الرئيسية / الرئيسية / ينحت في الرمل

ينحت في الرمل

مهدي براشد

 

 

 

 

 

لم يعرف كيف استهواه ذلك المقطع الشعري وملكه، يستهويه درويش كما لم ستهويه شاعر آخر باستثناء المتنبي، لكن لم يحدث معه أن ردد مقطعا بعينه لفترة طويلة.

” الآن، في المنفى… نعم في البيتِ،

في الستين من عمر سريع

يوقدون الشمعَ لك.

فافرح، بأقصى ما استطعتَ من الهدوء،

لأن موتا طائشا ضلّ الطريق إليك

من فرط الزحام… وأجلك”.

أعطى ظهره للماء، منشغلا بإزالة الرمل عن جسد امرأة ممتدة على شاطئ لفحته شمس ضحى مازال إلى ما بعد العصر، فلم تتماسك ذرات رمله من فوق، لكن الرمل من تحت الرمل كان كما إسفنجة ضخمة تمتص كل ما يقذف به الموج من موج.

تلك وسيلته ليؤنس وحدته فلا ينفرد به البحر ويبتلعه. اختار مكانا لا قريبا من الماء فيطغى عليه الموج، ولا بعيدا فتمتصه الشمس، وتذرو ذرات رمله الريح، مكانا يمكن أن يحفر فيه ويفتش عن جسد تلك التي سترافقه طيلة اليوم حتى لا ينفرد به البحر ويبتلعني.

هي لعبة لا يعرف متى اكتشفها، ولكنه يذكر أنه، وهو طفل صغير، لم يكن كغيره من الأطفال يبني قصورا من الرمل. لا يعرف حتى من علمه تلك اللعبةا، لكنه يذكر أنه وعى على أن الرمل حين يكون مكبوسا ورطبا يكون قابلا لنحت أشكال مختلفة، وأن الأشكال التي ستنحت تكون موجودة سلفا، ليس علينا إلا أن نبحث عنها، وفي ذلك لا نحتاج لأدوات، سوى لأصابعنا إزميلا لإزالة الرمل الزائد.

أما الذي لا يعرفه ولا يذكره هو لماذا كلما نحت في الرمل نحت جسد امرأة ممتدة تضع ذراعا تحت الرأس وأخرى ما بين أسفل البطن وعورتها. ربما حدث أنه نحت شكلا آخر، ربما ولكنه لا يذكر.

مديرا ظهره للماء، منكبا على إزالة ما تبقى من رمل كان يغمر جسد المرأة الممتدة على الرمل. لا يشعر بسياط الشمس على جسده، لكنه يحاول منع أشعتها من أن تصل إلى جسد المرأة الممتدة على الرمل، فتمتص ما فيها من ماء ورطوبة، فينهار الجسد الرملي وتذرو ذراته الريح.

تحلق عدد من الناس حوله، كان أمرا مزعجا، لكنهم شكلوا ما يشبه سورا بشريا على يمين الجسد الرملي، فأحدثوا ظلا يقيه أشعة الشمس، استطاع تجاهلهم وتجاهل تعليقاتهم، بعض الصغار أثار المنظر ضحكهم: “مرا عريانه”، “حبط لها يدها شويه للتحت”. شابة في الثلاثين تقول لرفيقها “il fantasme sur du sable”، فيرد عليها “c’est beau”.

وبين فترة وأخرى، كان يخرج مما يشبه القبر يرقد فيه الجسد الرملي، ويتجه إلى البحر يغطس فيه كفيه يغسلهما مما علق بهما من رمل، يمسحهما في تبانه الجاف من المؤخرة، ثم يعود إلى الشاطئ ويأخذ سيجارة ويتأمل المرأة الممتدة على الرمل وما آلت إليه.

لم يبق الكثير، يحتاج إلى عود رفيع لرسم العينين والفم. ينقص ثقب الصرة في وسط البطن، حلمتان. لم يكمل مسح الجسد الرملي بعينيه حتى صاح فيه صوت من خلف السور البشري المحلق بالمكان: “أردم علينا هاذ الزبل”. استدار السور البشري وفتح على صاحب الصوت، كان رجلا في غير ثياب البحر، سروال إلى الركبة وقميص مفتوح على “تريكو” فقد بياضه. نظر فيه من الحفرة إلى أعلى دون أن يكلمه، فرد: “راني نهدر معاك، أردم علينا هاذ الزبل”.

لم يرد وعاد إلى الجسد الرمل، يمرر يديه على الحوض برفق، وعلى الفخذ الممتدة نحو الأعلى قليلا، برفق أكثر. لا ضرورة لرسم العينين والفم، يكفى أن يضع أصبعه في وسط البطن ويرسم ثقب الصرة. ثم خرج من الحفرة لا يلتفت يمينا ولا شمالا باتجاه البحر وغطس.

هي شهقة واحدة، كما لو أن سوطا من نار باردة ضرب صدره، غطس في الماء كاملا للتخلص من كل الرمل العالق بجسده. هي دقائق قليلة ثم خرج. فجأة يضيق صدره كما لو أن مكبسا يشتد عليه، كأن طعنة من خلف الظهر نحو المعدة، شعر برغبة في القيء، و…

حين فتح عينيه، وجد صورا بشريا محلقا به بالكاد يمنع عنه ضوء مصباح ضخم بحجم الشمس: قال أكبرهم ولم يكن في ثياب البحر: “أصبت بجلطة في الشريان التاجي. سلكت منها…”.