الرئيسية / الرئيسية / السبّيبة: تراث ثقافي عريق

السبّيبة: تراث ثقافي عريق

“السبّيبة” تنشط السياحة الثقافية في جنوب الجزائر

على الرغم من كونها مناسبة تراثية محلية، غير ممارسة في مناطق الشمال الجزائري، فإن “السبّيبة” تجتذب السواح الأجانب، وتساهم في الترويج للسياحة الثقافية في الجزائر، وتصنع بهجة التوارق في تلك الصحراء الشاسعة من الجنوب الكبير..
يتوافد جمهور “السبيبة” منذ الصباح الى مضمار العرض ببلدة إفري، المتاخمة لمدينة جانت، يأتون اليها من مدن مجاورة وبعيدة، وتعمُر الفنادق والبيوت التارقية في الليلة التي تسبق العروض بالسواح.
الميدان عبارة عن مساحة كبيرة مستطيلة، تحيطها بعض الحواجز الصغيرة التي ترسم حدود المضمار، يطف الناس حولها لمشاهدة الفرق التي تتنافس على لقب أحسن فرقة، أما من لا يستطيع الوقوف فبإمكانه أن يجلس على سور من الرمل، يقيمه المنظمون للنساء والأطفال خصوصا.
 أيام موسى عليه السلام
ويرى القاسم أبو القاسم، من فرقة حي الميهان، أن السبيبة كلمة تراثية، “تعني اعتقادا موروثا قديما جدا”، وأنها “تظاهرة تعود إلى أزمان غابرة”. أبو القاسم يعرف الكثير عن هذا الفلكلور، وعن تاريخه يقول: “الأشهر عن قصة تظاهرة السبيبة أنها احتفال خاص من التوارق بموت فرعون ونجاة النبي عيسى عليه السلام، إنها –بالنسبة الى التوارق- “أيام موسى”، ولأن “مواجهات حدثت بين النبي وأتباعه وبين عدوهم فرعون، فإننا نحيي هذه التظاهرة بإقامة احتفالات حربية، هي عبارة عن حروب فنية، لا تسيل فيها الدماء، بل تؤدى عن طريق رقصات تعيد تمثيل ذلك اليوم الغابر، إننا نقلد تلك المواجهات بين النبي وغريمه بالفن، بالكلمات، بالقصائد، وبالرقص والغناء”.
ويتابع قائلا: “هذه مناسبة عريقة جدا، تعتبر من أبرز التظاهرات التي تتخذ من الحروب موضوعا لها، هناك من العديد من الروايات التي اختلفت حول أصل هذه الاحتفالات وحيثياتها، وسوف لن نأخذ بأي من تلك الروايات، بل سننظر الى تقاليد المنطقة، إننا نقوم بالتحضيرات منذ 10 أيام، وفي اليوم العاشر، أي يوم عاشوراء نقيم احتفالاتنا. اننا نحتفل بهذه التظاهر بإقامة حروب ولكنها حروب فنية، تعبر بلقطات عابرة وبحركات معينة عن رموز عديدة، وتتضمن قصائد عدة، تحوي كلمات وتعابير تضرب عميقا في الأصالة والتراث”.
على الرغم من تفتحهم الكبير على الآخر، واحترامهم الشديد لثقافته، فإنهم في المقابل يحرصون على المحافظة على تراثهم، ويعملون على تخليده على مر الزمن، وفي ذلك يقول ابو القاسم: “من أجل كل ذلك جلبنا الأطفال الى ساحة الاحتفال، وذلك كي ينشأوا على التمسك بالتقاليد، والعمل على توريثها للأجيال اللاحقة”. وعن العروض الجميلة التي قدمها الأطفال خلال السبيبة، يقول: “الأطفال مدربون على الرقص جيدا، فخلال الأيام التسعة التي تسبق السبيبة، نصطحبهم معنا الى التدريبات، ونقوم بتعليمهم إياه، لينشأوا على حب التراث ويكون لهم ذخرا في المستقبل.. من الضروري أن يشارك الاطفال في الموروث والحفاظ عليه، هناك من الأولاد من عجز عن التعلم والمشاركة، ولكن صغارا كثيرين اختاروا مواصلة الدرب والسير على خطى الآباء”.
 فلكلور مميز
هناك تسميات عديدة للرقصات والحركات ومظاهر الاحتفال باللغة التارقية، صعب جدا شرحها باللغة العربية، يقول أبو القاسم، منها “اسكتّر”، وتعني الاتجاه، “تارد” وتعني رفع القدم، “إيزيرن” وتعني هز الأكتاف. وينقسم الرقص الى قسمين: هناك راقصون يعتمرون قبعات وهم مخيرون، لأنهم يتعلمون الرقص من خلال مشاهداتهم الطويلة للرقصات التي تجري على الميدان، أما البقية فهم القائمون بهذا النوع الفلكلوري من الرقص، وأما النساء فيتخصصن في الغناء، وهن أيضا يخضعن إلى تدريب خلال الأيام التسعة التي تسبق يوم السبيبة.
من جهته، يقول العيد بكّر، وهو مؤدي رقصات فلكلورية من فرقة الميهان أيضا، أن ثياب الرقص تتضمن عدة قطع، فالقطعة الداخلية السفلى عبارة عن سروال تقليدي فضفاض، يسمح بمرور الهواء الى جسم مرتديه، ويمنع عنه الحرارة الشديدة، والقطعة الداخلية العليا عبارة عن قميص أبيص، طويل الأكمام، فضفاض أيضا، وذلك لمنع احتباس الهواء عن جسم الراقص، ثم عباءة بأكثر من قطعة، تحوي اللونين الأبيض والأسود، الذين يعبران عن التضاد والتناسق في آن واحد، إضافة الى شملة وشاش، وقبعة الرقص التي تزينها قطع الفضة المربعة والمثلثة.
تستعرض الفرق مهاراتها في الرقص والغناء، يتخذ كل منها ركنا من الميدان، ثم تتوازى الرقصات وتتقاطع.يحاول الرجال تقيدم افضل العروض، فيما تحاول النساء تقديم اجمل الاغاني واعذب الأصوات. الناء المغنيات يضربن على دفوف محلية، بواسطة عصا معقوفة تصنع خصيصا لذلك، وينقسمن الى قسمين، قسم يقف على جانب الميدان، ويحيي الراقصين بقصائد وزغاريد، وقسم آخر يجول مع الراقصين، يرافقهم بالأغاني والنقر على الدف، وغناء قصائد معروفة لا تؤدى الا في هذا النوع من الاحتفالات.
تتنوع الرقصات، فمن رفع للسيوف وأداء حركات ذات معنى بها، الى التلويح بالمناديل، ومن الرقصات التي تؤدى مشيا، الى الدوران في مكان واحد، مع التفنن في تقديم مهارات جسدية تعبيرية، دون الخروج عن التقاليد المتعارف عليها.


بدورها، تتنوع الاغاني وتتغير كل بصعة دقائق، وهي غالبا مقاطع باللغة التارقية، مؤلفة من أشعار وأهازيج، من مقطع واحد أو اثنين في المجمل.
ترتدي المغنيات زيا موحدا: ملحفات “تسغنس” سوداء من اقمشة رفيعة، او مزركشة بألوان، ويضعن الزينة التقليدية، التي يغلب عليها اللون الأسود، وهي مساحيق خاصة تصنع محليا، غامقة اللون، تضفي على جمال المرأة التارقية السمراء جمالا أخاذا خاصا، كما يخضبن أكفهن بالحناء. على الرأس هناك دوما غطاء رقيق من قماش فاخر، أما الحلي الكثيرة التي تتين بها المرأة التارقية المغنية فهي من الفضة،يصنع معظمها على شكل مثلثات.
الراقصون كلهم رجال، يعتمرون في الغالب قبعات طويلة، من اللون الأحمر القاني، مزين آخرها بذوائب صوفية كثيفة، أما مقدمتها فعامرة بالزينة الفضية، وهناك راقصون يعتمرون العمائم التارقية، التي تصنع من قماش فاخر خصيصا للمناسبات، تلف على الجبهة بطريقة خاصة.
 السبيبة تجذب السواح
يأتي السواح الى السبيبة، مهم مبهورون تماما بهذه المناسبة، وحسب بعض من التقتهم “وقت الجزائر” فإن السواح الأجانب –أروبيون في غالبيتهم- حرصوا دوما على التشبع بالتقاليد القديمة، ومنها التقاليد التارقية، وحرصوا على حضور المهرجان ومهرجانات محلية أخرى في كل سنة، غير أن تدهور الأوضاع الأمنية في دول الجوار (حيث تقع جانت في نقطة تماس مع أكثر من دولة) أثر كثيرا على خيارات السواح، وأتت حادثة تيقنتورين لتؤزم الأمور.
لكن السواح عادوا هذه السنة، بحماس أكبر، اعتمروا هم اأيضا الشاش التارقي، ولبست بعض النساء الاوربيات الملابس المحلية، وعملوا على التقاط صور أكثر، والسؤال عن هذه التظاهرة الثقافية، حيث أثارت الرقصات التعبيرية إعجابهم، على الرغم من عدم فهمهم للكلام المصاحب لها، ولم يفوتوا الفرصة للطواف في السوق الكبير بمدينة إفري، لاقتناء المصنوعات اليدوية التارقية، النابعة كلها من أصالة هذا الشعب الذي أنجبته الصحراء، وثقافته المشبعة بالإنسانية والكرم.


مريم، سيدة من تامنراست، التقتها “وقت الجزائر” في بلدة برج الحواس، تحدثت عن السبيبة كحدث اجتماعي وثقافي وديني في آن واحد قائلة: “حرصت دوما على حضور السبيبة منذ طفولتي، إنها حدث لا يمكن أن يفوّت، وقد كنت آتي مع عائلتي من تامنراست حتى جانت لحضورها، والتشبع بقصص التراث والقصائد المغناة، إلى أن تغيرت حياتي عندما أصبحت أما، وصارت واجباتي العائلية تحد من قدرتي على التنقل وحضورها، ولكنها تبقى المناسبة الأبرز التي تجمع ما استطاعت من أبناء الصحراء”.
نســـاء أخريات من خــــــارج مدينة جانت أبدين اهتمامهم الكبير بأن ينشئن أبناءهن على حب الـــتراث ككل، والســـبيبة بشكل خاص. أما أرقام الســـيارات التي كانت مركونة قريبا جدا من ميدان السبيبة، فأشارت الى أن السبيبة قد اجتذبت سواحا جزائريين من ولايات كثيرة، منها العاصمة والبليدة وجيجل.

روبورتاج وتصوير: خالدة.م