الرئيسية / اكاديميا / البنيات الاستعمارية في عهد ما بعد الاستقلال

البنيات الاستعمارية في عهد ما بعد الاستقلال

عاشور فني

 

 

ما تقوم به القوى الاستعمارية السابقة في مناطق نفوذها وما تنتظره المستعمرات القديمة من تلك القوى يطرح قضية كبرى. دور البنيات الاستعمارية في عهد ما بعد دولة الاستقلال. كأن العلاقات التي كانت قائمة خلال حقبة طويلة لم تنهه أول كأنها تجددت بعد تهالك دول الاستقلال. للاستعمار بنيات تتجاوز الأفراد. بنيات هيكلية دائمة تتجاوز الأفراد والجماعات والمراحل الزمنية التي ساد فيها الاستعمار في بلد من البلدان. البنية الاستعمارية تتجسد في هياكل اقتصادية وبنية فكرية وذهنية ونفسية قارة. أما مؤسساته فيمكن أن تتغير: الجيش والسلطة السياسية والشرطة والبنوك والإدارة وموانيء التصدير والاستيراد. كان الاستعمار يقوم على بنيات سياسية تدعمها القوة العسكرية والآلة الصناعية وقد غرست النظام الاستعماري في الأرض وفي العقول وفي الثقافة والتربية واللغة والألسنة وفي التشريعات والدساتير. حين قامت الثورات الوطنية حطمت تلك المؤسسات السياسية والتشريعية لكن بنياتها ظلت قائمة. كيف؟

استبدلت التشريع القديم بتشريع مماثل بل منقول. والمؤسسات بمؤسسات والمسؤولين بمسؤولين جدد. أما بنية السلطة والبنيات الثقافية والذهنية واللغوية والنفسية فقد استمرت في كثير من المستعمرات بمسحة وطنياتية. في المجال الثقافي عملت فرنسا على إدماج الإنتاج الثقافي العالمثالثي في إرثها ما بعد الكولونيالي. ما زالت المنظمة الفرانكوفونية تقوم بدور استعماري متقدم في الساحة الثقافية وتبحث عن دور سياسي عالمي . في بعض البلدان الإفريقية ما تزال الوحدات العسكرية رابضة قرب السفارات انتظارا لمهمات خاصة. وسمحت المرحلة العولمية الحالية بغعادة انتشار القوى الاستعمارية القديمة بأشكال جديدة أكثر جاذبية في حين انكمشت الدول الوطنية التي نشأت عن مرحلة تصفية الاستعمار وتخلت عن المشروع الاستقلالي والعدالة الاجتماعية التي كانت تمثل جوهر مرحلة التحرير. هكذا التقى مشروع الاستعمار الجديد لما بعد الكولونيالية بمشروع الاستتباع الجديد لما بعد الدولة الوطنية.

 في 27 ديسمبر 2012 لجأ المواطنون في جهورية إفريقيا الوسطى إلى السفارة الفرنسية طالبين الحماية ضد المتمردين الذين يهددون بدخول العاصمة . في إقليم آخر (جزيرة مايوت كبرى جزر القمر) طالب المواطنون قبل ذلك بعدى سنوات  بإعادة الاستفتاء على الاستقلال والتحقوا بفرنسا. انته الأمر: مايوت الآن ولاية فرنسية من إقليم فرنسا ما وراء البحار. سجل ذلك في الدستور الفرنسي. الهياكل ما بعد الاستعمارية امتداد لهياكل ما قبل الاستقلال وتسمح بالمرور بين الحالتين بسهولة. ما تدافع عنه فئة من المواطنين في بلدان ما بعد الاستقلال هو جزء من البنية الفكرية الذهنية والفكرية الملائمة لهذه المرحلة. مثلها الأبرز هو ذلك “المواطن” الكولونيالي الشهير “الساسي” الذي تقلب بين كل الأحزاب وجمعيات مساندة الرئيس ثم انتهى بتقبيل يد هولاند في زيارته الأولى للجزائر في ديسمبر 2012 وبعدها فتحزاوية في مقهى شهير بمدينته يستجيب لطلبات الناس لأخذ الصور.كأي نجم محترم. ما قام به الساسي آنذاك فعل ثقافي من الطراز الأول: رمز مشحون بكل الدلالات الثقافية والفكرية والنفسية. يعبر عن تحول في العصر. قالها هولاند نفسه آنذاك: عصر جديد يستدعي ثقافة جديدة.

لقد وجد الساسي وظيفة جديدة تغنيه عن الترحال بين الأحزاب والتيارات السياسية: بعد الفيس والأرندي وحزب المواطنين وجمعيات مساندة برنامج الرئيس ها هو يوقع علي طلبات التأشيرة الموجهة للسفارة الفرنسية. كل توقيع مقابل 10 ألاف دينار. والصورة مجانا. ولو لم تكلفه السفارة الفرنسية بذلك. هو مدرك لمعنى ما يقوم به. يضع رجلا على رجل في المقهى ويفتح النقاش حول قضايا من ابتكاره: مستقبل العلاقات المتوسطية بعد سقوط الاتحاد الأوروبي. رفع دعوي ضد مناوئيه في مجلس الأمن. اختيار معبد يهودي للتعبير عن الأخوة الإنسانية. دعوة أوباما لرئاسة جمعية خيرية في مدينته. في انتظارأن يلقى عليه القبض ويزج به في السجن جزاء جرائمه العقارية والمالية الكثيرة التي ارتكبها في حق مواطنين يؤمن معظمهم بقوة هذه التصرفات وإفلاتها من قبضة القانون الذي تتوعدهم به دولة لم تستطع حمايتهم من بهتانه. فقد أصبح عنصرا فاعلا في بنية شاملة. بنية ما بعد دولة الاستقلال. هذا النمط من التفكير يندرج ضمن البنية الفكرية والعقلية لما بعد مرحلة دولة الاستقلال.

الاستعمار نظام شامل مفتوح. هياكله ما زالت فاعلة على الضفتين. يقبل الحركة في الاتجاهين وفقا للقوى الفاعلة في اللحظة التاريخية. قوى استقلالية أم قوى اندماجية. اللحظة الراهنة هي لحظة القوى الاندماجية التي تسعى لممارسة السلطة الاحتلالية في أوطانها المستقلة: احتلال محلي يعني. يكفي لذلك أن تحقق مطالب القوى الاستعمارية القديمة لتقبلها وريثة لها في حكم الانديجان المحليين. هاهم الانديجان يعودون من جديد على وظيفتهم الأولى: الإرهاب والهجرة غير الشرعية والعنف والخروج عن القانون. وهاهي القوى الاستعمارية تعود لوظيفتها الجديدة: الضبط والقمع وتوزيع الأوسمة على من يقمع أكثر.

عودة الاستعمار بصيغ جديدة وتحت أشكال جديدة وبذرائع جديدة. تلك هي المرحلة الجديدة. أن يعمل المقاوم السابق والمحتل السابق -وبطلب من الأول- على إيجاد صيغ لصنع مستقبل مشترك يمحو التاريخ المأساوي أو الإجرامي. مأسواوي بالنسبة للأول والإجرامي بالنسبة للثاني. يحتاج المجرم إلى ذاكرة الضحية للاستعانة بها من أجل بناء مستقبل  مشرق للعلاقة الدولة المستمرة سابقا والدولة المستقلة سابقا.
كأن ما بعد الاستعمار طريق مزدوج يتوقف اتجاه السير فيه على القوى التي تتحرك فيه: إذا كانت القوى المؤمنة بالمشروع الوطني هي الغالبة كان له اتجاه أما إذا كانت قوى أخرى فهي التي تحدد اتجاه السير. اما البنيات القائمة فهي نفسها التي كانت قائمة قبل الاستقلال. فإذا تخلت الدول عن مشروع الاستقلال أصبحت أداة لتنفيذ السياسة الاستعمارية القديمة.

رابط المقال على جريدة الحياة

 neocomonialisme