الرئيسية / الصراع السياسي والصراع الديني

الصراع السياسي والصراع الديني

في أجواء الحروب المذهبية والطائفية التي انفجرت في المنطقة بفعل التنظيمات الإرهابية واعتنقتها الدول العربية “الرئيسية” في المشرق والخليج ارتأينا أن نعيد نشر هذا المقال الذي سبق نشره الموقع بتاريخ السبت 08 ديسمبر 2012 مقدرين أن الأفكار التي وردت فيها ما تزال راهنة.

عاشور فني

ضحالة مستوى الثقافة السياسية يجعل كثيرا من الجمهور يتصور أن الصراع السياسي (من أجل السلطة) هو صراع ديني (بين الخير والشر وبين الصواب والخطأ). والواقع أن من يستعمل الدين في الصراع السياسي يثبت انه يستغفل الناس وانه لا يملك برنامجا سياسيا وأن وجوده في عالم السياسة صدفة. ومن الضروري خروجه منه ليستقيم الأمر. الصراع السياسي صراع رؤى وأفكار وبرامج وليس صراعا دينيا. تحويل الصراع السياسي إلى صراع ديني جريمة تعبر عن ضعف المجرم ومكره .يشمل الصراع الديني الصراع المذهبي والطائفي والعقائدي.

فالصراع الديني صراع مطلق: العداء فيه أعداء عقيدة وأعداء وجود لا يمكن لأحدهم أن يكون إلا بالقضاء على الآخر. أما الصراع السياسي فنسبي: صراع خصوم متنافسين يمكنهم التعايش ولكن لكل منهم رؤية وبرنامج حكم يسير به الشأن العام يختلف عن برنامج الخصم وإن كان الاختلاف لا يمس أساس الوجود مما يسمح بتعايش المتخاصمين. الخصوم السياسيون قادرون على الاتفاق على مبادئ تحكم خلافهم وتتيح لهم التعايش مع الاختلاف. العداوة الدينية تتسع لتشمل مبادئ الخلاف نفسه. يصبح التعايش مستحيلا.

الصراع الديني صراع مطلق: العداء فيه أعداء عقيدة ومبدا واعداء  وجود .لا يمكن لأحدهم أن يكون إلا بالقضاء على الآخر. أما الصراع السياسي فنسبي: صراع خصوم متنافسين يمكنهم التعايش ولكن لكل منهم رؤية وبرنامج حكم يسير به الشأن العام يختلف عن برنامج الخصم وإن كان الاختلاف لا يمس أساس الوجود مما يسمح بتعايش المتخاصمين. بل وتداولهم على الحكم. وقبول انتصار الخصم السياسي والاعتراف به. الخصوم السياسيون قادرون على الاتفاق على مبادئ تحكم خلافهم وتتيح لهم التعايش مع الاختلاف. العداوة الدينية تتسع لتشمل مبادئ الخلاف نفسه. يصبح التعايش مستحيلا. وانتصار الخصم يعني الاندحار. لذلك يترتب على تحويل الصراع السياسي إلى صراع ديني العناد والمكابرة وعدم التفاوض. يصبح التفاوض مع الخصم السياسي بمثابة التعاون مع العدو:خيانة.

التيارات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم في تونس وليبيا ومصر لا تجربة لها في السياسية: إما كانت مشردة أو منفية او محرومة من حقوق المواطنة. إدارة الدولة تحتاج إلى نوع آخر من الخبرة السياسية.

لأكن واضحا منذ البداية: لست مناضلا في قضية سياسية وليس لهذه الأفكار هدف عملي مباشر. قضيتي هنا هي العقل. هل يمكن أن نفهم ما يجري فهما عقليا دون تفسيرات غيبية ولا ظنية. ما يجري أمامي من تشنج يحتاج إلى عقلنة. هذا ما أحاوله. لا أرى أن ذلك يكون مفيدا للمناضل الذي بحث عن صيغة مباشرة للتأثير على الأحداث. لكنه يفيد في توضيح الرؤية. أحتاج إلى أرى بوضوح.

وما أره اليوم هو تحول الصراعات السياسية التي بدأت مع الحراك الاجتماعي الجاري في بعض البلدان العربي إلى صراع ديني. كان صراعا سياسيا مع مستبد وقد سمح ذلك للجميع بالمشاركة على أسس المصلحة المشتركة والمواقف الواضحة من الاستباداد الذي كان يحكم بأسماء مختلفة (من بلد إلى آخر) ثم فجأة تحول كل ذلك الزخم السياسي إلى صراع من طبيعة أخرى عندما تعلق الأمر بتولي الحكم وتأسيس نظام يخلف النظام السابق؟ أهي مسألة المصير تخيف الجميع؟ أهي حداثة التجربة؟ أهي ضحالة الثقافة السياسية؟ أهي ضعف التجربة؟

المشكلة أن هذا التحول عام ولا يستثني أحدا: لقد لمسنا ذلك التحول في الممارسة السياسية عند التيارات الدينية وغير الدينية ايضا فهل هي مسالة اجتماعية؟ بمعنى أن المجتمع لا يقبل السياسة أي إدارة الشأن العمومي- إلا في باعتبارها إقامة للشرع لا دفاع عن المصالح المادية ؟  فهل السياسة في بلداننا ما تزال لها صبغة دينية؟ الخصم فيها عدو مطلق لا يجوز التعامل معه؟ وحتى إذا قبلنا هذه الفرضية فإن الأمر في غاية الخطورة: لقد كنا نعرف إلى زمن قريب  أنه حيث تكون المصلحة فثمة شرع الله؟ ولم يكن أي هناك تعارض بين تحقيق مصالح الناس والشرع، فلماذا انقلبت الآية الآن؟

بل إن مقاصد الشريعة عند الإمام الشاطبي هي نفسها مقاصد السياسة الشرعية: حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ الدين …وحفظ النسل. لقد حكم الشاطبي عقله في النص واستخرج مبادئ لم يستخرجها أحد قبله. مبادئ تفسر أحكام الشريعة نفسها.  فلماذا نجد هؤلاء يكفرون من يفكر اليوم؟ أم أنهم في حاجة إلى من يتبعونهم لا إلى من يفكر ويطرح الأسئلة؟ هم في حاجة غلى مؤمنين لأنهم أئمة ليسوا في حاجة إلى من يسأل ويفكر ويشارك بالرأي. لأنهم ليسوا سياسيين. اكتملت الدائرة. المصلحة حيث تكون الشريعة. ذلك هو شعارهم. الشريعة طريقه إلى الحكم…من يحاول نزعهم من الحكم فهو ضد الشريعة. هذه ليست ممارسة سياسية على الإطلاق.

في النظم السابقة تم تحويل الممارسة السياسية إلى ممارسة بوليسية للسلطة من قبل المستبد. في بعض الأحيان تصبح الممارسة السياسية تقتصر على المشاركة في الانتخابات. وهذه الأخيرة تحولت إلى ممارسة أقرب إلى ممارسة التجارة غير المشروعة. كتبت في شهر جوان الماضي أن الانتخابات التشريعية أسست لنظام الفساد. أما هذه الانتخابات المحلية الأخيرة فقد كانت أقرب إلى الممارسة غير المشروعة مع احترامي لكل من ترشح فيها أو أنتخب من باب السعي للإصلاح.  لكن الخطر من كل هذا هو ما يجري حاليا في ظل النظم التي خلفت النظم السابقة: تحويل الممارسة السياسية إلى نوع من الممارسة غير المدنية. طقوس دينية من انحرف عنها خرج من الملة. بدأ ذلك بإصدار الفتاوى من أجل القيام بالثورة ثم بجواز دخول المحتل ثم بوجوب الخروج للتظاهر ضد الحاكم في الجمهوريات وعدم جواز ذلك في الممالك والمشايخ والسلطنات. فتوى دينية في شؤون مدنية عمومية حولت سلوك التظاهر الذي يقوم به الناس في كل  بلاد الناس إلى سلوك ديني يحتاج إلى رأي فقيه في الدين. ثم ها هي الأمور “تتطور” فيصبح الشيوخ وأتباعهم هم أفضل المرشحين ولو لم تتوفر فيهم أدنى شروط الحاكم بمقتضى الشريعة ذاتها. ثم يصبح هؤلاء يجسدون الشريعة ومن ناقشهم فقد خرج من الملة. هناك خلل في المجتمع لا في البنية السياسية

تراودني الآن فكرة جهنمية: إن المجتمعات التي قبلت بالحكم المستبد 50 سنة لم تقبل به لأنها لم تقدر عليه. بل قبلت به لأنه يناسب فكرها. بل هي التي شكلته على صورتها. وثارت عليه الآن لأنها وجدت من هو أكثر استبدادا منه.

لا بد من العمل لتأسيس ثقافة سياسية أخرى

 

كل السياسيين الكبار في العالم يعلنون عن مواقف قد يتراجعون عنها ويعلنون عن ذلك في مؤتمرات صحفية وقد يستقيلون من مناصبهم ليعودوا للانتخابات ويكون لتلك المواقف صدى في بلدانهم وعلى مستوى العالم. وأكثر من ذلك يمكنهم تشكيل تحالفات مع خصومهم السياسيين إذا لزم الأمر.هذا هو العمل المدني.