الرئيسية / الجامعة الجزائرية: أسئلة لبدايات القرن

الجامعة الجزائرية: أسئلة لبدايات القرن

الدكتور عاشور فني

ظهرت الجامعات في العالم حينما كانت “العلوم الكونية” التي يتطلب تدريسها تفوقا عقليا قليلة. ولم يكن التعليم في هذا المستوى الجامعي يعني إلا قلة قليلة من النخبة “العالمة”، في مقابل أكثرية غير متعلمة أصلا. كانت مسيرة تطور الجامعة شاقة ومؤلمة وكان الجهر ب”حقيقة علمية” يكلف العالم حياته.

وعرفت المسيرة منعطفات حاسمة صاحبتها “الاكتشافات الخطيرة” التي أصبحت معلومات عامة في عصر المعلومات. كانت الأسئلة الرئيسية تدور حول كيفيات تنظيم المعارف وتطويرها ودور البحث العلمي في التنمية، ودور الجامعة في تكوين النخبة، وما إليها من نظم التعليم والبحث والإبداع ونقل المعارف وتوفير البيئة الملائمة للتطور. كانت أسئلة شاقة في وقتها، وما تزال تطرح بحدة في البلدان التي انتبهت متأخرة لدور العلم في الحياة الاجتماعية.في عالم القرن الحادي والعشرين، حيث تكنولوجيات الإعلام والاتصال الجديدة  تلغي المسافات والحدود وتفتح أفق المعرفة للأكثرية المتعلمة، ما الأسئلة الجديدة التي تطرحها هذه الوضعية الجديدة؟

الجامعة منتجة المعايير والقيم
تغير موقع المعرفة جذريا في المجتمع. ما كان  حكرا على النخبة أي الخاصة أصبح متداولا على نطاق واسع. لم تعد المعرفة تسير عبر قناة ضيقة تصل إلى عدد محدود من الناس في مواضع محددة مسبقا. صارت المعرفة مشاعا  بين الناس، وإن ظلت الأمية “حالة خاصة”  تتضافر جهود المجموعة الدولية لمحاربتها  ضمن أهداف التنمية الألفية.   لم تعد الجامعة قناة لنقل المعرفة الأكاديمية فقط بل هي أيضا مصدر للقيم وللتقاليد الأكاديمية والعلمية ومصدر لشرعية النخبة الوطنية في كل الدول، وقاعدة لتشكيل النخبة الكونية ذات التكوين المتجانس. باختصار، ليست الجامعة “مؤسسة تعليم” بل هي  “مؤسسة معرفية”. ذلك هو جوهر الجامعة اليوم على المستوى العالمي.
هل استطاعت الجامعة الجزائرية أن تتجاوز “وظيفة التعليم العالي” وتضمن ديمقراطيته وعلميته  ووطنيته؟ لقد كانت ثلاثية جامعة “وطنية علمية وديمقراطية” ركيزة إصلاحات السبعينيات الشهيرة التي كانت ترمي إلى جزأرة التعليم وضمان تكافؤ الفرص للجميع مع الحفاظ على “مستوى علمي” لائق.  أين الجامعة  الجزائرية من كل ذلك اليوم؟
الجامعة والمدينة

نشأت الجامعات في وسط حضري وحافظت على تكوين رصيد المعرفة ضمن إطار المدن والحواضر العالمية العريقة. إن المعرفة قرينة التمدن والحضارة والرقي. لم تكن البداوة أو حياة الريف قاعد لحضارة  دائمة ولا لنمو المعارف والابتكارات. علمنا ابن خلدون أن البادية هي مهد الديانات الكبرى. إن الجامعة هي أرقى أشكال التحضر والتسامح والاحتكام إلى العقل بتجرد  كامل بعيدا عن الولاء القبلي أو العرقي أو الحزبي. الجامعة فضاء عقلي تحكمه القيم المجردة وتنمو فيه وبتفتحه تزدهر. فهل بإمكان الجامعة الجزائرية أن  تملك هذه الصفات؟
لقد رأينا فضاء الجامعة يضيق أمام الجامعيين وينفتح للقيم غير الجامعية. ورأينا القرى التي تغلق أبوابها على الساعة الخامسة مساء تطالب بحقها في “جامعة” تكرس شرعية عشائرها وقبائلها و”جامعة تعليم”، تكرس موظفيها باعتبارهم ذوي “دبلوم” عالي يشفع للمؤسسة التي يسهرون على وضعها و”يضحّون” لتبقى على ما هي عليه. رأينا أيضا مدنا كبرى تغلق أبوابها قبل الساعة الخامسة مساء. والمكتبات الجامعية تفتح أبوابها بعد الإدارة العمومية وتغلق قبل تجار المواد الغذائية وقبل توقف حافلات النقل العام.
المعارف قاعدة للحياة الاجتماعية والاقتصادية

لا يتعلق الأمر إذن بمجرد معارف وأفكار أو معلومات تتداول على نطاق الجامعة، ولكن الأمر يتعلق أساسا بقيم الحرية  والابتكار والإبداع الفكري والعلمي والتجديد المعرفي. لا يتعلق الأمر بامتلاك “رصيد” من المعارف فقط بل إن المشكلة هي إنشاء “نسق وطني للابتكار والإبداع”، يستند إلى منظومة كاملة من القيم والآليات والنظم والإجراءات العملية التي تكون الجامعة أساسها. هذا النسق الوطني للإبداع والابتكار والتجديد والاختراع  هو الضمانة الأساسية لتكوين النخبة وتراكم المعرفة ونموها وتجديدها. هل الجامعة الجزائرية قادرة على أداء هذا الدور؟  كان التعليم في الجزائر غداة الاستقلال غاية في حد ذاته، باعتباره تعويضا عن سنوات القهر والحرمان ومسخ هوية الإنسان عن طريق التجهيل خلال قرن ونصف من الزمان الاستعماري البغيض. ثم عرفت الجزائر  فكرة “التكوين من أجل التنمية” منذ السبعينيات حين كان برنامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بدايته، ولكن آلية التنمية تعطلت مع الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية المتعاقبة. وتجاوزت الجزائر مرحلة التكوين من اجل التنمية الوطنية إلى مرحلة لم تتحدد معالمها وأهدافها بوضوح ولم يتم الحسم فيها سياسيا بعد: تكوين نخبة وطنية منسجمة قادرة على ضمان مستقبل البلد ومستقبلها فيه؟ أم التكوين من أجل إنجاز أهداف المرحلة الحالية فقط؟  أم التكوين لضمان اندماج أفضل في السوق الدولية؟  غرقت الإصلاحات الجامعية في الإجرائية والآنية ولم تأت إصلاحات المنظومة التربوية بما يتجاوز أزمة النسق العام للمنظومة. لم تعرف الجامعة منظومة معايير جديدة تستجيب للمرحلة الجديدة. والنتيجة نتحملها جميعا: انفتاح، بل نزيف حاد نحو الخارج، وانغلاق تام إزاء الداخل.

الجامعة والمجتمع

الجامعة مؤسسة النخبة بامتياز. فالفضاء الجامعي هو فضاء ينتج النخبة ويرعاها، ويضمن لها شروط البقاء والتطور ضمن إطار الجامعة دون أن يكون ذلك شكلا من أشكال العزلة عن حياة المجتمع. إن البرج العاجي الشهير هو منارة ونبراس، يصنع حماة القيم العقلية وحراس الأحلام البشرية الخارقة.  والجامعة تصنعها النخبة أيضا وتعطيها بعدها العلمي والفكري وتمارس فيها وظيفة النقد والإبداع. لقد كانت الجامعات المعاصرة على رأس الحركات الاجتماعية والفكرية والفلسفية إلى جانب الوظائف العلمية والبحثية “العادية”. فللجامعة دور قيادي في المجتمع تؤديه من خلال النخبة الفاعلة المنتجة  المندمجة في حركية عصرها المبدعة الأصيلة القادرة على العطاء. ما علاقة المجتمع الجزائري بنخبته؟ وما علاقة النخبة بالجامعة؟لقد كان الجامعيون يوما ما يحسبون على رؤوس أصابع اليد الواحدة، ولكن كانت كلمتهم منارة للمستنيرين. ثم صاروا يوما ما متهمين بمناهضة الاختيارات” التي لا رجعة فيها”، ثم أصابتهم تهمة “الموالاة لجهات معروفة”،  وفي زمن الرخاء  سقطت النخبة في نسيان جماعي. وفي حالات بروز كفاءات جزائرية في الخارج على حين غفلة من السدود المنيعة المفروضة في الداخل، وهي حالات أصبحت متكررة اليوم، تجد الجزائري يحمل تهمة “خبير دولي” مشكوك في نواياه إلى أن يأتي ببراءة ” حسن الولاء” ممن  لا يفقهون في “صنعته”  شيئا. بين جامعة النخبة وجامعة الدولة بون شاسع. أما الوضع الحقيقي لمعظم الجامعات فهو أنها جامعة الإدارة، والتنظيمات المهنية النشطة في الحرم الجامعي نفسه ولا نجد لها حتى البعد المحلي فما بالك بالبعد الحضري أو الاجتماعي.. أما أن تبحث لها عن دور قيادي على المستوى الوطني أو الكوني، فذلك يبدو الآن ضربا من الأحلام البعيدة.نرجو أن لا تكون كاذبة.

الجامعة والصناعة

أما الحلقة المفقودة في النظام برمته فهي العلاقة بين الجامعة وعالم الصناعة والنشاط الاقتصادي. لعل الوقت لم يحن بعد لطرح هذه المسألة بتوسع. وقد أسست معظم القطاعات الوزارية معاهدها الخاصة وهيئاتها العلمية ووكالاتها التابعة لها  لإنتاج “الإطارات”  ومؤسسات الإنجاز التي تحتاج إليها، وأصبح الفضاء العلمي والمعرفي مجزءا على مقاس تجزئة المؤسسات والهيئات السياسية نفسها. وإذا كان تسيير ذلك ممكنا في ما يخص المستوى السياسي فإن تلك التجزئة عائق كبير بالنسبة لتطوير المعرفة وتشكيل فضاء “العقل الشامل” على المستوى الوطني. وقد رأينا المؤسسات الجامعية تفتح مستويات تكوين دنيا في حين تنشئ المؤسسات الصناعية والإدارية والقضائية مؤسسات تكوين الإطارات ذوي المستوى الجامعي. وذلك اتجاه يستجيب تماما لمنطق سيطرة المحيط على الجامعة بدلا من أن تكون الجامعة قائدا للمجتمع ومنارة في محيطها المباشر أو البعيد. يحدث هذا ويتواصل في عصر أصبح فيه  تداول المعارف قاعدة لتداول الموارد  بل شرطه الأساسي.كان  المرحوم يوسف سبتي يردد  أن “الوطن هو بدعة صنعها الإنسان الحداد” أي أن الوطنية قرينة العصر الصناعي الذي يتطلب توحيد السوق ولو بحد السلاح  وبقوة القانون. فهل  صارت الوطنية الجزائرية في حاجة إلى ثورة صناعية؟

ولو في الصين؟

لقد اختارت الصين “الشيوعية” نهاية السبعينيات من القرن الماضي اختيارا أملته الحكمة الصينية التي ثبتت صحتها حتى في العصر الأمريكي الساحق: اختيار”حفظ العقل الصيني في بيئة الغرب العلمية التي كانت أكثر ملاءمة من البيئة الصينية في عصر ما بعد ماو تسي تونغ”. وأعطت الدعم الكامل ل “هجرة الكفاءات إلى الغرب” ولكن في إطار منظم ولو امتنعت تلك الكفاءات عن العودة فورا إلى الصين. شيء كانت كثير من الدول تراها هروبا للكفاءات وتدعي أنها تحاربه فيما كانت تحفزه  عن غير وعي بتدمير شروط العقل والعلم والكفاءة في أوطانها.  هاهي تلك الكفاءات تعود، اليوم بعد ربع قرن، إلى  بلادها، الصين، معززة مكرمة في شكل استثمارات وموارد بشرية وخبرة صناعية يحسدها الغرب نفسه عليها ويفاوضها في شأنها. ونحن من أمة تؤمن أن الحكمة يمانية وأمرنا بطلب العلم ولو في الصين. فماذا عسانا نفعل؟في أثناء ذلك دخل الصينيون إلى السوق بأشكالهم المتواضعة وسلوكهم الهادئ وحكمتهم البليغة. إنهم يحدقون في عالمنا بعيون ضيقة ولا أحد يدري ماذا يرون بالضبط. ينبغي إذن إعادة النظر في النظام برمته.
الدكتور عاشور فني