الرئيسية / اكاديميا / إسماعيل غزالي :سرد يتجول في جغرافية المتاهات

إسماعيل غزالي :سرد يتجول في جغرافية المتاهات

محمد الأسعد

 

 

 

 

 

ثلاثة مداخل إلى أربعة كتبٍ قصصية تفتح طرقاً إلى عوالم من أطلق على نفسه تسمية “عراب الهامش المريب”، المغربي “إسماعيل غزالي” المنحدر مثل عاصفة سرد ذكية من أعالي الأطلس النائي. المدخل الأول إلى كتاب “عسل اللقالق” مأخوذٌ من الأرجنتيني بورخيس (1899-1986) صاحب المتاهات:

” . . آه لهذه المتاهات . . آه لهذه الرموز . . أبدأ الكتابة وتظهر متاهة فجأة، ويحشر نمرٌ نفسه بين السطور، ويلمع خنجرٌ، وتعكس مرآة إحدى الصور” .

المدخل الثاني إلى كتاب “لعبة مفترق الطرق” مأخوذٌ من الإنجليزي “وليم بليك” (1757-1827) صاحب الأخيلة الروحية:

” . . أن ترى عالماً في حبةِ رمل، وسماءً في زهرة برّية، وأن تمسك اللانهاية في راحةِ يدكَ، والأبدية في ساعة.”

ويأتي بعدها المدخلُ الثالث المأخوذُ من الرسام البلجيكي رينيه ماغريت (1898-19767) صاحب رؤية أن كلّ شيء يخفي وراءه شيئاً آخر، والإنسانُ تواقٌ بطبيعته لمعرفةِ ما لا يراه:

” . . فإذا كان الحلمُ ترجمة للحياة الواعية فإن الحياة الواعية هي ترجمة للحلم. إننا نعيش في عالمٍ يخدعنا، وفهمنا له غامضٌ ومشوّش، ولهذا فإن الأحلام والخيال هما سبيلنا إلى العيش في عالم له معنى” .

لمن عرف جيداً أعمال هؤلاء الثلاثة، قد تكفيه هذه المداخل ليكون على بينة مما تحمله قصصُ هذه الكتب، أو قد تغريه فيدخل إليها محاولا استكشاف ما تأتي به لحسابه الخاص. أما ذلك الذي يجهل كل هؤلاء، فسيجد نفسه في عوالم غريبة لايخفّفُ غرابتها أي مرجع لغوي أو سردي أو تراثي أو مثل عابر، كما لا تخفف زرقة بحر أو سماء من بياض طائرٍ من طيور القارة القطبية.

قصصُ “غزالي” بهذا المعنى، تستمد ضوءها من شموسِ مدارات أخرى، عرفها هو وعرفها بعض منا، ولا تمنحها منعطفاتُ الثقافة العربية الراهنة دالة من الدلائل، بل قد يمنحها هذا المجيءُ من “الهامش” قوة مضاعفة؛ هي آتية من تراثِ قص يمكن أن نسميه تراث الحفر في جغرافيا المتاهات، أي تلك المتاهات التي تجعل الوجودَ أضعافاً مضاعفة. هي ذاتها المتاهة التي رأى فيها الإيطالي “إيتالو كالفينو” (1923-1985) طرقاً التفافية للهرب من الموت والعدم والزمن، وهي ذاتها التي جعلها “بورخيس” لحظة يلتقي فيها الأبدي بغير الأبدي، فيتبادلان المحو بلا توقف منذ أن كان الزمان. هي متاهة الأسطورة أو الخرافة التي تجعل الواقع جزءاً من الخيال وليس العكس. وهي ذاتها بالطبع التي جعلت الفنان ماغريت يرى أننا لايمكن أن نفصل الغامض والملتبس عن أي شيء، لأنهما جوهر الأشياء، هما عنصران كامنان في أساس الوجود، وليسا عنصرين مضافين. هما سرّ القوة الخلاقة فينا وفي الطبيعة من حولنا، لأنهما علامة أننا لم نصل بعد ولن نصل إلى يقين، وأن المتعدد في أساس الخلق، ومبرر استمراره، وليس ثنائية إما هذا أو ذاك. ولهذا رأى أن وظيفته كفنان هي أن يعيد للمألوف غرابته؛ الحجرُ المعلق في الفضاء، والجسم المتحول، والعبّارة الطافية، والغيمة الثلجية . . والغليون الذي هو ليس غليوناً، أو ما أطلق عليه “ميشيل فوكو” خيانة الصورة، وحلّل تحت هذا العنوان ما تومئ إليه اللوحة من منظور لغوي وتاريخي وبصري.

قد تكون هذه اللمحاتُ من لوحاتِ ماغريت مراجع تفسيرية لقصص “غزالي”، إلا أنها لاتغني عن قراءة قصصه وهي تتعمد مقاطعة فضاءات السرد الشائع، وتفتح مجالاً واسعاً متعدّد الطبقات لمتعة باذخة، يصبح معها التفكير بأدب يعيد انتاج الواقع نوعاً من الحماقة فعلاً، كما قد يقول راهب من رهبان مذهب الزن البوذي قضى حياته في تعليم كيفية إلغاء التفكير المنطقي، والعلو إلى مستوى التفكير الحدسي الأعمق، أو كما قد يقول سيريالي غربي اقتبس شيئاً من فلسفة هذا الراهب، وبدأ يتدرب على كيفية الكتابة والتفكير بعفوية بالغة.

تبدأ قصة “ولع الفراشات” بتساؤل أمام مشهد فراشات متواشجة في فستان امرأة عابرة: هل ستندلع فجأة وتندلق في كل جهات المدينة؟ ولكن هذه الصورة هي التي تندلع بتأثيرها ذاكرة الراوية والمراقب أيضاً، فيقص قصصاً موضوعتها الرئيسية الفراشاتُ، وكلها قصص مختزلة وعنيفة يتخللها خيالُ طفل وموتٌ واغتصابٌ وهربٌ وغرق.. إلخ، وصولاً إلى لحظة وصوله إلى المرأة، فيقطع عليه طريقه إليها راكبُ دراجة يهدّده ويختطفها، فيتسمر كنخلة يراقب انطلاق الدراجة، مغموراً بضوء مشهدٍ أشدّ إذهالاً؛ اندلاع الفراشات من فستان المرأة وهي تتطاير بكثافة في الشارع وعلى الشرفات والسطوح، إلى أن تغطي السماءَ وتخفي، كما قبعة ساحر، المدينة كلها.
.
ولكن قصة “امرأة وحيدة على متن قارب” من كتاب “لعبة مفترق الطرق” هي التي ذكرتني فوراً بالفنان ماغريت ولعبة المرايا التي يمارسها في لوحاته (اللوحة داخل اللوحة داخل اللوحة إلى ما لا نهاية). هنا ثلاثة أشخاص، أحدهما على الشاطئ يراقب المرأة في القارب ويرسمها، والمرأة من جانبها تراقبه فتكتبه في قصيدة، أي ترسمه أيضاً، وهناك ثالث يرصد المشهد من نافذة فندق ويحاول لملمة تفاصيل المشهد ورسمه في قصة قصيرة.

ولا أستطيع منع نفسي من تذكر أن العنوان، “لعبة مفترق الطرق”، يحيلني مباشرة إلى رواية بورخيس المسماة “حديقة الطرق المتشعبة” . وكذلك الأمر مع قصة “مكتبة الكتاب الواحد” من كتاب “الحديقة اليابانية”، الذي يذكر برواية بورخيس “كتاب الرمل” الذي صفحاته بلا نهاية، حين يحدثنا “غزالي” عن كتاب “العواصف” لجبران، وكان مفتاح ولعه بالكتب، وكيف أنه حين زار مكتبة صديق اكتشف أن الألف كتاب فيها هي نسخ من كتاب العواصف.

تبدأ قصة ” قيلولة الحصان الأبيض” بامرأة سائحة تراقب حصاناً على شاطئ بحيرة يراقبها من جانبه، ويراقب الاثنين مروضُ خيول من فوق صخرة. يضطرب الحصان وينطلق، ويسقط الرجل عن المرتفع، وتستيقظ المرأة، فإذا هي فوق شرفة تطل على مشهد حصان معدني أبيض يتوسط صهريج مياه في حديقة مدينة صغيرة، فتطل من شرفتها باحثة عن مروض الخيول الذي كان يتلصص عليها في حلم قيلولتها وهي “تمنّي النفسَ بأن تصادفه واقعاً ذات هجير صاخد على شاطئ بحيرة” .

وفي قصة “النائمات على العشب” جمالٌ أخاذ، ليس بسبب نوم أربع نسوة عاريات فوق العشب في انتظار عودة سائق تعطلت سيارته قبل أن يصل بهن إلى المدينة، بل بمرور سائح أجنبي يتلصص عليهن ويأخذهن إلى المدينة، ونكتشف أن أسباب هبوطهن إلى المدينة كانت أسباباً ملفقة، وأن هناك أسباباً أخرى، أو أسباباً تُكبت عادة حين يحدث مثل هذا الهبوط، ثم، وهذا هو الخيالي حقاً، يكشف الراوية عن أن السائح هو من رسم لوحة “النائمات على العشب” واختفى، فيعثر عليها صاحب الفندق ويعلقها على جدار مقهاه. ونتساءل: هل حدث بالفعل أن مرت أربع نسوة حقيقيات على هذا الطريق، ونمن على العشب، أم أن الأمر مرّ في خيال سائح عابر رسم لوحة تركها في غرفته في الفندق، فأخذها صاحب الفندق وعلقها على الجدار، ويشاهدها الراوي من جانبه فيكتب قصته؟

ليس الزمن وحده هو ما نفتقد تسلسله التقليدي هنا، بل نفتقد بلادة الجملة النحوية المقررة حسب قواعد النحو. نحن هنا إزاء نحو الطبيعة الذي لا كلمات مجردة فيه، ولا أفعالاً تتناهى مع نهاية الجملة، بل كل شيء في حالة حركة، في حالة تفاعل ديناميكي تتشابك فيه أحداث القص، تمتد وتمتد، ولا تصل إلى أي شرفة، بل يمكن القول إنها لو ترك لها المجال والورق لتواصلت إلى أبد غير منظور. وتبدو رغبة القص داخل القص هي الغالبة، إلى درجة أن تخطي عتبة إلى عتبة أخرى، والعتباتُ متعددة، وتشير إلى اتجاهات شتى، لن يتوقف عند أي صفحة أو سطر من السطور.

ويبلغ هذا السرد من الجمال حدّ أن النقطة الأخيرة فيه تبدو مصطنعة ليست من طبيعة الأشياء. حركة الأشياءِ والمصائر في عالمٍ تتمازجُ فيه الشجرة مع ظلّها، وتنقلب النهاية إلى بداية والبداية إلى نهاية، ويحلم فيه الإنسانُ أنه يحلم على حافة لا هي باليقظة ولا هي بالنوم، هي الجمال ذاته، هي حاملة متعة الفن الحقيقية لا رغبات سلاحف، حتى لو أصر الكون كله على أنها تفهم الشعر وتتذوقه، ويجب أن يمضي الشعراء أيامهم على ضفاف الأنهار يتلون قصائدهم على أسماعها .