الرئيسية / الرئيسية / نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى

نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى

رضوان جودت زيادة
 

قدم ريكور في كتاباته المختلفة تطويراً مهماً على مفهوم (الهيرمونيطيقا) أو التأويل بحسب ما تترجم الى العربية، فبعد أن كانت محصورة باللاهوت والدراسات الخاصة بقراءة الكتب المقدسة، أصبحت نظرية في علم القراءة يمكن إخضاعها لقراءة النصوص بأنواعها كافة..

ان الخطاب يتجاوز النص، وذلك من حيث هو واقعة أو قضية أو خبر، أي من حيث هو وظيفة إسناد متداخلة ومتفاعلة بوظيفة أي هو شيء مجرد، يعتمد على كل عيني ملموس يمثل الوحدة الجدلية بين الواقعة والمعنى في الجملة، وهكذا يمكن اختصار الخطاب في أنه إسناد أو محمول (Predicate) فاللغة كما يقول بنفنست قد تستغني عن الفاعل أو المبتدأ أو المفعول وغير ذلك من المقولات اللغوية ولكنها لن تستغني أبداً عن المسند.

فالخطاب وفقاً لذلك ذو بنية خاصة به، ليست هي بنية التحليل البنيوي، أي بنية الوحدات المنفصلة المعزولة عن بعضها، بل بنية التحليل التأليفي، أي التواشج والتفاعل بين وظيفتي التحديد والإسناد في الجملة الواحدة، وعلى هذا فإن الخطاب يمكن أن يحيل الى ذاته.

لكن ما الذي يضيفه ريكور في معنى التأويل، انه يرى أن التأويلية كنظرية تظلّ محصورة في إطار نزعة نفسانية، حتى وإن لبست لبوس حوار بين الذاتيات المتفاعلة، لذلك ففهم نصّ ما، إذاً، هو حالة خاصة من الموقف الحواري الذي يستجيب فيه شخص ما لشخص آخر سواه.

بعدها ينتقل ريكور للبحث في ثنائية الكلام والكتابة، فمع الكتابة بدأ الفصل والطعن والتفاوت، إذ تتجاهل الكتابة متلقيها، كما تُخفي مؤلفها، وتفصل الناس، تماماً كما تفصل الملكية مالكيها. ويساوي طغيان المعجم والنحو طغيان قوانين التبادل، كما تتمثل في النقود. بدلاً من كلمة الله، صار لدينا حكم المتعلمين وهيمنة الرهبان. إن انشقاق الجماعة الناطقة، وتقسيم التربة، وتحليل الفكر، وحكم العقائد الجامدة، كل ذلك وُلِد مع الكتابة. لذلك ربما بقينا نسمع صدى التذكر الأفلاطوني في هذا الدفاع عن الصوت حاملاً لحضور الذات، ورابطاً داخلياً للجماعة بلا مسافة ولا انفصال.

يبدو موقف ريكور هنا من الكتابة كامتداد للموقف الغربي في تفضيل الكلام على الكتابة، وهو ما رفضه دريدا الذي أعاد مركزية الكتابة وأسبقيتها في الثقافة الغربية في كتابة (الغراماتولوجيا)، لكن إذا كانت الكتابة قد ابتدأت مع الرسم، فإن لاستراتيجية الرسم وظيفة تقوم على أساس إعادة بناء أبجدية بصرية محدودة، وهذه الاستراتيجية في التقليص والتصغير تمنح أكثر من خلال تناولها للأقل. وبهذه الطريقة، يتركز جهد الرسم الأساسي في مقاومة الاتجاه التناقصي في الرؤية اليومية، وبزيادة معنى العالم بالإمساك به في شبكة علاماته المختصرة.

ان مسألة الكتابة تستحضر إشكالية خاصة تتعلق بها، وتتجلى في السؤال الأبدي، كيف يمكن لنا إعادة استحضار الماضي الثقافي على الرغم من المسافة الثقافية التي تفصلنا عنه؟ إن الرومانسيات الألمانية قامت بانعطافة درامية في هذه المشكلة حين سألت: هل في وسعنا أن نكون معاصرين لعبقريات الماضي؟ يبدو السؤال هنا راهناً لنا أيضاً نحن العرب وبالإشكالية الأزلية نفسها، كيف لنا أن نوفق بين التراث والحداثة؟

ان ريكور يجيب عن السؤال الذي طرحه على نفسه بالتساؤل مرة أخرى، كيف يُتاح للمرء أن يستعمل التعبيرات الحياتية التي ثبتتها الكتابة لكي ينقل ذاته الى حياة نفسية غريبة عنه؟

ان هذه المشكلة قد عاودت الظهور بعد تهاوي دعوى هيغل في التغلب على النزعة التاريخية عن طريق منطق الروح المطلقة. ولكن إذا لم تتوافر خلاصة للتراثات الثقافية الماضية، في كلّ يحيط بكل شيء، فتؤخذ من واحدية مكوناتها الجزئية، لذلك فتاريخية نقل هذه التراثات وتخطيها لن يمكن التغلب عليها، ذلك أن الجدل الثنائي والتملك الكلمة الأخيرة في تجريد المعرفة المطلقة.

أما الأساس الأخير الذي تقوم عليه نظريه التأويل فيقوم على ثنائية الاستعارة والرمز، فالأعمال الأدبية تهتم بتوظيف الدلالة، مقابل الأعمال العلمية التي تُفهم الدلالات فيها فهماً حرفياً. والسؤال هنا ما إذا كان فائض المعنى الذي يميّز الأعمال الأدبية جزءاً من دلالتها، أم أنه يُفهم بوصفه عنصراً خارجياً، يقول مونرو بيرد سلي إن الاستعارة هي “قصيدة مصغرة”، ومن هنا فالعلاقة بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي أشبه بنسخة مختصرة في داخل جملة واحدة من الدلالات المعقّدة المتداخلة التي تسمّ العمل الأدبي ككل. والمقصود بالعمل الأدبي هنا هو العمل الذي ينطوي على خطاب متميّز عن أي عمل آخر ذي خطاب، ولاسيما الخطاب العلمي، بكونه يربط المعنى الصريح بعلاقة بالمعنى الضمني.

أما الاستعارات الحية فهي استعارات الابتكار التي تكون فيها الاستجابة للتنافر في الجملة توسيعاً جديداً للمعنى، وإن صحّ القول بالتأكيد أن الاستعارات المبتدعة تتحول بالتكرار الى استعارات ميتة، وفي مثل هذه الأحوال يتحول المعنى الممتد الى جزء لا يتجزأ من مادة المعجم، تسهم في تعدد معاني الألفاظ المعنية التي تتضاعف معانيها اليومية بالنتيجة. فليس في القاموس استعارات حية، وعلى هذا فالاستعارة ليست تزويقاً لفظياً للخطاب، بل لها أكثر من قيمة انفعالية، لأنها تعطينا معلومات جديدة، وبوجيز العبارة، تخبرنا الاستعارة شيئاً جديداً عن الواقع.

رابط

الكتاب: نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى المؤلف: بول ريكور ترجمة: سعيد الغانمي الناشر: بيروت: المركز الثقافي العربي