الرئيسية / الرئيسية / لماذا الشعر الآن؟

لماذا الشعر الآن؟

ا.د.امنة بلعلى

جامعة مولود معمري-تيزي وزو

لماذا يتجلّى الصبح، لماذا الليل ليل؟ ولماذا الوردة تتفتّح؟ ولماذا الفصول؟ لماذا الهواء الآن؟

أسئلة تذكّرنا بسؤال هلدرلين: لماذا الشعراء في زمن الشدة؟ كما تذكرنا بسؤال الكثير من المثقفين: وما فائدة الشعر في زمن العولمة وهيمنة الرواية؟
إذا لم يكن بإمكاننا أن نجيب عن مثل هذه الأسئلة؛ فلأننا ندور في فلك اللامعقول، ونريد أن نبحث عن مبررات خارجية، نسعى من خلالها إلى تحديد ما لا يتحدد، ولذلك كثيرا ما يبقى الإنسان حائرا أمام أسئلة البداهة التي تقتضي الإجابة عنها أجوبة بديهية أيضا.
وقولنا لماذا الشعر الآن، يؤكد سؤال البداهة، غير أنه لا يفترض إجابة بديهية، على الرغم من أن الشعر مرتبط بداهة بالإنسان، ولذلك قال ريتشاردز، إن قراءتنا لقصيدة أو استماعنا إليها لا ينبغي أن يختلف عما نفعله حين نرتدي ملابسنا.
إن عبارة “لماذا الشعر الآن؟،” تفترض احتمالين إما: افتراضا مسبقا، مفاده لماذا يعود هذا الغريب اليوم؟ وإما إقرارا مضمرا يمكن تأويله بقولنا: أتعرف لماذا نحتاج اليوم إلى الشعر؟ وفي كلا الاحتمالين تكون الإجابة، بأن هذا الغريب الذي هو الشعر هو مسكن الوجود وكينونته، ونحن نحتاجه؛ لأننا نحتاج إلى وجودنا بما أن اللغة هي كينونتنا، والشعر لغة اللغة، ولذلك هو يوجدنا، وهو سابق للموجودات كلها.
وعلى الرغم من هذين الافتراضين تبقى عبارة “لماذا الشعر الآن؟” سؤالا معلّقا، لأن السؤال عن الشعر يبقى دوما معلقا و”السؤال المعلق هو معرفة لماذا يمكن لبعض التصورات أن تكون في الوقت نفسه غامضة ومعروفة، وهي سهلة التشخيص مثلما هي مؤهلة لتوليد التهويمات الضبابية” (الكلمة الخرساء ص6 ).
ولعل ضبابية هذا السؤال تنبع من كون كلمة الشعر في هذه العبارة عالقة بين بداهتين، لماذا والآن، واللتين إذا ما تمّ إلحاق الشعر بهما يكون مع الأولى إلحاقا له بالأشياء والموجودات الأخرى، فنبحث له عن تبريرات متأتية من خارج الشعر، ومع الثانية يتم إلحاقه بالزمن، فيصبح السؤال: هل لا بد للشعر من آن؟ سؤال تحقيبي يعيدنا إلى الماضي كما لو أن للشعر زمنا يزدهر فيه، وآخر يخبو فيه. لذلك يصبح الحديث عن الشعر أمرا معقولا، نتحدث عنه باعتباره موضوعا تاريخيا عن دوره ووظيفته وانفصاله عنا وانحساره في الواقع واغتراب الوعي بالشعر وغيرها من المحددات التي تفرض نفسها اليوم ونحن نتحدث لا عن الشعر فحسب بل على الفن بعامة في ظل موجهات ما بعد الحداثة القائمة على التشكيك في مشروعية السرديات الكبرى ومن بينها السردية الكبرى الموجّهة للشعر الذي أصبح اليوم مطالبا بأن يبرّر ذاته، وأن يغير من شكله ويعيد النظر في وظيفته، وكأن الحقيقة التي كان يضطلع بقولها لم تعد مبررا لوجوده.
فما هي الوسائل التي يمكن بها اليوم تبرير وجود الشعر؟ وهل أحسن الشعر ذاته تعديل مبررات وجوده أمام موجهات أخرى وإكراهات شتى هي بمثابة المعيقات التي توحي بوجود أزمة في الشعر، تعقد لها الندوات والملتقيات؟ فهل في الشعر الآن إشكال ؟
مبدئيا يمكن أن ننظر إلى هذا الإشكال من زاوية متعلقة بأسباب ذاتية متعلقة بشخصية الشعر ذاته، وبطاقته الدلالية التي تتجدد باستمرار، فهو كينونة قابلة لإعادة الإنتاج وإعادة القراءة والتأويل، مجرد وعاء لين رخو يمكن ملؤه ، في كل آن، بمعنى جديد ومفهوم جديد، وحمله على تغيير دوره، وأدواته التي يمكن تعديلها في ضوء معطيات جديدة هي معطيات الأنساق الثقافية التي يتغذى منها الشعراء. فيولد الشعر في دواخلهم “فجأة ويختفي في الحبر على مهل وكأنه مزاج في هيأة مجاز” مثلما يرى الشاعر جاسم الصحيح.
منذ خمسينيات القرن الماضي ومع بداية حركة الشعر الحديث، التي كبحت عربة الغنائية الرومنسية والشعر العربي يتكور على ذاته في خنادق الايديولوجيا على الرغم من ثورة لغته ، وانتفاضة إيقاعه. وتعالي صوره. وكان السؤال الإيديولوجي، في الشعر العربي المعاصر فصلا مهما من آنه، وكانت قد قادته رؤى فكرية تناوبت عليه وأسلوبية واقعيه ورمزية بين مد وجزر كان هذا السؤال، وقتها، طبيعيا وكانت دعائمه الأسلوبية منسجمة مع المرحلة الزمنية للكاتب والمجتمع ومنظومة الأفكار الثقافية والسياسية منذ خمسينيات القرن الماضي مع حركات التحرر العربية إلى شعر المقاومة الفلسطينية.
غير أن الإيديولوجي والواقعي ما لبث أن حول وعي الشعراء وأصبح كشف الخلافات السياسية الداخلية وانكسار مشروع البعث والخلاص العربي بين الصراعات السياسية والهيمنة الخارجية، وقد جسدها الشعر في تمثيلات صورت مآلات أخطأتها الدروب.
منذ السبعينيات كان هناك جنوح نحو التجريب، وظهرت قصيدة النثر، وتناثر الشعراء والشاعرات في حماها يأنفون من القواعد المسبقة. ويستقون آلياتهم من المخيال الجديد الذي بدأ يتشكل مع التوصل مع قيم ما بعد الحداثة التي تتكاثر وتتناقض، وخاض الشعراء فيه تحت تخدير الحداثة والتحديث والثورة والكشف والكتابة على غير مثال سابق. لنشهد نزوعا في تمثيل ما بعد الحداثة في شقّها العدمي الذي يقوض قوانين الكتابة، ويحتفي باللامعنى ويؤسس للتشظي والتعمية واللغة اللامعقولة. والنثرية المبتذلة، والخاطرة المخلة بما يخطر في بال الشعراء.
ونشهد اليوم ما يشبه التآمر ليس على القيمة الشعرية فحسب بل على القيم كلها واستبدال سرديات بسرديات أخرى، سرديات تدخلنا في نوع من الميتافيزيقا الجديدة التي أنست الإنسان المعاصر وجوده، بزحام الخطابات المختلفة، ولذلك فسؤال “لماذا الشعر الآن؟” يعيدنا إلى اللحظة التي سقط فيها الاختلاف الأنطولوجي بين الوجود والموجود في النسيان” (الفن والحقيقة ص50)
فإذا لم يكن الشعر قادرا على التفاعل مع قيم العولمة والعنف، ولا يمكن له ذلك لأنه من أكثر الفنون مقاومة لقيم العولمة وموجهات ما بعد الحداثة، فإنه لم يبق إلا الحوار والتفاعل مع قيمه، وتفعيله في الواقع بتشجيع الشعراء وإعادتهم إلى الواجهة، ليعيدوا للشعر ألقه وماءه، ويكون كفيلا بحمل الإنسان إلى العودة إلى القيم الإنسانية وإلى أخلاقيات التواصل التي كرست في سالف الزمان مع الشعر باعتباره وسيلة عطف القلوب على القيم المثلى، وإعادة الحياة لقيم الخير والجمال والحب وهي القيم التي يحتاجها الإنسان اليوم، وهي إجابة تبرّر سؤالنا لماذا الشعر الآن؟

كلمة الدكتورة آمنة بلعلى في المنتدى الثقافي الجزائري بمناسبة اليوم العالمي للشعر في 21 مارس 2021