الرئيسية / الحدود بين الواقعة الفعلية والحدث الإعلامي

الحدود بين الواقعة الفعلية والحدث الإعلامي

الثلاثاء 13 جانفي 2015

كثير مما يحرك وسائل الإعلام هذه الأيام يثير نقاشا كبيرا وسجالا حول مدى صحته ويجري التشكيك في واقعية بعض الأحداث وفي أصالة بعض الصور وهناك من يشكك في صيغة الحدث أو في شخصية القائمين به وفي طبيعة الوقائع نتيجة لغياب الماجريات: أي تفاصيل الحدث كما وقعت بالضبط في ساحة الأحداث.

وقد قابلني اليوم احد طلبة العلوم السياسية مستاء جدا من تفسير الأحداث في ستوديوهات الأخبار من قبل “خبراء” السياسة و”خبراء” الإعلام. وسؤاله الاتهامي هو: لماذا يتم تمييع الأحداث والتشكيك في كل شيء حتى أصبحت الوقائع المرئية -على شاشة التلفزيون- محل امتهان وكأنها لم تقع أو كان وقوعها أصبح خاضعا للنقاش رغم أن الجمهور شاهدها وشهد عليها؟ وأردف قائلا: ” الواقعة التي تتناقلها كل وسائل الإعلام هي أن إسلاميين اخترقا دفاعات الخصم ونجحا في الإيقاع بعدد من الضحايا وهذا يعبر عن هزيمة دولة أما تنظيم وانتهى الأمر. فلماذا لا يتم الاعتراف بانتصار القاعدة مرة أخرى في إحداث ثغرة في الجدار الأمني لدول قوية هي فرنسا هذه المرة؟

هذا النوع من الأسئلة الاتهامية المبنية على نقد للصورة المتقولة في وسائل الإعلام وللتعليق على الصورة ولتحليل الأحداث وللقائمين بالفعل نفسه يحمله كثير من المشاهدين والمتابعين للأحداث سواء صرحوا به أم لم يصرحوا به.

وقد ذهب بعض المتابعين إلى التشكيك في الصور-حسب الفيديو المرفق. لكن مهلا. في وقتنا الحالي لم تعد هناك حدود واضحة بين الحدث الحقيقي والحدث الإعلامي. ويمكن أن تثبت التحقيقات البوليسية أو تحقيقات العدالة بعض الأحداث وتصحح أخرى حسب آلياتها الخاصة. لكن الذي يبقى هو الحدث الإعلامي الذي “نقلته” أي “صنعته” وسائل الإعلام وأوصلته إلى الجمهور.ونطرح سؤالا مخالفا: كيم هو عدد الأحداث التي وقعت فعلا ولم تنقلها وسائل الإعلام وظلت “أحداثا” حقيقية لكن لا وجود لها لأنها ولا أثر لها لأن وسائل الإعلام لم تنقلها ؟ ثم ما معنى الحديث الحقيقي؟ إن كثيرا من “الأحداث” لم تعد مفهومة ولا حدود لها بل هي أشبه بالأحداث المتشظية التي تجري ملاحقة أجزائها من قبل وسائل الإعلام لتعيد بناءها حسب خطة معينة لتعطي معنى معينا. ذلك هو الحدث الإعلامي. أي الحدث الميدياتيكي. أما الوقائع وال”ماجريات ” التي تعج بها الحياة اليومية فتمر دون أثر حتى تقلها وسيلة إعلامية وتحولها على “حدث”. فالواقع لا وجود لها إلا في نطاق مادي محصور ولا أثر لها إلا بتحويلها إلى “أحداث” إعلامية لها معنى. هذه الأحداث الإعلامية أقوى من الوقائع “الحقيقية” لأنها أقوى أثرا على الواقع الاجتماعي والسياسي وأبلغ تأثيرا في حياة الناس.

ويزخر الواقع بالوقائع العنيفة المؤثرة في حياة الناس المرتبطين بها مباشرة لكنها لا تتحول إلى أحداث إلا إذا التقطتها وسائل الإعلام وحولتها إلى أحداث أي أدرجتها ضمن “سياقات” لتكتسب دلالة ويصبح لا مغزى.

ترى مراسلي وسائل الإعلام يسعون في أماكن الحدث على القبض على ال”ماجريات” حين حدوثها. وقد أصبح بإمكان هذه الوسائل “تصوير الوقائع” وتوفير المادة الضرورية اللازمة لصناعة الحدث الإعلامي: الصورة والصوت والكتابة والحديث والتصريح كلها مواد لصناعة الحدث وإعطائه معنى بإدراج الوقائع ضمن السياق وربطها بغيرها من الأحداث والصور والوقائع والتصريحات. فالوقائع تحتاج إلى من يتابعها في “عين المكان” وأما التصنيع فيتم في “المخبر” أي الاستوديو وقاعة التحرير بمساعدة خبراء ومحللين يفسرون الحدث ويعدونه معنى ويربطونها بعناصر الواقع خارج الاستوديو والمرتبط بحياة الناس مباشرة. فالحدث لم يعد بعيدا عن متناول الجمهور فقط بل هو بعيد أيضا عن متناول الصحفي الذي يستعين بالمراسل للملاحقة الوقائع وبالخبير لمطاردة المعنى.

هل “الحدث الواقعي” أي الوقائع “الحقيقية” التي تجري في مجالات الحياة المختلفة أكثر أهمية من “الحدث الإعلامي” الذي يتم إخراجه في المخبر: مخبر الأجهزة أو مخبر قاعة التحرير؟ الاتجاه العام هو أن الحدث الإعلامي أهم من الواقعة الفعلية إن كانت هناك واقعة أصلا. فالحدث الإعلامي “محمد البوعزيزي” أطلق شرارة أحداث في المنطقة العربية وقلب أوضاع وأسقط نظما سياسية وغير وضعا ولم يعد بالإمكان العودة إلى “الواقعة الحقيقية” التي يشارك فيها فاعلون آخرون أهمهم تلك الشرطية التي نسيت قضيتها في غمرة الأحداث.

وحقيقة واقعة “شارلي هبدو” في باريس لم تعد مهمة في حد ذاتها بل الأهم هو ما نقلته وسائل الإعلام وما أدركه العالم وتصرف انطلاقا من وما تبعها من أحداث. بل السؤال الآن هو هل يمكن إثبات أن هناك واقعة أخرى غير “الحدث الإعلامي”. لقد صدرت قوانين في أوروبا تجرم عملية التشكيك في حدث “المحرقة”. والرأي العام اليوم يفض قراءة واحدة لواقعة “شارلي هبدو”. وقد يأتي يوم يحتاج فيه إلى قانون لمنع التشكيك في الحدث.