الرئيسية / اكاديميا / الاسطورة الأمازيغية والاغنية الثورية في رواية المذياع العاق لجلال حيدر

الاسطورة الأمازيغية والاغنية الثورية في رواية المذياع العاق لجلال حيدر

عزيز بعزيز 

هذه القراءة النبيهة في رواية “المذياع العاق” لجلال حيدر بقلم الكاتب عزيز بعزيز نشرها على حلقات على صفحته في شبكة التواصل الاجتماعيAziz Baziz.  ونحن اذ نعيد نشرها هنا تعميما للفائدة نهنئ الكاتب ثانية بصدور الرواية أخيرا وننوه بالصدى الطيب الذي لقيته في أوساط القراء ونحي الاهتمام الذي لقيته لدى المؤلفين والنقاد وتحية خاصة للكاتب عزيز بعزيز على هذه القراءة المتأنية.

فني-زاد

 

جلال حيدر في روايته ” المذياع العاق” 

صدرت منذ ايام عن بغدادي للنشر (EB) رواية ” المذياع العاق” لمؤلفها جلال حيدر، تقع الرواية في 232 صفحة، ذات الحجم الصغير ( كتاب جيب ).
تدور احداث الرواية في تسعينيات القرن الماضي بالولجة ( بارين ” Barrine”)، ثالا ( Thala)، ثاسلافين، بوحمامة، قايس، حمام الصالحين، مدينة خنشلة، دوفانة.

تبدأ الخيوط الاولى للرواية من بارين بالولجة لتصف حياة عائلة العلمي اليتيم بطل الرواية: حياة قاسية تعتمد على الزراعة المعاشية ( الرعي و النخيل و الزيتون ) ثم ينتقل بعدها مع عائلته الصغيرة و هو طفل الى ثالة ( ثاسلفين ) ثم الى قرية ثالة وبعدا ينتقل الى مدينة بوحمامة بعد ان نجح في شهادة التعليم الاساسي ليكمل دراسته بالاكمالية.
تسارعت الاحداث ، تنادت الرزايا و الهموم، و توالت الصدمات تباعا لتمزق قلب العلمي و هو لا يزال صبيا لا يقوى على كل تلك المحن… يجد نفسه متشردا بين أزقة ثالا، حثالاتها و دناءة الحياة و قذارة العيش فتدفعه الى حمام الصالحين و دوفانة. يغرس الزمن الحاقد انيابه اكثر فيجد العلمي نفسه وحيدا ( مقطوع من شجرة كما يقول البطل) في عين الاعصار دوامة بلا قرار!!!

كيف كانت احداث هذه الرواية؟ كيف نشأ العلمي في عائلته، محيطه و في مجتمعه ؟ ماهي الرزايا و المحن التي تعرض لها العلمي؟ هل نجى العلمي منها ام كان ضحية لها؟ هل كان العلمي مخيرا في حياته ام كان مجبرا ان يخوض تلك الحياة و ظروفها القاسية؟ أسئلة كثيرة تجيب عنها الرواية و تترك فجوات كبيرة و مسافات شاهقة يسقط فيها القارئ ان لم يكن حريصا، تسبح بخيال القارئ بعيدا و تعيده الى واقع رث يحياه كل يوم.
في نهاية الرواية تتأزم الاحداث اكثر و تتعكر حياة العلمي بشكل رهيب جدا فيجد القارئ نفسه يبحث عن اجابات لن يجدها، ليجد نفسه معلقا بين ثاسلافين، المذياع، ” الشر ” ، جوقة السبتي و المجتمع.
رواية جميلة تكتنفها قساوة الحياة و مستواها الضحل في مجتمع متخلف تقليدي مادي يعيش على هامش الحياة.

 

الساق على الساق تتكأ على المذياع العاق: قراءة غلاف 

على الغلاف اسم المؤلف من فوق و له معنى السمو و الارتقاء على ما هو موجود تحته و أسفله في صورة الغلاف.
“المذياع” ببند عريض بلون اسود، أسفل اسم الكاتب، و يمكنه ان يكون عنوان دون كلمة “العاق” : يمكن للمذياع ان يكون وسيلة تفتح على العالم و وسيلة تنوير، كما يمكنه ان يكون وسيلة تدجين و ترويض،و أداة سطوة و سيطرة على الاخر. و في الصورة تبدو كلمة المذياع بارزة جدا و بلون اسود يؤول الى المعنى الثاني المذكور اعلاه و هو يدل دلالة قوية على فحوى الرواية، فلو كان المذياع يرمز الى الايجاب لساعد العلمي على التحرر و التخلص من نيره. و هي كلمة معرفة و لها هويتها
كلمة “العاق” في صورة الغلاف بلون احمر و اقل بروزا من كلمة “المذياع”، يمكنها ان تكون لوحدها عنوانا للرواية. تعبر عن خروج العلمي عن المألوف في المجتمع ( مجتمع متخلف) هروبا من واقع مر يسيطر على واقع الشاوية و المجتمع الجزائري على العموم. تختصر هذه الكلمة كل الرواية. و هي كلمة معرفة و لها هويتها
أثناء التحليل تبدو لنا الرواية من خلال هاتين الكلمتين – اللتين لهما علاقة وطيدة جدا بالصورة التي اسفلهن- أن للرواية ثلاثة عناوين هما:
1- المذياع
2- العاق
3- المذياع العاق.
في الصورة اسفل العنوان:
ساقان عاريتان، واحدة على اخرى، تعلوهما تنورة قصيرة حمراء تتباهى بها يدان صغيرتان لصبية أو فتاة مجهولة لا يظهر منها الا الجزء السفلي( فتاة بدون هوية ) و هي ذات علاقة وطيدة بكلمة العاق : يشتركان في اللون و يختلفان من حيث أن الاولى معرفة و الثانية نكرة (الهوية). تتكأ هذه الفتاة على مذياع كبير أخفت بذلك جزءه العلوي ( لا يظهر كليا ) و بذلك تكون قذ سيطرت عليه و استحوذت على قمته.
صورة الغلاف ( العنوان، الفتاة و المذياع) اختصار جامع و ملم لمحتوى الرواية.
——————–
ليس بوسعي التوضيح اكثر و الاسهاب في الشرح كي لا افسد شهية القراءة و متعتها لمن هو مهتم بقراءتها.

 

الأسطورة الامازيغية في رواية ” المذياع العاق”

 

ينتقي جلال حيدر، من بين القصص الاسطورية التي يزخر بها الادب الشعبي الامازيغي، قصة ” ميرا ” ليستعملها ببراعة كتقنية في روايته البكر ” المذياع العاق”. ” ميرا ” الفتاة الجميلة التي قتلت امها دون وعي منها ( العلمي كذلك قتل امه: ماتت بسبب آلام و نزيف ولادته) تعيش بعد ذلك حياة بائسة في ظروف قاسية و صعبة جدا ( مؤشر يلمح الى حياة العلمي الآتية ).
هل تمكنت الجدة من خلال هذه القصة الشعبية المنتشرة في كل بلاد ثمازغا من تأثيرها في العلمي في بقية مشوار حياته، كون القصص الشعبي لدى الامازيغ يستعمل لتربية الابناء و شحنهم بالقيم السامية و الخيال الواسع .
سيجد العلمي ( ذاك الصبي الذي كانت تروي له جدته القصص قبل النوم ) نفسه في شبابه يعاني نفس معاناة ” ميرا ” هذه الفتاة التي تشاركه اليتم و محن الحياة، و أن ” الغول” الذي قتله اخوة ” ميرا ” السبعة ( كانت ستصير ميرا قربانا له )، و اكلوا من لحمه حين كان الغول يشوى، فاصارو طيورا و طاروا، سيطارد الغول في رمزيته العلمي ( الذي اريد له ان يكون هو الاخر قربانا ” لم يفصح الكاتب عن ذلك “). فهل سيصارع العلمي لأجل البقاء؟ هل سيجد اخوة يقاتلون من اجله و من اجلهم، من أجل حياة أفضل، هذا الغول المرعب فينجو بذلك العلمي و ينجو معه كل المجتمع، ليسبحوا في عالم الحرية و التناغم و التضامن؟
تجد الفتاة نفسها على كف كيد النساء، تهرب لترعى النوق التي تعود جائعة كل مساء ما عدا الناقة الصماء، يدرك صاحب الناقات، بعد ان اتبع خفية ميرا اثناء رعيها، أن السبب يعود الى غناء ميرا الحزين و المؤثر، و أن الناقات كانت تجتمع حولها باكية – ما عدا الناقة الطرشاء – و على اسنامها تحط طيورا تبكي هي الاخرى، انها اخوتها السبعة. هنا يستعمل الكاتب تقنية عالية جدا ليخبرنا عن مستقبل العلمي و إشارة قوية في رمزيتها قد لا ننتبه اليها في وقتها الا بعد نهايتنا من قراءة الرواية ( إسقاط لحياة ميرا على حياة العلمي ؛ هي نفسها تقريبا . الغول، الاخوة … الخ، لكن في اختلاف دور الاخوة ” المواطنين ” ايجابي لدى ميرا و سلبي لدى العلمي)، و يبدي نجاعة الجدة في الوصول الى مرادها في تربية حفيدها من خلال القصص.
بعدها سيساعد صاحب النوق ” ميرا ” على اعادة اخوتها الى طبيعتهم ، هنا يبرز زمن تراجيجي آخر؛ يغلب العلمي النعاس و لا يستطيع اكمال القصة و ينتهي المشهد في القصة في المحاولات اليائسة من ميرا رد الماء بالغربال !!!
سيجد العلمي نفسه في آخر الرواية يصل الى وضع تراجيدي مأساوي يشبه هذا الوضع فلا يستطيع ان يجد حلا لذلك لأن الخيال يخونه، و ان التربية التي كان يتلقاها على يد جدته لم يستطع اكمالها بفعل النعاس الذي كان يغلبه، فلا يجد حيلة لترتيب الوضع المزري الذي يحيط به، فالغربال لن يحمل ابدا الماء.
هل سينجح العلمي و يجد من يعينه؟ هل سيكون قويا ام خاويا محطما؟ ذلك ما ستجيب عن الرواية أو ستتحاشاه؟

الأغنية الثورية في رواية “المذياع العاق”

 

بعد أن تناول الحفيد ( العلمي ) مع جدته و جده وجبة الغداء؛ خبز ( أغروم )، لبن بنكهة الاعشاب البرية ، و بعض التمر الرطب. و فيم كان الطفل يلعب و يداعب حبات الزيتون المتناثرة على الارض كان يسأل الجدة ( نانا ) – التي كانت تلتقط حبات الزيتون بعد النفض – بتلقائية عن أمه التي لا يعرفها؛ هل كانت هي الاخرى تجني الزيتون؟ هل كانت تحملني لتعبر بي الوادي مثلما تفعلين انت يا نانا؟ تجيبه جدته معطية صورة سامية و مثل اعلى لأمه في تفانيها في العمل و روعة جمالها و بهائها ( ثاذموث = الغزالة )، ثم تنتقل بعد ذلك الى الغناء بصوت منخفض و حزين أغنية ثورية مشهورة جدا بين الأمهات الاوراسيات؛ كانت تغنى سنوات الثورة التحريرية الجزائرية من قبلهن: أغنية سمحيلي ها لميما؛ و هي اغنية قوية مزلزلة و عميقة، لوحة فنية تراجيدية و حوار درامي يدور بين ابن سيصعد الى الجبل لتحرير الوطن من نير الظلم و الاستعباد، و اغلال القهر و الاختزال، يطلب الفتى من امه أن تسامحه و تعفو عن خطاياه و زلاته، فتجيبه امه بقلب نقي و سريرة صافية أنها سامحته و ستدفع به قربانا لتحرير هذا الوطن.
الجدة ( نانا ) تحمل – من خلال هذا المشهد، و ما لم يقله الكاتب – أعباء ثقيلة و مسؤولية جسيمة أرهقت كاهلها و أتعبت تفكيرها ، كيف سيصير العلمي؟ و ماذا سيصبح؟ هل يمكن للعلمي يتحدى و يتخطى ما سيأتيه من رزايا الحياة و عقباتها ، لأن الحياة مهما كانت فهي صراع مرير و مثابرة، فهل يمكن العلمي ان يحرر ذاته من نيرها و يبدد الغيوم السوداء من سماء وطنه أم أنه سيسقط دون ذلك و يعيش ضحية ظروفه القاسية و محيطه العفن.
الكاتب هنا ببراعة يعطي للقارئ إشارات ضوئية ناصعة عن مستقبل العلمي و ما ستخفي له الحياة، و مفاتيح سيتذكرها القارئ النبه بعد تطور الاحداث خلال مقاطع الرواية و مشاهدها.
من جانب آخر يبرز الكاتب مدى إعتماد الجدات الأوراسيات ، في تربية ابنائهن، على التراث الثوري لتلقين احفادهن الشجاعة و الاقدام و المثل العليا، و هل ستنجح نانا ( الجدة ) في ذلك ام ان العلمي ستحيط به الرزايا و تعصف به الكرب و الرزايا؟
——————–
“المذياع العاق” رواية لـ جلال حيدر.السداسي 2 . 2018