الرئيسية / الرئيسية / الثقافة في مواجهة عالم المخاطر المتغيرة

الثقافة في مواجهة عالم المخاطر المتغيرة

نبيل عبد الفتاح

​هل الثقافة قادرة على مواجهة عالم متغير ومتحول ومضطرب بالسيولة وعدم الاستقرار، وغياب اليقين، وتسوده المخاطر المتعددة المصادر والمنابع، والإرهاب والعنف، وأزمة الدولة الوطنية في الإقليم، واللامساواة والتطرف والغلو الدينى، والطائفى والمذهبى، وأزمة المعانى الغائمة والملتبسة، وانهيار النظام التعليمى وسياساته ومناهجه التى تعتمد على الحفظ والتلاوة والتكرار؟

هل لدى الثقافة الإمكانية والقدرة على مواجهة تحديات عاصفة وتحولات نوعية في النظام الدولى المعلوم، وفى ظل تلاحق التغير إلى ما بعد الحداثة وما بعد العولمة؟

أن ما يضفى على السؤال أهمية خاصة أن الثقافة بحكم الحد الأدنى من تعريفاتها المتعددة منذ تايلور- في الثقافة البدائية 1871- هى “كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات، والفنون والأخلاق، والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانات أو العادات التى يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع”. ومن ثم تركز على القيم والمعايير والأخلاقيات والرموز، والإنتاج الرمزى، وأنماط الحياة المشتركة داخل جماعة ما، أو أمة من الأمم، والتفاعلات بين الأشخاص والأفراد داخلها، وهى أمور لا تتغير بسرعة. ويمكن القول أنها تتسم بالبطء في تغيراتها، ومن ثم هل تستطيع الثقافة العليا والعامة أن تواكب هذا التغير السريع والمتلاحق؟ وهل تستطيع أن تقدم إجاباتها وحلولها على أسئلة وتحديات اللحظة التاريخية المتغيرة؟

نستطيع القول أن السؤال على أهميته ومحمولاته يواكب مستويات التغير القيمى والرمزى والسلوكى التفاعلى والإنتاج الرمزى باتت الآن أسرع من ذى قبل وما كان يحتاج إلى عديد العقود في القرن الماضى، أو حتى أوائل العشرية الأولى من القرن الحادى والعشرون أصبح تتم خلال سنوات محدودة، وذلك كنتاج للثورة الرقمية والاتصالية والمعلوماتية، وانكسار الحدود، وتدفقات الهجرة والفضائيات، والهاتف المحمول متعدد الوسائط، وما تبثه التلفزات ويهطل هادراً بالصور الجديدة والمتغيرة التى لم يكن من الممكن مشاهدتها وقت حدوثها. من هنا أصبح التغير والتحول الاجتماعى والسياسى أسرع نسبيا عن ذى قبل ومدى استجابة الثقافة للتغير التقنى والاجتماعى باتت أكثر سرعة، وهنا يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط ثقافية من حيث الاستجابة إلى المتغيرات والتحولات الكونية والمخاطر الجديدة التى تنطوى عليها، وذلك فيما يلى:

النمط الأول: الثقافة العالمة والتى تشمل الإنتاج النظرى والتطبيقى الفلسفى والاجتماعى والقانونى والسياسى، وفى مجالات الآداب والفنون، وهى الأكثر قدرة على المواكبة للتغير السريع، وتنظيراته، ورؤاه بحكم سرعة تداول الرؤى والتنظيرات والتحليلات الجديدة عن الواقع الكونى والإقليمى في عديد الحقول المعرفية.

النمط الثانى: الثقافة الوسيطة ما بين الثقافة العامة (العليا) وبين ثقافة العموم، ويقوم المثقف العام بدور هام في تيسير الثقافة العليا ومعارفها إلى لغة يفهمها بعضهم بعضا، وإلى تبسيطها للعموم. وهذا الدور مرتبط بقدرة النخبة المصطفاة من منتجى الثقافة العليا على الإنتاج المعرفى والرمزى ومواكبة ما يحدث في الحقول المعرفية على اختلافها، بالإضافة إلى الفنون الرفيعة.

النمط الثالث: ثقافة العموم، وهى الأكثر بطأ في التغير، إلا أن انتشار أدوات الثورة الرقمية بات يلعب دوراً في تحريك هذه الثقافة، ومن ثم نستطيع ملاحظة سرعة عمليات إنتاج الفرد والفردانية في مواجهة ثقافة الاجماع، والإخضاع، والامتثال والسؤال نطرحه مجدداً ما هى قدرات الثقافة على المواجهة للمتغيرات والمخاطر الجديدة، والتحديات الهيكلية الاقتصادية والسياسية، والعنف والإرهاب، وتفكك الدول الخ..؟

قدرة الثقافة تتمثل في أنها تعمل على تشكيل الوعى الاجتماعى والسياسى والقانونى والجمالى ومواجهة انكسار الهويات الجامعة وعلى إرهاف، وإنماء الوعى والحس النقدى، وأعمال العقل، وتحليل المواقف والظواهر الفردية والجماعية من منظور نقدى لا يعتمد على التسليم والقدرية والميتافزيقيا والحتميات.. إلخ.

من هنا تمتلك الثقافة إمكاناتها في مواجهة العقل الاتباعى، والفرز النقدى للموروث والتمييز داخله بين الجوانب والمكونات الزمكانية، وبين المتغيرات والتحولات. لاسيما أن المخاطر والتحديات التى تواجه مصر والمنطقة العربية تدور حول التلاعب بالوعى الفردى والجماعى، وصراع الهويات والمذهبيات المسيسة، والطائفية والإرهاب، وتفكيك الدول، وانتشار الفقر واللا مساواة والأمراض والحروب الأهلية. وهى صراعات تدور حول الوعى والذاكرة والمخيال الجماعى، والمتخيلات السوسيو سياسية كالهوية، والأمة والوجود لكيانية المجتمع والدولة واستمراريتها في الجغرافيا السياسية للإقليم، ومن ثم تبدو الثقافة النقدية العليا والوسطية هى القادرة على مواجهة التشظيات والصراع على المفاهيم الجامعة للأفراد والشعوب والجماعات لصالح التشوش، والطائفية والمذهبية وصحوة الهويات الفرعية للمكونات المختلفة للجماعات العربية.

وتتمثل قوة وقدرات الثقافة على المواجهة فيما يلى:

1- المواجهة النقدية لخطابات الإرهاب باسم الدين والطائفة والمذهبيات المسيسة.

2- تفكيك وتحليل العقل الاتباعى، والنزعات القدرية والميتافيزيقية والأسطورية، التى ترمى إلى تغييب الوعى.

3- تفكيك الُبنى الأخلاقية، وكشف الازدواجية داخلها، والكذب والمخاتلة، وبين خطاب الظاهر والباطن المستور الذى يخفى النوايا أكثر مما يبين، واللا تاريخية من خلال إشاعة الوعى التاريخى والنظرة التاريخانية.

4- التصدى للسياسات التوسعية لدول الجوار الجغرافى العربى – إيران وتركيا وإسرائيل- الرامية إلى مدّ نفوذها داخل دول المنطقة، والهيمنة عليها.

5- قدرة الثقافة النقدية على توظيف عديد الوسائط والآليات للتأثير على الوعى العام والروئ السائدة والخطابات المسيطرة داخل المنطقة أو من خارجها حولها.

6- قدرة ثقافة الجمال على إشاعة الوعى والحس الجمالى بين الأفراد والجماعات، بما يسهم في حصار ونقد ثقافة القبح في العمارة والتخطيط العمرانى، وفى الخط العربى، والسينما والمسرح. والأغنية والموسيقى، وفى مواجهة العنف اللفظى، والخطابى، وثقافة القذارة والنفايات.

7- إمكانية الثقافة النقدية على إرساء الثقافة المدنية في مواجهة ثقافة الطغيان والتسلطية السياسية والدينية والبطريركية.

8- قدرة الثقافة النقدية والفردية على تسريع عمليات إنتاج الفرد والفردانية في مواجهة ثقافة الخنوع والتسلط الدينى والمذهبى والطائفى.

9- تساهم ثقافة الجنوسية- الجندر والنوع- في تفكيك وتحليل الثقافة الذكورية السياسية والجنسية وهيمنتها على الدولة ومؤسساتها بما يحجب أدوار المرأة في الوظيفة العامة، والمجال العام السياسى، وتكريس أدوارها داخل نظام الأسرة. وتلعب الجنوسية- أو الجندرية- كثقافة وظيفة هامة في إشاعة مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين المرأة والرجل، بل وفى مواجهة فائض الظلم الاجتماعى التاريخى من خلال استراتيجيات التمييز الإيجابى لرفع الخلل في التوازن بين الجنسين في كافة المجالات، السياسية، والتعليم، والحق في الثقافة، وفى العمل الأسرى.

10- الثقافة العلمية والتقنية قادرة على المساهمة في تطوير النظام التعليمى ومناهجه، لاسيما في ظل الربط والتكامل بينهما، وبين ثقافة العلوم الاجتماعية- سوسيولوجيا المعرفة والقانون والدين والسياسة والثقافة.. الخ-، لأن الثقافة العلمية تمد الطلاب والأفراد بالحد الأدنى من المعارف لمعرفة الظواهر الطبيعية وآثرها على الإنسان والبيئة، وتفسير هذه الظواهر. من ناحية أخرى يؤدى التكامل بين العلوم الطبيعية والاجتماعية في مجال التنشئة التعليمية والاجتماعية إلى تكوين متكامل ومتوازن في تكوين شخصية الطلاب، والأفراد، على نحو يقلل من ظاهرة انخراط طلاب الكليات العلمية –الطب والعلوم وطب الأسنان.. الخ- في التنظيمات الإسلامية السياسية التى تمارس العنف والإرهاب، وهو ما كشفت عنه الدراسات الحقلية –الأمبيريقية- عن الهياكل التنظيمية لهذه المنظمات منذ عقد السبعينيات بدءاً من حزب التحرير الإسلامى- الفنية العسكرية- وجماعة المسلمون – التكفير والهجرة- والجهاد والجماعة الإسلامية.. الخ.

أن نشر الثقافة العلمية والتقنية بين طلاب المدارس والجامعات، وبين الجمهور، يؤدى إلى الحد من انتشار ثقافة الخرافات والمرويات الأسطورية والتفكير اللا علمى، والعقل الاتباعى والنقلى.

11- أن الثقافة الحداثية القائمة على نسبية الحقيقية، وسلطة العقل.. الخ، والتمايز وعدم الخلط بين المدنى والوضعى والدينى في المجال السياسى الذى تقوم عليه الدولة الحديثة، أو ما يطلق عليها الدولة الوطنية، ومن ثم الثقافة الحداثية والحديثة لديها القدرة على نقد وتفكيك الخلط بين مفهوم الدولة الدينية –أيا كان مسمياتها وشعاراتها وعلاماتها- وبين الدولة الحديثة القائمة على حقوق المواطنة، والمساواة بين المواطنين وعدم التمييز بين المواطنين على أى أسس أو معايير تمييزية، واحترام حقوق الإنسان بمختلف أجيالها الثلاث، والجيل الرابع الذى يتشكل حالياً.

12- أن دمج الثقافة في التعليم الدينى والثقافة الدينية، يؤدى إلى تفاعل العقل النقدى مع العقل النقلى من خلال الدراسات الفلسفية والسوسيولوجية، ومناهج البحث السوسيولوجى والنقدى والتاريخى، التى تؤدى إلى إعادة تقييم نقدى للموروثات الدينية الوضعية التى وضعها فقهاء ورجال دين وكان غالبها جزءاً لا يتجزأ من أسئلة ومشكلات اجتماعية وتاريخية واقتصادية وسياسية.. الخ. كانت جزءاً من عصورهم والأفكار التى كانت سائدة آنذاك، وتغيرت الظروف والسياسات والأسئلة والمشكلات.. الخ

رابط

.