الرئيسية / اكاديميا / الحداثة النقدية: من النقد المزدوج إلى نقد ثقافة التخلف

الحداثة النقدية: من النقد المزدوج إلى نقد ثقافة التخلف

د.عاشور فني

 

كتب عبد الكبير الخطيبي أن الحداثة في مجتمعاتنا تتطلب نقدا مزدوجا: نقد البنية التراثية التي تنخر نسيج المجتمع المتخلف ونقد الحداثة الغربية بما هي مشروع هيمنة على مجتمعاتنا. وكان ذلك يبدو أمرا صعبا في حينه. وقد انبرى العديد من المفكرين في مشاريع نقدية كبرى استغرقت أيام حياتهم كلها وتركوا للأجيال إرثا نقديا رائعا يقتضي هو بدوره قراءة وغربلة وتمحيصا على ضوء المستجدات. وفي الوقت الحالي أصبح الأمر يتطلب- في اعتقادنا – نقدا مضاعفا للحداثات (المحلية والغربية) وللسلطة وللمجتمع وللثقافة.

1-نقد الحداثة

لم يعد يكفي نقد التراث بل لا بد من نقد هذه الحداثة (المحلية) التي أصبحت هي نفسها جزء من التراث المحلي. وقد اصحبت حداثة محلية بأن جعلت التراث في مقابل الحداثة. وكأن الحداثة منتج ناجز يمكن جلبه من فضاءات جغرافية أو زمانية أخرى. أو أسلوب حياة محددة ينبغي التعود عليه. الحداثة بناء اجتماعي انطلاقا من واقع تاريخ محدد. ولذلك فالحداثة حداثات. وهي في كل نماذجها ليست مقابلا للتراث ولا تطويرا له بل هي تفكيك للتراث وجعله قابلا للعقل والهضم والاستيعاب والتجاوز. ليس التراث رصيدا قابل للتطوير أو التلاشي. التراث طاقة يمكنها أن تكون تطويرية أو تدميرية. نعقله فنطوره. وإن لم نعقله ولم نتملّكه تمكلّنا ودمر مستقبلنا. والحداثة في جوهرها حرية الإنسان وتحريره من الإكراهات. وعلى رأسها إكراهات الماضي الذي يسكن الحاضر ويعرقل المستقبل.

وفي مقابل هذا الموقف النقدي من مشروع الحداثة العربية في أرقى تجلياته النقدية ينبغي اتخاذ موقف نقدي من الحداثة الغربية نفسها باعتبارها حداثة متمركزة على الذات تلغي ما عداها وتعتبر النموذج الغربي نموذجا أصليا كونيا. بل النموذج الأصلي والكوني الوحيد الذي ينبغي أن تحتذيه كل المجتمعات. وقد اتخذ المشروع الحداثي الغربي أبعادا إيديولوجية مهيمنة في كل المستويات: الفكري (العقلانية) والسياسي (الديمقراطية) والاجتماعي( الفردانية) والاقتصادي (الليبرالية) والتقني ( التكنولجية) والسلوكي (الاستهلاك الكبير). هذه هي التجليات الإيديولوجية لمشروع الحداثة الغربي في سعيه للهيمنة على العالم تحت مسمى الاستعمار اولا ثم العولمة. ولتحقيق مسعاه طور ترسانة هائلة من الأسلحة الفتاكة في ظل المشروع الاستعماري  ومن المؤسسات الدولية (مجلس الأمن – صندوق النقد الدولي- البنك العالمي-المنظمة العالمية للتجارة) في ظل ما بعد الاستعمار والاستعمار الجديد .هيئات قادرة على التدخل في كل صغيرة كبيرة على المستوى العالمي لضبط اتجاهات التطور والتحديث في كل بقاع (التخلف) المفروض. فالحداثة مفروضة والتخلف ايضا مفروض. وقد أخرج الغرب حاليا من “تراث” المنطقة العربية الإسلامية ما يكفي من أشكال ومبررات تسمح له بالعودة إلى سياسة التدخل المباشر للهيمنة على الموارد الزاخرة لصد المتافس الصيني ومنع ظهور أية خيارات حداثوية أخرى ما عدا الخيار بين “الحداثة” الغربية أو بديلها “التراثي ” المحلي.

عملت السياسات الغربية (الحديثة) على تطبيق مشروعها الحداثي خلال مراحل الاستعمار بإخضاع المستعمرات بطريقة مباشرة فجة وبعد الاستقلال عملت على إقناع الحكومات والشعوب المغلوبة على أمرها بحكم قرون من الاستغلال والاستلاب بضرورة اتباع نموذج الغرب الجاهز لـ”لحاق بالركب الحضاري”. وضاعت عقود من التنمية الفاشلة لتحقيق هذا الوهم المستحيل: وهم اللحاق بالركب الحضاري: ركب المستعمر. وكانت النتيجة تنصيب نظم حكم على الطريقة الغربية مهمتها الأساسية “استدامة التخلف” وضمان استمرار الاستعمار الداخلي بعد إرغام الاستعمار الخارجي على الذهاب. وهكذا أصبحت النظم السياسية المستبدة ضمانا لاستمرار قهر الإنسان وحرمانه من الحريات والحقوق الأساسية.

2-نقد السلطة

هكذا أصبح المستوى السياسي عائقا للتنمية في المجتمعات المتخلفة وراعيا للمصالح الغربية في بلداننا. فالنظم الاستبدادية تعلن انتسابها للديمقراطية والحداثة ومعارضتها للإرهاب لخدمة المشروع الغربي ولكنها تعمل على إدامة التخلف في بلداننا بوضع مشاريعها التنموية الخاضعة للإستراتيجيات الرأسمالية العالمية. يتطلب أي مشروع تحديثي موقفا نقديا من السلطة في مجتمعاتنا. فهي سلطة مستبدة سياسيا ولا تقبل النقد والتقييم ولا تسمح بوجود قوى اجتماعية منظمة قادرة على إرغامها على تقديم حسابات عن تصرفاتها. تعيش السلطة (وهي الفاقدة للسيادة في علاقتها بالغرب) في موقف تسيُّدٍ  على الشعب والمجتمع وتتصرف في موارده كما كان يتصرف الاستعمار: النهب والتبديد بعيدا عن الرشد الاقتصادي أو الصالح العام. فالمال العام يسخر لخدمة المصالح الخاصة. ومع ذلك فقد أثبتت فعاليتها في ضبط تحركات المجتمع وفرض القمع أسلوبا للممارسة الاجتماعية.

3- نقد المجتمع

يتطلب الأمر نقد الآليات الاجتماعية للسلطة: فقد أصبحت السلطة –باسم التنمية والتطوير والتحديث- ترعى نظاما اجتماعيا متخلفا يمنع النقد ويحجم عن المشاركة ويقبل بآلية الانتخابات فقط لتمديد عمر السلطة. جوهر السياسة العمومية في المجتمع الاستبدادي المختلف هو منع التنمية الرامية لتحرير الاقتصاد وتنمية القدرات وبدلا من ذلك تنمية الهياكل والآليات التي تزيد من تبعية الناس للأجهزة وتجعلهم غير قادرين على تحقيق الاستقلال الذاتي ولا الدفاع عن مصالحهم ولا المطالبة بحقوقهم. تستعمل السلطة الرشوة وتوزيع المال المسروق على الفئات الموالية من اجل بسط نفوذها. هكذا تم خلق فئات كثيرة من المستفيدين من آليات توزيع الفقر وتعميم الفاقة. وأصبحت للسلطة الفاسدة قاعدة عريضة هي قاعدة نظام الفساد: المستفيدون من الوضع القائم والخائفون من التغيير. أصبح للتخلف أنصاره وجيوشه وللفساد ثقافته ونخبته.

4- نقد ثقافة التخلف والفساد

نشأت ثقافة عامة تظهر تعارضا ظاهريا بين أنصار التراث وأنصار الحداثة لكنها في مجموعها مكيفة مع الوضع العام تمجد الوضع القائم وتتغنى بالأمجاد وتمنع التفكير في التغيير. ثقافة المتعة الآنية ورفض المغامرة والتفكير والتصور والخيال. هكذا نشأت صحافة وأدب وسينما وموسيقى وفنون تشكيلية تستلهم الوضع القائم وتدعم أركانه: الجهل والسطحية ورفض الاختلاف ومنع النقاش والحوار ورفض المشاركة في مشروع التغيير. وفي المقابل نشر ثقافة المتعة الشخصية والتسلية والإثارة والانغلاق على الذات ورفض الانخراط في الحياة العامة.

فالسياسات المطبقة تشيع اليأس والإحباط والسوداوية والانكفاء على الذات والبحث عن الخلاص الفردي والهروب من اي عمل إيجابي جماعي واضح. هكذا تخلو الساحة للفساد والفاسدين لبسط سلطة الفساد وعلاقات الرشوة وثقافة الجهل.

فالنقد الجمالي في كل هذه الفنون والتعبيرات الثقافية يسكت على البنيات التي يقيمها الفساد والتي تخفيها هذه التعبيرات الثقافية المتنوعة ويصبح النقد من حيث يدري أو لا يدري مبررا للوضع القائم.

لم يعد النقد السياسي وحده مجديا ولا النقد الأدبي وحده كافيا. لا بد من توسيع النقد السياسي إلى النقد الاجتماعي وتعميق النقد الجمالي إلى النقدي الثقافي لفضح آليات الهيمنة السياسية الكامنة في البنى الاجتماعية والثقافية.