الرئيسية / اكاديميا / هيا نشتر قارئا

هيا نشتر قارئا

د.لونيس بن علي

جامعة عبد الرحمان ميرة-بجاية

صعبٌ أن تُقنِع النّاس اليوم بفائدة قراءة الروايات، إذ أنّ جلّهم يعتبر الأدبَ ترفيها، وفعلا منزّها عن أيّ غرضية مُمكنة. إذا أردنا أن نعرف مكانة الأدب داخل المجتمع، فلابد أن نبحث عن الإجابة خارج أسوار المعاهد المتخصصة في دراسته، فلا يُمكن الوثوق في أهل الاختصاص، لأنّ هؤلاء، سيقولون لك بصوت واحد: نحن ندرس الأدب للطلبة، لأنّ علينا أن ننهي البرامج المُقرّرة في وقتها.
أنا ألمّح هنا، إلى أنّ الأدب بالنسبة للمختصين، لا يعدو أن يكون عملا يتلقون مقابله أجرة شهرية، وليس كلّ من يدرٍّس الأدب ويدرسه يعرف حاجته الحقيقية إليه. وإذا أضفنا إلى هذه العينة، مواقف شرائح المجتمع الأخرى، قد نصل إلى نتيجة مزعجة.
إلى اليوم، مازلنا لا نعرف حاجتنا الحقيقية إلى الأدب، وأمام تحوّل نماذج التأثير الاجتماعية التقليدية مثل المعلّم، الأديب، المفكّر، وظهور نماذج جديدة: الإعلامي، الرياضي، المطرب، النجم السينمائي.. أصبح من الصعب الحديث عن حضور مضيء للأدب.
إنّ المجتمع يساير تحولات النماذج الاجتماعية، بتأثير مباشر من التحولات الاقتصادية والسياسية التي فرضتها منظومة سياسية، اتجهت نحو قلب منظومة القيم، والاعتداء على القيم الفنية والجمالية والإنسانية لصالح القيم التي ينتجها السياسي، أو رجل المال، أو الفقيه. وكلّهم أصبح يفرض نمذجة اجتماعية جديدة للمجتمع.
كان الأديب إلى زمن ما يعاني من رقابة سياسية شديدة، وكان تحت عيون السلطة، تراقب حركة الكلمات داخل نصوصه، فقد يتعرض للتعذيب والسجن بسبب جملة تلفظت بها شخصيته الخيالية. وعلى الرغم من صعوبة التجربة، إلاّ أنّها تكشف عن أنّ الأنظمة السياسية في مرحلة ما كانت واعية بأهمية الأدب، وبخطورته. بل كانت الرقابة تقرأ وتساهم بطريقة أو بأخرى في الترويج للكتب، وتحرّض من حيث لا تدري على القراءة. أليست الرقابة والحظر أهم الوسائل التي روّجت للأدب عبر تاريخه الطويل؟ يكفي أن يزج بأديب ما في الأقبية السفلية لوزارات الداخلية ليعلو نجمه، وتنفذ كل نسخ كتبه.
هذا النوع من الرقابة المُتعلمة لم يعد موجودا اليوم، فلم نسمع بأديب دخل السجون، إلا فيما ندر. لقد غيّر الخطر مواقعه، وأصبح الفايسبوك أحد تلك القلاع الجديدة للخطر. الرقابة اليوم أمية لا تقرأ، ولم تعد مكترثة بجدوى الأدب. بل أن كتابة جملة فايسبوكية لهي اهم وأثقل وزنا من ركام من الصفحات التي تروي سيرة متخيلة لكائن حِبري ما.
صعب أن تُقنع الطالب الجامعي، الذي ينتمي إلى الأقسام الأدبية، بجدوى قراءة الأدب؛ لعدة أسباب، معظمها نفسي. طالب الأدب يعتبر نفسه مُعاقبا بمجرد أنه ينتمي إلى القسم الأدبي. فسنوات دراسته يقضيها محمّلا بعقدة الأدب، وهو الذي ينظر إلى تخصصه بدونية كبيرة. صار الطالب اليوم يخجل أن يفتح رواية أو ديوانا شعريا في طابور المطعم الجامعي أو داخل الحافلة الجامعية. ينتابه إحساس أنّ كل العيون تترصده وتسخر منه. هناك طلبة أخبروني أنهم اضطروا للكذب على زملائهم حين كانوا يسألونهم عن تخصصهم. كيف يمكن لهذا الطالب أن يعقد علاقات طبيعية مع الأدب؟ سؤال آخر: كيف يتم تدريس الأدب؟ بأي أسلوب؟ وبأيّ منهجية؟ صعب أن يُدرّس الأدب من لا يقرأه ولا يتذوقه. يشبه الوضع ببارونات المخدرات، حيث قاعدتهم الذهبية: المخدرات مدمرة للإنسان، ومع ذلك يروجون لها. يُدرّس الأدب بدون حسّ أدبي، ودون جمالية مغرية للطلبة. كأنه لا فرق بين تحليل قصيدة أو تشريح جثة فأرة مخبرية. لا نستغرب إذن، أن أساتذة الأدب قد يشكلون خطرا على الأدب الذي يُدرّسونه.
منذ سنوات، خرج وزير أول للحكومة الجزائرية ينتقص من أهمية العلوم الإنسانية، واستهدف في كلامه الشعر تحديدا. صحيح أنّه لم يكن في درجة وعي أفلاطون بخطورة الشعر على مستقبل جمهوريته، بل كان وعيا ضحلا، قليل الشكيمة، منحازا لرؤية ضيقة وسطحية جدا لأهمية العلوم الإنسانية، ولأهمية الأدب تحديدا. من هنا، أي من مثل هذه المواقف، يزداد حيز الوعي بالأدب يتآكل أكثر، وينكمش بشكل فظيع. والواقع يبرهن على هذا التآكل.


ليت الجميع يقرأ بانتباه شديد رواية ” هيا نشتر شاعرا” للروائي البرتغالي ” أفونسو كروش؟ الرواية باقتصادها التخييلي، طرحت هذا الموضوع ضمن مقاربة سردية ذكية وعميقة، لم تخل من السخرية اللامعة. يتخيل الروائي عالما قوامه الحسابات، والأرقام، والمعدلات الرياضية، وأسهم البرصات…إلخ شخصيات لا تحمل أسماء، بل تحمل أرقاما، حيث صارت هويتها رقمية. المشاعر تُدرك من خلال النسب المئوية لتدفق الأدريانين في الدم، فهم لا يؤمنون بكيمياء العواطف، ولا بالانفعالات. في عالم كهذا، لا مكان للفن، ولا للجمال، ولا للأدب…فقط عالم مبني على منطق رياضي دقيق جدا. هنا، استغنى المجتمع عن الشعراء، لكن يمكن الحصول عليهم في متاجر متخصصة.
تخيل الروائي محلات تعرض سلعها من الشعراء، من حساسيات مختلفة، ويبقى أنّ الشاعر الأغلى هو الذي يحمل نسبة كبيرة من النزعة التدميرية، وهذا النوع من الشعراء لا يشتريهم أحد. قررت بطلة الرواية أن تشتري شاعرا، فطلبت من والدها أن يُرافقها إلى المحل حيث يباع الشعراء. وهناك اشترت شاعرا، وأخذته إلى البيت سعيدة بهذا الكائن الغريب. في البيت، اكتشف الجميع أنّ الشاعر كائن غريب، بحركاته، وبصمته، وبطريقة كلامه، والأغرب هو أنه يقضي ساعات طويلة وهو يحدِّق في الفراغ. التأمل الشعري أو الصوفي بالنسبة لهذه العائلة هو تحديق في الفراغ! أليس هذا هو الموقف الاجتماعي اليوم من الأدب، بأنه تحديق في الفراغ؟
تكتشف الفتاة، التي لا تحمل اسما، أنّ شاعرها يقول كلاماً غير مفهوم، وحينما لا يتكلم يرسم أشكالا غريبة على جدار غرفته الصغيرة؛ وفي الغالب كان يكتب شعرا. وحين تسأله عن تلك الكلمات، كان يردّ عليها أنّ نافذة من خلالها يرى العالم اللامتناهي. بوعيه الشعري، كان يرى العالم اللامتناهي من خلال نافذة الشِّعر. إنّه يقول للفتاة أنّ الشعر هو هذا بالذات، هو نافذة مشرعة على العالم. العالم الكبير قد نلمحه في تلك التفاصيل المُهملة في الحياة.
ما يهمّني في هذه الرواية هو نهايتها، أي تلك اللحظة التي صار الشعر فعّالا في الحياة، وقادرا على تغيير الواقع، واقتراح حلول لمعضلاته. والد الفتاة كان على وشك الإفلاس، بسبب انخفاض مردودية مصنعه. كلّ الحلول لم تكن ناجعة، لأنّه لم يكن ينظر إلى مشكلته من زاوية مختلفة تماما. وحين قرأ بيتا شعريا كتبه شاعر ابنته، سقطت من السماء المعجزة! لقد أدرك الوالد أنّ الدفء الإنساني الذي تخلّفه القبلة يمكن أن يكون مفتاح معضلته الاقتصادية. وهنا فهم أن نقص التدفئة في مصنعه في الأيام الباردة هي التي أدت إلى نقص قوة الإنتاج. الشعر أنقذ مصنعا من الإفلاس.
الأدب، كما لا يفهمه الناس اليوم، يمكن أن يكون مفتاحا للكثير من معضلاتنا الإنسانية، وهجرانه هو من بين الأسباب التي قتلت فينا ملكة الخيال، وجففت منابع الأذواق، وغيرت مسار الانفعالات والمشاعر نحو مصبّ آخر.
صحيح، أنّ الأدب لا يمكن له أن يوقف الحروب، أو ينهي عصر الأوبئة، أو يقلب الأنظمة الديكتاتورية، أو يوقف مدّ المجاعات في القارة الإفريقية. وإن كانت وظيفته ليست تلك. من هنا تبدأ حالة الوعي او عدم الوعي بقيمة الأدب في المجتمع، وفي حياة الأفراد.
لا يمكن لقصيدة شعرية أن تضع حدا لنزاع مسلح بين قوميتين متناحرتين، لكن يمكن أن تحذّر، ويمكن أن تتنبأ بالمستقبل، ويمكن أن تحرّك الضمير الإنساني قبل وقوع الكارثة أو تورطه بعد وقوعها لتشعره بالذنب.
وظيفة الأدب، إذا قرأنا جيدا تاريخه، كانت مؤثّرة، وعلى الرغم من محاولة البعض الزجّ به في منظومات جمالية تدعو إلى لاغرضيته، فقد كان ذلك بدافع سياسي أكثر مما هو جمالي. فالدعوة إلى الفن لأجل الفن، أو الأدب لأجل الأدب لم تكن بريئة من سياسات عزل الأدب والفن عن الحياة، ونقلهما إلى عالم أثيري، معزول عن الحياة وعن التاريخ. يقول خوان غويتسيوللو:
“فبانتزاعنا من تجريدات الفن للفن والكتابة بوصفها لعبا، فإنّ السؤال يُجبرنا على طرح قائمة من المشاكل التي تتجاوز إطار الاعتبارات الجمالية المحضة. فإذا كانت اللانفعية والعنصر اللعبي هما دائما الخاصيتان الأساسيتان للعمل الأدبي، فإنّ اعتبار الأدب كفعل إجرامي في أغلب بلدان العالم الحالي يُفند إدعاءات البعض بإبداع فن أثيري ( يسبح في السماء)، مكتف بذاته، وعلى هامش الحياة الاجتماعية كلية”. ( عصافير تلوث عشها، تر: عبد الكريم جويطي، ص30)
في مرحلة ما، كان الأدب أحد وسائل المقاومة ضد الاستعمار، وضد الأنظمة الديكتاتورية على غرار الرواية الأمريكية اللاتينية، واليوم نتساءل: ماذا بقي من بُعد المقاومة في الأدب؟ هل مازال الأدب يقترح نفسه كأحد الوسائل الثقافية للمقاومة؟ مقاومة الاًصوليات، مقاومة العولمة والامبريالية، مقاومة منظومات التنميط الثقافية، مقاومة الاستبداد السياسي للدول الوطنية…إلخ هل يمكن للأدب اليوم أن يربينا على قيم الحوار؟
السؤال الأخير، نبهتني إليه دونالين ميلر، وهي تتحدث في كتابها الشيق ( الهامسون بالكتب ) عن تأثير قراءة الأدب على حياتها الشخصية. لقد كانت دونالين مولعة بالرواية، حتى أنها لا تتصور حياتها دون رواية بين يديها. ما أثار انتباهي في كتابها هو أنّ القراءة، حتى في المجتمع الأمريكي، أخذت تنحصر مع الوقت، ومن خلال تجربتها في التدريس، لاحظت أنّ الأطفال لا يميلون إلى قراءة الكتب كثيرا، بل إنّ المدرسين أنفسهم كانوا يميلون إلى الاكتفاء بقراءة الكتب المقررة. تحولت القضية بالنسبة لها إلى إعلان عن نضال يومي من خلال الدعوة إلى القراءة، وتقريب الكتاب أكثر إلى الأطفال. ما شدني هو هذه الفقرة، التي من خلالها كشفت دونالين عن فلسفتها للكتاب:
” إنّ الكتب خطابات حبّ ( أو اعتذار ) نمرّرها بيننا، مضيفة مستوى آخر من الحوار يتجاوز كلماتنا المنطوقة. ولا يستطيع أي منّا تخيل قضاء حياته مع شخص لا يقرأ “. ( ص 28 )
على الرغم من أنّ موقفا كهذا يمكن إدراجه ضمن المواقف المثالية، إلاّ أنّ ربط الكتاب بالحب، ثمّ بالحوار يجعل منه عاملا ضروريا لبناء العقل التواصلي داخل المجتمع. المجتمعات التي لا تقرأ، وتلك التي تنتقص من قيمة الأدب، هي مجتمعات لا تواصلية في الأساس.