الرئيسية / الرئيسية / الزهور النادرة تذبل مبكرا جدا

الزهور النادرة تذبل مبكرا جدا

من تجربتي في كتابة الهايكو

عاشور فني

كيف تقول في نَفَس واحد ما تقوله ملحمة قديمة؟ ذلك هو التحدي الذي يواجهه كاتب الهايكو: أن تكتب في ثلاثة أسطر ما كتبه الشاعر القديم في ألف صفحة. ولو أردنا تمثيل كتابة الملحمة بخط بياني متصاعد يزيد طولا مع كل حرف وكل نقطة ليرسم ملامح تجربة الإنسان في هذا العالم الكبير فإن قصيدة الهايكو تبدأ بالضبط من تجربة هذا الإنسان في العالم الواسع ثم تتجه إلى الحذف نقطة نقطة لكيلا يبقى من تلك التجربة سوى ثلاثة أسطر تكثف خلاصة التجربة وجوهرها الباقي في لحظة عابرة. كتابة تجربة الإنسانية كلها في لحظة إشراق تضيء انطلاقا مما هو واقعي وملموس ومباشر. من هنا تنبع الخاصية اللغوية لقصيدة الهايكو: الحد الأدنى من اللغة لقول الحد الأقصى من المعنى. لكل لحظة حياة ما يقابلها من شعر ومن جمال. زهور الحياة النادرة تتفتح وتنطفئ بسرعة. كذلك قصائد الهايكو. الزهور النادرة تذبل مبكرا.جدا. كان ذلك هاجسي في كتابة القصيدة بعيدا عن الإطناب والوصف الخارجي معتقدا أن هناك رسما سابقا للكتابة يتعين إزاحة الغبار عنه بالكلمات على عكس ما هو شائع من أن الكتابة رسم بالكلمات. لقد ساعدتني أسفاري عبر اللغات وعبر العالم وقراءاتي المستمرة للتقاليد الشعرية في الثقافات المختلفة بالاطلاع على تجربة القصيدة- النَّفَس. ذلك هو روح الشعر. في كتابة الهايكو تختفي تقاليد البلاغة التقليدية من استعارة وكناية وتشبيه لأن الرهان هو الجمال الحي المباشر لا صورته. هذا ما تبين لي في بعض النصوص التي صدرت قبل “أعراس الماء” ( 2003) و”هنالك بين غيابين يحدث أن نلتقي” 2007.

كان صيف 2003 غنيا جدا بالنسبة لي شخصيا. بعد تجربة كثيفة في الكتابة وترجمة الشعر انهمكت في منعطف شخصي حاد ولكنه بسيط يمكن التعبير عنه كما يلي: انتقال محور دوران العالم فجأة من أفق الصحراء إلى أفق البحر. وكان ذلك بمثابة امتحان عسير في الكتابة: كيف تخرج بالكتابة من جماليات القحط والفقد والمنع والحجب والحرمان والتوق أي نموذج الكمال الغائب إلى عالم الماء والوفرة والألوان والحركات والانغماس الكلي الآني في العالم الحاضر الماثل بكل بساطة عبر الحواس والفكر والانتباه البسيط؟ كيف تكون جزء من العالم لا خارجه ولا غريبا فيه ولا محروما منه ولا ممنوعا من شيء أو تواقا إلى شيء؟ وبعبارة بسيطة كيف تكون جزء من الطبيعة لا كائنا موجودا فيها فقط؟

الآن أرتمي في الزرقة

لا أدري أي النجوم

ستغطي أثري

اتجهت الحداثة الشعرية العربية غربا ووقفت عند أعتاب الغرب لا تتعداه إلى المصدر “الشرقي” للحداثة الغربية نفسها. إزرا باوند، أبو الشعر الحديث في أمريكا والغرب ليس أكثر من تلميذ لأستاذ التصويرية في الهايكو، الشاعر الياباني شيكي ماساؤوكا (1867- 1902Shiki Masaoka) تلميذ الأستاذ الأكبر باشو ماتسيو، وناقده في نفس الوقت.

وقد كان الشاعر الفرنسي “بول إيلوار” في تسجيليته الجمالية أحد المفاتيح التي أخذتني إلى الصورة. ومنه اتصل البحث عن التجربة العالمية لدى التصويريين الأمريكيين وخاصة إزرا باوند وإيمي لويل ومن جاء بعدهم. تلك كانت نافذتي الأولى على عالم الهايكو في صورته الغربية في اللغتين الفرنسية والإنجليزية.

حاولت، منذ وعيت هاجس الكتابة، امتلاك لغة تستجيب لحاجات التعبير عن مكابدة الذات لوجودها اليومي في بعده الأزلي: الانغماس في ما هو آني ملموس دون فقدان البعد الروحي والإنساني الشامل. لا يمكن للعقل أن يكون وحده سبيلا لعقل العالم واستبطان الذات:

هنالك

بين غيابين

يحدث أن نلتقي

عاشور فني