الرئيسية / اكاديميا / واقع الإعلام في الجزائر

واقع الإعلام في الجزائر

ملخص عن الندوة التي نظمها – مشكورة- الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية مع مؤسسة فنون وثقافة لمدينة الجزائر سهرة يوم 18 جوان 2017

عاشور فني

 

كيف يمكن النظر إلى الإعلام اليوم في علاقته بالواقع، بالحياة الاجتماعية  وبالحقيقة؟

في البداية لا بد من وضع الإعلام في سياقه وهو المجتمع الحديث. مجتمع يتميز بوجود الفرد المستقل المميز الساعي إلى المشاركة الإيجابية في الحياة العامة التي يشترك فيها مع أفراد آخرين لبناء حياة اجتماعية منظمة في شكل دولة.  ذلك هو المواطن. يدفع الضرائب ويساهم برأيه في وضع السياسات العمومية ويعنيه أمر التداول على السلطة. لذلك يهتم باشان العام ويبحث عن المعلومات في الصحيفة أو الإذاعة أو التلفزيون أو الشبكة العنكبوتية من أجل بناء موقف حر مما يجري في الحياة العامة ولاتخاذ مواقف بكل حرية. هذا ارتبطت الصحيفة ببداية الثورات الديمقراطية. شهدت ثورة المواطنة. كان الناشر مثقفا  منخرطا وفيلسوفا اجتماعيا وصانعا للرأي ومستثمرا في صناعة لا تقل أهمية عن الصناعات التحويلية. كان هناك طلب اجتماعي على الإعلام مثل الطلب على المواد الغذائية والملابس والمساكن والأثاث. الإعلام الحر ضروري لبناء ديمقراطية تليق بالمواطن المستنير. كانت الصحافة امتدادا للفضاء العمومي: الساحات العامة والنوادي والجمعيات وقاعات البرلمان.

لكن سوق الصحافة تطلبت توسيع الطلب الاجتماعي على الإعلام إلى فئات أخرى. ديمقراطية التعليم سمحت بوجود فئات من القراء غير معنية مباشرة بالشأن السياسي. هكذا نشأت الأبواب الترفيهية والفنية وأركان الألعاب والرياضة والتسلية في الصحف. نشأت أيضا فنون الاستطلاعات المثيرة والمنوعات والطرائف وارتياد عوالم جديدة. بل نشأ فن أدبي قائم بذاته هو الروايات المسلسلة التي بدأ ينشرها كبار الأدباء الكلاسيكيين فصولا متتابعة في الصحف قبل أن تنشر في كتب لاحقا. كل هذه الأركان كانت تمكن القراء من الهروب من يومياتهم المملة. نشأت مع هذه الأركان فئات جديدة من القراء. لم تعد الوظيفة الإخبارية هي الوظيفة الوحيدة للصحيفة: بل اتسعت إلى وظائف أخرى: التداول في الشأن العام والترفيه والتسلية والإثارة والهروب من الواقع. هكذا أصبحت الصحافة عنصرا في ثقافة المواطن الحديث اليومية بديلا للكتاب المقدس والشعائر الكنسية في عهد ما قبل الثورات الديمقراطية.

غير أن الناشر وجد طريقة أخرى لزيادة توسيع سوق القراء وزيادة دخل مؤسسته الصحفية: بيع جزء من مساحة الصحيفة للمعلن الصناعي الذي يحتاج إلى مواكبة أسلوب الحياة الجديد: بدلا من نشر الإعلان في الساحات العامة للعابرين ينشرها في الصحيفة للقارئ. أليست الصحيفة جزء من الفضاء العمومي؟

تدخل المعلن الصناعي التجاري في الصحافة عجل بتحويلها إلى نشاط صناعي. انتهى العهد الذهبي للصحافة قبيل الحرب العالمية الأولى. زادت الحرب من مشكلات التوزيع والتمويل. أما أزمة  الكساد الكبير العالمية(1929) فقد عجلت بالتحولات الهيكلية والمؤسسة. صار المعلن مؤثرا في الخط التحريري للصحيفة. صار الاتصال أسبق من الإعلام.

نشأت الإذاعة صناعة قائمة على مبدأ الترفيه أساسا. كانت الصحيفة تباع للقارئ ثم للمعلن. أما البرنامج الإذاعي فيمنح مجانا للمستمع لخلق جمهور يتم بيعه للمعلن التجاري المعني باجتذاب زبائن لسلعه. كانت اللعبة التجارية جزئية في الصحافة صارت كاملة في الإذاعة. استمر نفس النموذج الاقتصادي مع التلفزيون لاحقا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. صارت التسلية هي الطعم الذي يجتذب المشاهدين.

اكتمل النموذج الاقتصادي وأصبح سائدا في سوق الإعلام. رغم وجود القنوات العمومية في بعض البلدان الحريصة على الخدمة العمومية في التلفزيون فإن نموذج التلفزيون التجاري صار هو النموذج السائد: ماذا ينتج التلفزيون؟ وماذا يبيع؟ ومن أين يحقق أرباحه؟

ينتج التلفزيون التجاري سلعة أساسية هي (الجمهور) ويبيعها لزبون أساسي هو المعلن. ومصدر موارده المالية الوحيد هو عائدات الإشهار. ووسيلته الأساسية في ذلك هي: الترفيه والتسلية. استعار من السينما صناعة النجم واستعملها للوصول إلى أهدافه: حتى الأخبار والبرامج الحوارية  أصبت أقرب إلى صناعة النجم السينمائية. هكذا ابتعدنا كثيرا عن الوظيفة الإخبارية والتثقيفية وأصبحت وسائل الإعلام جزء من صناعة الفراغ وامتدادا لثقافة الاستهلاكية التي بلغتها الرأسمالية الرفاهية المتطورة منذ ستينيات القرن العشرين.

أسئلة كثيرة تطرح اليوم على وسائل الإعلام ودورها في المجتمع وعلاقتها بالحقيقة وبالواقع وظيفتها في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية:

هل وظيفة وسائل الإعلام البحث عن الحقيقة؟ أم تغطية الوقائع اليومية؟ أم صنع الأحداث؟ أم توعية الناس؟ أو تزييف الوعي؟ أم تحريض الناس على التغيير؟ أم صنع الرضا العام والقبول بالوضع الحالي؟

لقد كان الإعلام يتيح للمواطن بامتلاك معلومات ذات نوعية تسمح له بالتفكير السليم واتخاذ مواقف حرة  تتماشى مع مصلحته وقناعاته. لكن دخول الاتصال التجاري أصبح مؤثرا على حرية الناشر نفسه وحرية الجمهور بالضرورة. أما الاتصال السياسي فقد أصبح أيضا طرفا في العملية وبذلك زادت القيود على وسائل الإعلام.

في البلدان التي لا تتوفر فيها صناعات متطورة تسوق منتجاتها وتستثمر أموالا في الإشهار يتدخل السياسي عن طريق الإعلانات أو الإعانات أو ترتيب الولاءات من أجل دفع وسائل الإعلام للحفاظ على الوضع القائم وصناعة الرضا العام وترسيخ القبول بالوضع. حتى المناقشات والحوارات الساخنة تصبح جزء من لعبة بناء الرضا العام بشكل حماسي. يوزع السياسي الامتيازات على الصحف والناشرين بقدر مساهمتها في تحقيق الهدف العام للسياسة الإعلامية: إنتاج الرضا العام.

في الجزائر تطورت الساحة الإعلامية منذ الاستقلال باتجاه إنشاء فضاء إعلامي وطني مستقل برعاية الدولة: الإدارة والحزب. ثم بدأ فتح الفضاء الإعلامي للتعددية منذ دستور 1989. عرفت الصحافة المكتوبة تطورا سريعا خلال التسعينيات.  تحققت مكاسب كبيرة في ما يتعلق بحرية التعبير وتنوع الأشكال التعبيرية. لكن المهنة تعرف تطورا سلبيا بغياب التنظيمات المهنية وفوضى التوزيع ومصاعب الطبع وغياب قانون للإشهار وعدم شفافية توزيع الإشهار العمومي. وعموما مازالت الصحف تواكب النشاط السياسي: إطلاق دفعات من الصحف( مع دفعات مثيلة من الأحزاب) مع كل موعد انتخابي جديد ثم ترجها لمصيرها بعد نهاية الموسم. هكذا أرغمت الصحف على البحث عن علاقة زبائنية للحصول على الموارد الإشهارية من المعلن العمومي أو الخاص. لم يعد القارئ هدف للناشر.البحث عن المعلن يسبق البحث عن جمهور القراء. صفحتان إشهاريتان تسمحان للناشر بالاستمرار دون قراء أصلا. الموزع يفضل بيع المرتجعات بالكيلوغرام بدلا من الاستثمار في تحسين شبكة التوزيع.

أما المجال السمعي البصري فقد عرف تشوها آخر: إطلاق دفعات من القنوات والمحطات التجارية في شكل مكاتب قنوات أجنبية معتمدة في المواعيد السياسية المهمة دون تمكينها من الاستفادة من الامتيازات التي يخولها تنظيم الصناعة السمعية البصرية بشكل جدي: غياب البنيات التحتية للإنتاج الثقافي وغياب التنظيم المهني وانعدام الشفافية في مجال الإعلان المصر الحقيقي للموارد.

دفع الوضع القنوات العاملة إلى العمل على التقرب من الجمهور بأدنى التكاليف: برامج سطحية وترفيه رخيص وتملق للمشاعر الدونية وأحيانا تجييش الجمهور عن طريق الإثارة بكل أشكالها الحسية والثقافية والسياسية تقربا للسياسي الباحث عن مستلك لخطابه السياسي الضحل.

في الآونة الأخيرة ظهرت شبكات التواصل الاجتماعي باعتبارها منفذا حقيقيا للجمهور للتخلص من سيطرة وسائل الإعلام التقليدية ومحدودية خطابها وأحاديته وهكذا وجد المستعملون فضاء جديدا يمارسون فيه مواطنتهم بحرية كبيرة ويقدمون رؤاهم وأفكارهم بحماس ويقدمون وجهات نظرهم في الأحداث ويثيرون القضايا المسكوت عنها في وسائل الإعلام. وقد تحولت الميديا الجديدة إلى صانع حقيقي للرأي العام وموجه لوسائل الإعلام التقليدية ومؤثر في الواقع وصانع للأحداث أحيانا.