هذا ما يفسر موقف الإسلاميين السّلبي من قضايا المواطنة والمُساواة وحقوق المرأة والحريات الفردية والجماعية. فما معنى صناديق الاقتراع أمام مواقف مماثلة؟ هل الديمقراطية لعبة انتخابية وصناديقُ اقتراع؟ أم هي قيمٌ جديدة بوأت الإنسان مركز دائرة القيم والتشريع بعيدا عن سطوة المرجعيات التقليدية وعلى رأسها المرجعية الدينية المتعالية والطائفية؟ هل يمكنُ إقامة المُصالحة، اليوم، بين الديمقراطية والإسلام كما نعيشه في شكله التقليدي المُعبّر عن رغبة مضمرة في اعتقال المُجتمع وكبح حركيَّته ووأد كل تطلع إلى الحرية والإبداع فيه؟

* * *

من الملاحظ، اليوم، أنَّ الإسلام بكل تياراته الفكرية / التبشيرية وبكل توجهاته الحركيَّة / السياسية لم يستطع أن يُدشن قارة الأنسنة في ثقافتنا التي عاشت قرونا طويلة على اغتراب الإنسان داخل دائرة التعالي وطغيان المُقدَّس الذي يضمحل أمَامهُ كل تململ لجذوة الروح نحو الاستقلالية والإبداع. لم يستطع الإسلامُ المُعاصر أن يُعيد بناء ذاته في أفق الحوار مع العصر ومع الحداثة ومع الآخر بعيدا عن التشنج الإيديولوجي الذي لازم الصّراعات الموروثة عن الحقبة الكولونيالية وصدمة اللقاء بحداثة أزاحت المُقدَّس من الفضاء العام وزاوجت بين المعرفة والقوة. هذا ما يُفسّر بقاء الإسلام حاجزا أمام احتجاجات العصر المعرفية والحقوقية والسياسية، ودرعا أمام مخاطر الكونية التي تهدّدُ الهوية وقد أصبحت ملاذا أخيرا لذاتنا المُنهكة حضاريا. فمن المعروف أنَّ هناك أسبابا موضوعية لتراجع الإسلام عن فاعليته الأولى وانفتاحه على الكونية في عهوده الكلاسيكية العظيمة.

ولكن: هل يُمكنُ أن تحدث ثورة داخل الإسلام ذاته تتيحُ إنتاج ثقافة جديدة تتمحورُ حول الإنسان وحقوقه؟ هل يمكنُ أن يُراجع الفكرُ الإسلامي مورُوثه الخاص الذي ارتبط بفلسفة للقيم تأسست على المُطلق وعلى آليات العقل الفقهي الخاضع لمرجعية المعنى المفارق للزمنية والتاريخ؟ هل يُمكنُ أن ينسلخَ الإسلامُ عن إرادة القوة والهيمنة التي ميَّزت عملية إنتاج الشريعة في الماضي باعتبارها قانونا يكرس معقولية وشرعية المجتمع الأبوي / الذكوري ويرسخ قيم الخضوع والطاعة؟ هل يُمكنُ أن ينبثقَ الفردُ بوصفه ذاتا مستقلة والشعبُ بوصفه أساسا للسيادة والشرعية بعيدًا عن مرجعية النصوص المغلقة أمام صخب التاريخ وأمام الانقلابات في عالم المعرفة والقيم؟ إننا نعتقدُ أن الإسلام يواجه تحديات ضخمة لن يخرج من شلله الحضاري إلى الوجود الفاعل على مسرح العالم إلا بمُجابهتها. ربما لن يتأتى له هذا إلا بإعادة طرح مُشكلة الإنسان في أفق جديد ينفتحُ على مسألة الحقوق والعدالة والمُساواة من منظور غير طائفي وغير تكفيري خلافا لما هو سائدٌ عندنا اليوم بكل أسف. إنَّ هُناك طبقات سميكة من اللامُفكر فيه تشلّ الفكر الإسلامي وتكبحُ انطلاقته إلى آفاق الأنسنة التي تشكل جوهر العصور الحديثة والتحدي الأعظم أمام مُجتمعاتنا. لقد اتسعت دائرة اللاَّمفكر فيه عندنا مع غياب الدينامية التاريخية الضرورية لكل عملية إنتاج للقيم الجديدة ضمن الحراك التاريخي؛ ما جعلنا نركنُ إلى الزمن السكولاستيكي الراكد ثقافيا ومعرفيا، والمُعبّر عن زمن اجتماعي تقليدي / أبوي تفنن في إعادة إنتاج نفسه وتأبيد قيمه.

رمل اليقين

* * *

يُبدي الإسلاميون الحركيّون، اليوم، التزاما شكليا بقواعد “اللعبة الديمقراطية” كما يقولون. ولكنهم في حقيقة الأمر هم أبعد الناس عن روح الديمقراطية الفعلية لأنهم يختزلونها في عملية شكلية هي الاقتراع العام الذي يضمنُ لهم الوصول إلى السلطة من قبل عموم الشعب الحانق على فساد الأنظمة الاستبدادية العربية، والحالم بخلاص لا يجده إلا في الوعود الخلاصية للخطاب الديني التمويهي. هذا فهم يختزل الديمقراطية في عملية الاقتراع ويعتبرها حيلة في الوصول إلى السلطة وبسط اليد على مقادير المُجتمع سياسيا وحقوقيا وثقافيا. ولكننا نطرحُ، هنا، سؤالا مُهما: هل يعتقدُ الإسلاميون فعلا بمرجعية الشعب الذي يتم اللجوء إليه من أجل التزكية؟ هل يؤمن الإسلاميون بالإرادة العامة وهل يعتبرونها مصدرا للشرعية والتشريع؟ كيف لمن يريدُ تطبيق “شرع الله” أن يبحث عن تزكية الشعب لمشروعه؟ كيف لمن يلجأ إلى الشعب أن يفرض عليه شريعة مُفارقة لم تكن نتيجة حراك سوسيو- تاريخي للمجتمع أو مطلبا للخروج من مآزقه وانسداداته التاريخية؟ أليست الديمقراطية – في أساسها – انقلابا معرفيا وحقوقيا أزاح مرجعية المقدس من الفضاء العام لصالح مرجعية البشر ولصالح أنسنة التاريخ وقد أصبح بيتا للإنسان مكان المُطلق؟

لذا نرى أنَّ الإسلام، اليوم، لا يمكنه إقامة المُصالحة مع الديمقراطية لأنه – بكل بساطة – غيرُ ديمقراطي باعتباره منظومة عقدية وقانونية لا مكان فيها لحقوق الإنسان ولحقوق المرأة بالمفهوم الحديث، ولا مكان فيها للمُساواة القانونية التي تضمنُ المواطنة للآخر المُختلف عقديا. لقد ظل الفكرُ القانوني والسياسي الإسلامي، لقرون، سجينا لمفاهيم الأمة الدينية والطائفة الناجية ومرجعية السلف بمعزل عن حركية التاريخ، ولم يجترح آفاق الأنسنة الحديثة في وجهها القانوني / السياسي القائم على أفكار المُساواة والتعاقد الاجتماعي والإرادة العامة للشعب لا للطائفة التي تستبعدُ غيرها من دائرة الخلاص الديني والدنيوي معا. كما نستطيعُ أن نلاحظ – في الخطاب الإسلاميّ السَّائد – الغيابَ الكلي لقضية العلمنة من ساحة الفكر الإسلامي رغم أهميتها العظيمة معرفيا وسياسيا في آن. إننا نعتقدُ، هنا، أنَّ العلمنة الإيجابية المُنفتحة هي أهمّ إنجاز ثقافي وقانوني وسياسي في العصور الحديثة. بل نعتقدُ أنَّ العصور الحديثة كلها لا يُمكنُ أن تُفهمَ إلا باعتبارها مسارًا ظافرا جسَّد الانتصار التدريجي للعقل المستقل عن المرجعيات المفارقة والسلطات التقليدية معرفيا وأخلاقيا وسياسيا: وهذا هو، تحديدا، مفهوم العلمنة الحضاري الذي شهدَ النور في الضفة الأخرى للمتوسط بعيدًا عن تاريخنا الذي دخل – بفعل عوامل كثيرة – مرحلة الشلل وعدم الفاعلية، وهو ما مثَّلهُ انتصارُ “العقل الفقهي” عندنا بوصفه وجها من أوجه انسحابنا من مغامرة صُنع التاريخ.

* * *

من هُنا اعتقادنا أنَّ الديمقراطية لا يستقيمُ وجودُها مع هيمنة الدين السياسيّ على الفضاء العام للمجتمع؛ كما لا يُمكنها في وضع مُماثل أن تزدهر وتنمو في اتجاه تجذير سيادة الإنسان على مصيره بالحرية والخلق والإبداع، وسيادة الشعب بوصفه مرجعية للتشريع المدني. لماذا؟ لأنَّ الدين السياسي تعبيرٌ صارخ عن الرغبة في لجم العقل وإدانة الحرية والتعددية الثقافية والسياسية باسم المُقدَّس وثقل الماضي الذي لم يتعرَّض للمراجعة والتفكيك. فكيف يُمكنُ أن يكون ديمقراطيا؟ ولكن تجبُ الإشارة، هنا، إلى أنَّ الدين في جوهره تجربة روحية غير مُلزمة وعقائد تعبّر عن نزوع إلى المُطلق واكتناه المعنى النهائي لمُغامرة الوجود. هذا الأمرُ مفهومٌ ومشروعٌ وهو يُعبِّر عن حاجة الإنسان الأصيلة إلى البحث الدائم عن علاقة هارمونية بالكون؛ ولكنه إذا تحوَّل إلى رغبة في اعتقال المُجتمع وكبح الحريات باسم المُطلق أو باسم عقيدة الطائفة الغالبة أو باسم التقاليد الموروثة و”الأصالة” و”الهوية” فهذا يعني أنه يخرج من دائرة التجارب الروحية ليُصبحَ مُعبِّرا عن وصاية جديدة وعن نزوع إلى الهيمنة على الفضاء العام يرومُ وأدَ الإنسان وتطلعاته إلى الانعتاق الشامل. هكذا يبدو لنا من هذه الشرفة أنَّ مُشكلة ثقافتنا تكمنُ، بالأساس، في شحُوب وجه الإنسان وفي عدم تمكنه تاريخيا – بفعل عوامل عديدة – من احتلال دائرة القيم ليصبحَ مرجعا لفعل المعرفة ولطاقة الحياة التي تتوهجُ بشرار القيم الخلاقة في عتمة التاريخ.

* من كتاب “رمل اليقين.. المجتمع العربي وأسئلة الثورة والديمقراطية” الصادر حديثا عن “دار التكوين”

رابط المقال على صحيفة الحياة