الرئيسية / الرئيسية / قراءه منهجيه لكتاب (نظام التفاهة) للفيلسوف الكندي المعاصر ألان دونو

قراءه منهجيه لكتاب (نظام التفاهة) للفيلسوف الكندي المعاصر ألان دونو

د.صبري محمد خليل/

 

أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم

تمهيد 

“نظام التفاهة” (Mediocratie) هو كتاب صدر لأستاذ الفلسفة والعلوم السياسية الكندي ألان دونو، وسنعرض أولا للفكرة الاساسيه للكتاب ، استنادا إلى التلخيص الشامل والوافي لها ، والذي قدمه الأستاذ /جان عزيز، ثم نقدم قراءه منهجيه لهذه الفكرة.

سيطرة التافهون على العالم 

يؤكد ألان دونو أن التافهين قد حسموا المعركة، من دون اجتياح الباستيل (إشارة إلى الثورة الفرنسية) ، ولا حريق الرايخشتاغ ” البرلمان الالمانى ” (إشارة إلى صعود هتلر في ألمانيا) ،ولا رصاصة واحدة من معركة «الفجر» (إشارة إلى المعركة الأسطورية بين بونتا و براكمار)، ،ربح التافهون الحرب ،وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه.

حلول القابلية للتعليب محل التفكير العميق

ويعطي ألان دونو نصيحة فجّة لناس هذا العصر- من باب السخرية- (لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً. فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة. فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة – اى مرونة وقابليه للتشكل- وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن. فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة).
أسباب سيطرة التافهون على العالم: وحين يسأل عن أسباب هذا التحول، يعيد ذلك إلى عاملين اثنين، في السوسيولوجي والاقتصاد، كما في السياسة والشأن العام الدولي.

السبب الأول: تغير مفهوم العمل(تنميط العمل تشييئه)

السبب الأول يعزوه دونو إلى تغير مفهوم العمل في المجتمعات. يقول إن «المهنة» صارت «وظيفة». صار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير. يمكن أن تعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك. يمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه. أو تبيع كتباً ومجلات وأنت لا تقرأ منها سطراً. انحدر مفهوم العمل إلى «المتوسط». وصار أشخاصه «متوسطين»، بالمعنى السلبي للكلمة. صار العمل مجرد أنماط. شيء ما من رؤيوية شابلن في «الأزمنة الحديثة» أو فريتز لانغ في رائعة « مترو بوليس ».

السبب الثاني: السياسة(حكم التكنوقراط واستبدال الاراده الشعبية بالمقبوليه الاجتماعية)

السبب الثاني مرتبط وفق دونو بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام. هنا بدأت سيطرة التافهين يقول، أو ولدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر. يقول انه يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم. استبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة»، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بمقولة «الشريك». في النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا. وصارت الدولة مجرد شركة خاصة. صارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد. وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة «زمرته».

قاعدة النجاح أن «تلعب اللعبة»

يقول ألان دونو انه في ظل نظام التافهين تحول النجاح “أن تعلب لعبه:من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم. وصارت قاعدة النجاح فيها أن «تلعب اللعبة». حتى المفردة معبرة جداً وذات دلالة. لم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية. هي مجرد «لعبة». حتى أن العبارة نفسها راجت في كل لغات عالم التفاهة: «أن تلعب اللعبة». وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نص لها. لكن يعرفها الجميع: انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغداءات والانتقامات. بعدها يصير الجسم فاسداً بشكل بنيوي قاطع. حتى أنه ينسى علة وجوده ومبادئ تأسيسه ولماذا كان أصلاً ولأية أهداف…

الخبير أفضل تجسيد لنظام التفاهة

يقول دونو ان الخبير أفضل تجسيد لنظام التفاهة ، صورة «الخبير» هو ممثل «السلطة»، المستعد لبيع عقله لها. في مقابل «المثقف»، الذي يحمل الالتزام تجاه قيم ومثل. جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة ان «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات». لا مكان للعقل النقدي ولا لحسه. أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، من أن وظيفته هي أن يبيع للمعلن، الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين. صار كل شيء، والأهم أن الإنسان صار لاكتفاء، أو حتى لإرضاء حاجات «السوق».

نظام فاشل بيئيا وظالم اجتماعيا

هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين. نظام يضع ثمانين في المائة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم. ويسمح لخمسين في المائة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكراً على واحد في المائة من أثريائه. كل ذلك وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان.
كيفيه مواجهه نظام التافهين:
ا/ لا وصفه سحريه(استغلال الحرب على الإرهاب):

وفى الاجابه على السؤال :كيف يمكن مواجهة نظام التافهين ؟ يقول دونو: ما من وصفة سحرية. الحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين. جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية. بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها. إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة.

ب/ مقاومه التجربة والإغراء واعاده معاني الكلمات إلى المفاهيم والتلازم بين الفكر والعمل

المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق. ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا. بل المفاهيم الكبرى. أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام… وأن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل. فلا فصل بينهما. الأساس أن نقاوم (جان عزيز:سياسة /العدد ٢٧٩٣/ الخميس ٢١ كانون الثاني ٢٠١٦- موقع الإخبار).
قراءه منهجيه:
نظام التافهين هو مرحله من مراحل تطور النظام الاقتتصادى الراسمالى

من العرض السابق يتضح لنا أن نظام التافهين و سيطرة التافهين على العالم هو مرحله من مراحل تطور النظام الاقتصادي الراسمالى كانت بدايتها عهد مارغريت تاتشر – رئيسه وزراء بريطانيا عن حزب المحافظين–وتميزت هذه المرحلة من مراحل النظام الراسمالى بحكم التكنوقراط واستبدال الاراده الشعبية بالمقبوليه الاجتماعية وتنميط العمل تشييئه .ومن هذا التحليل يتضح لنا أن نظام التافهين ولد في الدول الغربية الراسماليه، ،ولكن يمكن أن نستخلص منه انه يشمل أيضا الدول النامية ودول العلم الثالث، التي تطبق النظام الاقتصادي الراسمالى تحت شعارات : الانفتاح الاقتصادي، الإصلاح الاقتصادي ، الخصخصة ، التحرير الاقتصادي، الليبرالية الجديدة…..فهو نظام عالمي يشمل الدول المتقدمة والنامية على حد سواء .

موقف الراسماليه السلبي من الضوابط الاخلاقيه للسوق سبب رئيسي لنظام التافهين:

وفيما يتعلق بأسباب ارتباط نظام التافهين بالنظام الراسمالى نرى أن السبب الاساسى هو موقف النظام الاقتصادي الراسمالى السلبي من الضوابط الاخلاقيه والقانونية للسوق ، فالراسماليه قائمه كنظام اقتصادي ليبرالي استنادا إلى فكره القانون الطبيعي- على أن مصلحه المجتمع ككل ستتحقق حتما ، من خلال محاوله كل فرد تحقيق مصالحه الخاصة،اى دون تدخل الدولة كممثل للمجتمع ، وطبقا لهذا فان الموقف الليبرالي – الراسمالى من ضوابط السوق قائم – على المستوى النظري- على عدم فرض اى ضوابط أخلاقيه أو قانونيه على السوق ، اتكالا على أن ثمة قانون طبيعي بنظم تلك السوق، ويحملها على وجه يجعلها تؤدى وظيفتها تلقائيا،فالنظام الاقتصادي الراسمالى يجعل الغاية من النشاط الاقتصادي هي الربح ومزيد من الربح ، ولا يهتم كثيرا بأخلاقيه او عدم أخلاقيه الوسائل ، ومن هنا يتيح هذا النظام الاقتصادي لمن لا يلتزمون بالقيم الاخلاقيه في النشاط الاقتصادي ، أمكانيه التقدم ، أكثر من غيرهم ممن يحاولون الالتزام بالقيم الاخلاقيه في النشاط الاقتصادي.وفى ظل هذا النظام الاقتصادي تصبح الانانيه والطمع والخداع “النصب والاحتيال” قيم ايجابيه . هذا فضلا عن أن هذا النظام الاقتصادي يتيح لقلة من الرأسماليين السيطرة على الاقتصاد ،ومن ثم السيطرة على الإعلام وتزييف الاراده الشعبية. غير انه يجب تقرير انه على المستوى التطبيقي اثبت واقع المجتمعات الراسماليه الغربيه ذاته خطاْ هذا الموقف الراسمالى السلبي من الضوابط القانونية والاخلاقيه للسوق ،إذ قبل أن ينتهي القرن التاسع عشر حتى كانت ضرورة وضع ضوابط أخلاقيه وقانونيه مسلمه في كل المجتمعات الغربية ، وان اختلفت في حدود هذه الضوابط ومداها ، ذلك أن المنافسة الحرة في النظام الاقتصادي الراسمالى في المجتمعات الغربية قضت على حرية المنافسة لتنتهي إلى الاحتكار ، اى أن التجربة أثبتت أن ترك كل فرد يفعل ما يشاء سينتهي إلى أن لا يستطيع الاغلبيه فعل ما يريدون.